غزة والانزياح عن دوائر الإخفاق

 

غزّة ..
والانزياح عن دوائر الإخفاق

خليفة بن عربيّ
أكاديميّ وكاتب بحرينيّ

الأزمات الّتي تمرّ بها الأمم والشّعوب هي استمرار لسنن الله الكونيّة على خلقه، وبقدر ما تكتسب الشّعوب من عوامل الثّبات والقدرة على مواجهة الأزمات يكون صمودها، أمّا إذا تخلّلتها الآفات والأمراض المجتمعيّة والفكريّة فإنّها لا تلبث وأن تنهار لأقلّ أزمة قد تصادفها، فحجم الأزمة ليس هو الإشكال، إنّما الصّمود والوقوف أمامها هو مقياس صحّة الأمم من اعتلالها.


إنّ ما يحدث في غزّة الآن قد أثبت – بلا ريب – أنّ الشّعب الفلسطينيّ شعب لا تقهره المحن، على الرّغم من فداحة الوسائل الّتي استخدمها العدوّ ضدّهم، وعلى الرّغم من تكالب ما يسمّى بالمجتمع الدّوليّ برمّته على هذا الشّعب الأعزل الّذي شُكّل عليه حصار قاسٍ مادّيًّا ومعنويّا، لكنّه ما يزال ينافح ويقاوم ويفرض نفسه على أرض الواقع.


إنّ أزمة غزّة الحقيقيّة لا تكمن في أهل غزّة أو في حماس أو في الفلسطينيّين الّذين برهنوا أنّهم أكبر من كلّ الأزمات، لكن أزمة غزّة الحقيقيّة تكمن فينا نحن الشّعوب الإسلاميّة، فنحن جزء أساس من أجزاء هذه الحالة الرّثّة من الانسداد، فإذا نظرنا إلى ما تمارسه الشّعوب الإسلاميّة من ممارسات في هذه الأزمة سنرى أنّها لا تختلف عن كلّ أنواع الهياج والإثارة الّتي تمارسه في غيرها من الأزمات السّابقة، وما ستمارسه لا حقا إذا ما بقيت على الحال نفسه، وأعني بذلك الثّنائيّ الأزليّ الّذي تستنفد فيه الشّعوب طاقتها، وهما: المظاهرات والتّبرع المادّيّ.


نحن في الواقع لسنا ضدّ ذَيْنِك الأمرين، لكنّهما ما تمارسه الشّعوب المسلمة منذ سنوات والنّتيجة دون فائدة، أعني أنّه من المفترض أن نُعمِل التّفكير أكثر في جدوى وسائل تأخذ من وقتنا وجهدنا ومالنا دون أن نرى أيّة نتائج ملموسة لها.


إنّ المظاهرات الصّاخبة والمسيرات الغاضبة والاعتصامات الاحتجاجيّة على الرّغم من أنّها تعدّ تعبيرا صارخا وعلنيّا للاحتجاج ورفض الواقع لكنّها في الحقيقة مخرج بارع لأنظمتنا العاجزة لجعل الشّعوب تفرّغ كلّ ذلك الغضب المكبوت بدلا من أن تنقلب ضدّها، فلا ضير إذن أن تعبّر شعوبنا عن غضبها وكفى الله المؤمنين القتال، ولذلك لو صنعنا مقارنة بسيطة بين عدد المسيرات والمظاهرات في دولنا الإسلاميّة الّتي تخرج ضدّ أمريكا وإسرائيل وبين المظاهرات الّتي تخرج ضدّ سياسات أنظمتنا لوجدنا بونا شاسعا، فالثّانية تُقمع وتُمنع، بل حتّى الأولى قد تُقمع إذا تخطّت الخطوط الحمراء، أي إذا وصلت إلى حدود السّفارتين الأمريكيّة والإسرائيليّة.


أمّا التّبرّعات السّخيّة الّتي أثبتت فعلا أنّ الأمّة ما تزال بخير، فإنّ الدّفع بها عبر القنوات الرّسميّة والحكوميّة أمر مشكوك فيه، فالحكومات محكومة بأوامر وشروط أمريكيّة وقوانين أملتها ما يُسمّى بالأمم المتّحدة،

والسّؤال في ذلك هو: هل تصل هذه التّبرّعات الضّخمة إلى مظانّها الصّحيحة أم لا؟ هل المؤسّسات الحكوميّة تضع هذه الأموال في يدّ الشّعب الفلسطينيّ بحقّ، أم أنّ لما يسمّى بالمجتمع الدّوليّ يدٌ في طريقة نفاذها لمستحقّيها؟ وها نحن قد رأينا وشهدنا عبر القنوات الإعلاميّة الكمّ الهائل من المساعدات والموادّ الغذائيّة والطبّيّة ما تزال محبوسة عند المعابر حتّى فسد الكثير منها.


وسؤال آخر أطرحه هنا: كم حجم التّبرّعات الّتي قُدّمت لفلسطين خلال العقود الثّلاثة الأخيرة فقط؟ وأين ذهبت؟ والجواب أخبرنا به إسماعيل هنيّة عندما وصل إلى الحكومة حين قال: "وجدنا خزائن فارغة" !!!


إنّنا لا نقلّل من أهمّيّة التّبرّعات للفلسطينيّين، لكن يجب أن نتأكّد من أنّها تصل لمستحقّيها، وفي تقديرنا أنّ المؤهّل الأوّل لهذه المهمّة هي بعض المؤسّسات الأهليّة الموثوق بها.


ومع ذلك، ومع هذا الكمّ الهائل من التّبرعّات والمظاهرات فإنّ الإخفاق ما يزال يلازمنا، وما يزال العدوّ ينكّل بنا ويمارس معنا أخسّ أنواع التّعامل في سبيل تحقيق مآربه، ألا يدعونا ذلك إلى أن نبحث عن سبل أخرى للخروج من هذه الدّوامة؟!.

الانزياح عن دوائر الإخفاق:


لا نريد بمحاولتنا لإيجاد الحلّ العملَ على تأطير الرّؤى العميقة الّتي تعيد للأمّة مكانتها، والمتمثّلة في النّظريّات المثاليّة الّتي قد لا نختلف عليها من حيث العموم، كنظريّات التّغيير الفكريّ والتّصحيح العقديّ والتّربية الأخلاقيّة والسّلوكيّة للأفراد وغيرها من النّظريّات طويلة الأمد، لكنّنا نبحث عن الحل العاجل الّذي يحقن دماء أمّةٍ يراد لها أن تُباد عن بكرة أبيها، وهي حلول ميدانيّة تردع ذلك العدوّ الغاشم الّذي يجثم على صدورنا منذ عقود طويلة.


وأنا لا أزعم أنّي سأضع الحلول النّاجعة والخطط السّديدة الّتي يجب على الأمّة أن تترسّمها للخروج من هذه الأزمة، حيث نعتقد أنّ ذلك مهمّة أصحاب الخبرة والعمل الميدانيّ وقادة الرّأي وعلماء الأمّة، لكن ما أريد الإشارة إليه هو أمر مهمّ في نظرنا وهو أنّ أيّ تحرّك يجب أن يتّسم بصفتين مهمّتين:


الأولى: يجب أن يكون هذا التّحرّك مُنْبَتّا ومنفصلا عن الأنظمة والحكومات، فحكوماتنا محكومة بتحالفات إستراتيجيّة، واتّفاقيّات أمميّة، وقرارات دوليّة، تمنعها من اتّخاذ أيّ خطوة خارجة عن موافقة ومباركة ما يسمّى بالمجتمع الدّوليّ، وهاهي هذه الأزمة – وهذا ومن إيجابيّاتها – قد أرتنا كيف أنّ قادة الدّول الإسلاميّة برمّتهم لا يستطيعون عقد قمّة موحّدة بله أن يفعلوا ما ينقذ الفلسطينيّين من الموت المحدق بهم.


أمّا الصّفة الثّانية: فإنّ هذا التّحرّك يجب أن يكون تحرّكا عسكريَّا، لأنّ العدوّ لا يمارس معنا إلاّ لغة القتال والإرهاب والحرب منذ الأزل، إنّه لم يغْزُنَا ثقافيّا ولا فكريّا ولا تعليميّا، ولم يحكمنا بمعاهدات أو اتّفاقيّات، بقدر ما احتلّنا احتلالا عسكريّا سافرا وغاشما يحرق الأخضر واليابس، وها هي أمريكا تفرض عقوباتها وتحرّك جيوشها لكلّ من يعارضها أو يقف ضدّ أطماعها، وما العراق وأفغانستان عنّا ببعيدتين، والبقيّة قد تأتي.


إنّنا نؤمن أنّ هذا الوقت هو وقت تحرّك الشّعوب منفردةً، وأنّ القرار النّهائيّ لكلّ أزمات الأمّة يكمن في يد الشّعوب الّتي يجب أن تكسر الشّرانق المقيتة الّتي بُنيت حولها منذ أمد.


الكاتب: خليفة بن عربيّ
التاريخ: 21/01/2009