أمّا التّبرّعات السّخيّة الّتي أثبتت فعلا أنّ الأمّة ما تزال بخير، فإنّ الدّفع بها عبر القنوات الرّسميّة والحكوميّة أمر مشكوك فيه، فالحكومات محكومة بأوامر وشروط أمريكيّة وقوانين أملتها ما يُسمّى بالأمم المتّحدة،
والسّؤال في ذلك هو: هل تصل هذه التّبرّعات الضّخمة إلى مظانّها الصّحيحة أم لا؟ هل المؤسّسات الحكوميّة تضع هذه الأموال في يدّ الشّعب الفلسطينيّ بحقّ، أم أنّ لما يسمّى بالمجتمع الدّوليّ يدٌ في طريقة نفاذها لمستحقّيها؟ وها نحن قد رأينا وشهدنا عبر القنوات الإعلاميّة الكمّ الهائل من المساعدات والموادّ الغذائيّة والطبّيّة ما تزال محبوسة عند المعابر حتّى فسد الكثير منها.
وسؤال آخر أطرحه هنا: كم حجم التّبرّعات الّتي قُدّمت لفلسطين خلال العقود الثّلاثة الأخيرة فقط؟ وأين ذهبت؟ والجواب أخبرنا به إسماعيل هنيّة عندما وصل إلى الحكومة حين قال: "وجدنا خزائن فارغة" !!!
إنّنا لا نقلّل من أهمّيّة التّبرّعات للفلسطينيّين، لكن يجب أن نتأكّد من أنّها تصل لمستحقّيها، وفي تقديرنا أنّ المؤهّل الأوّل لهذه المهمّة هي بعض المؤسّسات الأهليّة الموثوق بها.
ومع ذلك، ومع هذا الكمّ الهائل من التّبرعّات والمظاهرات فإنّ الإخفاق ما يزال يلازمنا، وما يزال العدوّ ينكّل بنا ويمارس معنا أخسّ أنواع التّعامل في سبيل تحقيق مآربه، ألا يدعونا ذلك إلى أن نبحث عن سبل أخرى للخروج من هذه الدّوامة؟!.
الانزياح عن دوائر الإخفاق:
لا نريد بمحاولتنا لإيجاد الحلّ العملَ على تأطير الرّؤى العميقة الّتي تعيد للأمّة مكانتها، والمتمثّلة في النّظريّات المثاليّة الّتي قد لا نختلف عليها من حيث العموم، كنظريّات التّغيير الفكريّ والتّصحيح العقديّ والتّربية الأخلاقيّة والسّلوكيّة للأفراد وغيرها من النّظريّات طويلة الأمد، لكنّنا نبحث عن الحل العاجل الّذي يحقن دماء أمّةٍ يراد لها أن تُباد عن بكرة أبيها، وهي حلول ميدانيّة تردع ذلك العدوّ الغاشم الّذي يجثم على صدورنا منذ عقود طويلة.
وأنا لا أزعم أنّي سأضع الحلول النّاجعة والخطط السّديدة الّتي يجب على الأمّة أن تترسّمها للخروج من هذه الأزمة، حيث نعتقد أنّ ذلك مهمّة أصحاب الخبرة والعمل الميدانيّ وقادة الرّأي وعلماء الأمّة، لكن ما أريد الإشارة إليه هو أمر مهمّ في نظرنا وهو أنّ أيّ تحرّك يجب أن يتّسم بصفتين مهمّتين:
الأولى: يجب أن يكون هذا التّحرّك مُنْبَتّا ومنفصلا عن الأنظمة والحكومات، فحكوماتنا محكومة بتحالفات إستراتيجيّة، واتّفاقيّات أمميّة، وقرارات دوليّة، تمنعها من اتّخاذ أيّ خطوة خارجة عن موافقة ومباركة ما يسمّى بالمجتمع الدّوليّ، وهاهي هذه الأزمة – وهذا ومن إيجابيّاتها – قد أرتنا كيف أنّ قادة الدّول الإسلاميّة برمّتهم لا يستطيعون عقد قمّة موحّدة بله أن يفعلوا ما ينقذ الفلسطينيّين من الموت المحدق بهم.
أمّا الصّفة الثّانية: فإنّ هذا التّحرّك يجب أن يكون تحرّكا عسكريَّا، لأنّ العدوّ لا يمارس معنا إلاّ لغة القتال والإرهاب والحرب منذ الأزل، إنّه لم يغْزُنَا ثقافيّا ولا فكريّا ولا تعليميّا، ولم يحكمنا بمعاهدات أو اتّفاقيّات، بقدر ما احتلّنا احتلالا عسكريّا سافرا وغاشما يحرق الأخضر واليابس، وها هي أمريكا تفرض عقوباتها وتحرّك جيوشها لكلّ من يعارضها أو يقف ضدّ أطماعها، وما العراق وأفغانستان عنّا ببعيدتين، والبقيّة قد تأتي.
إنّنا نؤمن أنّ هذا الوقت هو وقت تحرّك الشّعوب منفردةً، وأنّ القرار النّهائيّ لكلّ أزمات الأمّة يكمن في يد الشّعوب الّتي يجب أن تكسر الشّرانق المقيتة الّتي بُنيت حولها منذ أمد.