لفضيلة الشيخ محمد شقرة( أبو مالك)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}
المقدمــة
كلمات آصراتٌ آسراتٌ، خفيفاتٌ ثقيلاتٌ، آخذاتٌ معطياتٌ، ألقت بها التجاربُ الآمرات الناهيات، على قلبٍ يتوقُ إلى كلِّ إحسانٍ يبذله في شفافية النور، ووحشة الظلام، وكدورة الجهل، وصفاءِ المعرفة، واختيال الظلم، وتواضع العدل، وشحِّ المعروف، وسخاءِ المنكر، فلم يقوَ إلا أن يظهرها، فتكون بين عينيك حكمةً لا تُخلفُ ظنَّك، وسلوى مفصحةً لك عن حبٍّ يملأُ صدرك، ورجاءً باسماً ثغره يرفع قدرك، فخذها بقوة وتصديق من والدك أبي مالك لتنير دربك.
وفقك الله ورعاك وسدَّدَ على درب الهدى خطاكَ.
وسلام عليك يوم ولدت، وفي كل يوم من أيام عمرك العامر بالطاعة والتقوى، ويوم تموت، ويوم تبعث يوم القيامة حياً.
(1)
أي بُني:
الذي بتُّ أشفق عليه من نفسه، وأُريده أن يكون له غَلَبةٌ عليها في الشدة والرخاءِ، في المكره والمنشط، في السَّقم والعافية فلا يُعْثِره طمعٌ، ولا يستذلُّه أملٌ، ولا يستدرجه سرابٌ يبني بالطاعة، ويسعَدُ بالمعروف، وتُحزنه المعصية ويُنْهزه إلاَّ الرجاءُ فيما عند الله ، ولا يضعف همته إلا الأملُ فيما عند الناس، وهو في منزلة بين المنزلتين، بين الرجاء في رحمة ربه يرجوها، وبين الخشية من عذاب الله يَحذَرُه.
وقفت على باب الله فأعزني، ونظرت في وجوه الناس مستبصراً فعلمت أن أحسَنَ الحُسْن أن لا ترى عِزَّتك إلا في الخضوع إليه، وإن لا ترى غناك إلا في الافتقار إليه، وأن لا ترى قوتك إلا بتفويض أمرك كلِّه إليه.
فخُذ عني ما علَّمَتْني السنون، ولا تبخل عن نفسك أن تُصْغي إلى كلماتي، فتصيب بها خيراً يدني إليك البعيد، ويسهِّل عليك الشديد، وتجمع بها بين الطارف والتَّليد، والله سبحانه من قبلُ ومن بعدُ إليه الأمر كلُّه، وهو الفعَّال لما يريد.
ولست أملك لك من أمرك إلا دعواتٍ -أرجو الله أن تكون طيِّبات صالحات مقبولات- أتقرَّب بها إلى ربي، وأرجو بها إدناءَ رحمته، بأن أكون بشفاعة نبيِّه يوم لا تكون الشفاعة إلا بإذنه، فلتصغ إليها، ولتحفظ منها ما استطعت، فإنها -وربِّي- من خير ما كتبتُ وسطَّرت، مشت معي عقود حياتي، وأخذت عليَّ طرائق نفسي، وأظهرتني على سرِّي وعلانيتي، وأسلمتني إلى الرضا بما قضى فيَّ ربي، فلا زلت -أي بُني- في عافية الرضا الإلهي.
فَدُرْ مع القرآن حيث دار، واقْفُ أثر المصطفى بهديه وسنته حيثما سار، واجْثُ بشكر النعمة التي أنعم الله بها عليك، على ركبتيك في الليل والنَّهار، وضَعْ جبهتك الصابرة على التراب الذي خلقك منه وسوَّاك، طلباً لرضاه، وسعياً في نوالِ حُبِّه، وأخذاً بكلِّ ما تعلم أنه يقرِّبُك إليه، فلا تبخَل عن ذاتك بما لو رآك الناس فيه، لعلموا أن الفضل الرَّاجيَ يُلْتمس عندك، ويُطلب في ردائك، ولا يُنال إلا من مثلك، فتفوز بذلك فوزاً عظيماً، وتعلِّمُهم من ذلك ما لم تكن تعلم أنَّ أيسرَ العمل الموافق لرضا الله وحبه، خيرٌ وأرفعُ قدراً، وأجلبُ لعافية الصلاح في الناس من مئات الكتب والرسائل النافعة التي تُكتَب وتُؤلَّف، إذ العلم لا يكون إلا بالعمل، ولا خيْرَ في علمٍ لا يتبعه عمل يكون أحسن منه، فمن أراد أن يكون له حظٌّ من فضلٍ، فليصبر على كل صالح عمل ولو اشتدّ وحَمُز، فإنَّ أحبَّ الأعمال أحُمزُها وأصدقُها وإن قل.
وحسنٌ منك -أي بُني- أن لا يكون منك إيثار ما أنت فيه -على ما هو فيه- على الماضي الذي انقضى وذهب بما هو فيه، وعلى ما هو فيه، فلعلَّ حاضرك يبيِّت لك بمستقبله سوءاً وأنت لا تدري، ولعلَّ ماضيك انقطع بخير وأنت لا تعلمه، ولكن؛ ارضَ بالحاضر، واحذر أن تعصي الله فيه، بجلٍّ ظاهر، أو بدقٍّ خفيٍّ، وأرضَ بالماضي، واندمْ على ما كان من معصيةٍ فيه، فالرضا يبعث في قلبك الخير، ويحضُّك على تولِّيه والحرص على معناه كلِّه، أينما كان وحيث وكيف كان، فلا تضيِّعْه بأن لا ترضى، فقدر الله يحكم كل خلقٍ وأمرٍ.
وحين أكتب إليك أي بُني، فإنما أُفضي إليك من ذاتي إلى ذاتي، فليس يصلح إيمان العبد المؤمن، إلا بما أودع الله قلبه -وهو يعلمه- من حبِّ الخير لإخوانه ما يحبُّه لنفسه، فهل لك أي بُني أينما كنت وفي أيَّة بقعةٍ من بقاع الأرض، أن تصغي لحديثي إليك، فكلُّ كلمةٍ فيه، وكلُّ جملة من جمله، وكلُّ معنى، كلُّها تظهر تلك الكلمة، أو تنبتُه هذه الجملة، وما هيَ كلُّها مجتمعةً ومنفردةً، إلا من حصاد العمر، وتجربةِ الأيام، وجني النظر المتأمِّل الواقف عند أمر الله ونهيه، فخذ بأحسنه لأحسنك، ودع ما يثقل عليك إن كان غير موثوق إلى دين الحق، يكن لك إن شاء الله ردءاً في غدوِّك وأصيلك، وصبحك وعَشِيِّك، وحين تظهر وتروح، فلا تعجل على نفسك بتركه والزهد فيه، واحمد المولى سبحانه على ضراءَ مسّتك، كما تحمده على سرَّاءَ أنعم الله بها عليك، واصبر على ما أصابك، وزيِّن قلبك بالتقوى، وأقبل على ربك بالطاعة والصدق، وإياك أن يخالطك الرضا بما صنعت، وكن على وجلٍ من تزيين النفس والشيطان أنك قد أحسنت، واجعل قبلة قلبك السماءَ، وأدم دعاءَه بقولك: «اللهم رضِّني بقضائك، وقنِّعني بعطائك، وأخلف لي في كلِّ غائبةٍ خيراً».
(2)
أي بُني:
لا تشرب الماء إلا علاًّ.
ولا ترد طعاماً أُكل منه.
ولا تلبس قميصاً لبسه غيرك.
ولا تساكن فخوراً، ولا خوَّاناً ولا أثيماً.
ولا تُصاحب جباناً، ولا بخيلاً، ولا جحوداً.
ولا تجالس من يرى لنفسه فضلاً عليك، ولا ممارياً غثَّ الحديث، ولا ثقيلا تستمسج كلامه، ولا مفاخراً بفعال غيره، ولا ودوداً بأهل المعاصي، ولا باراً بأخلاءِ السوءِ، ولا لاتَّـاً بمغراف غيره، ولا عائباً على الناس ما لا يراه فيه وهو الأحقُّ به، ولا حائماً حول أعراض الناس بمكاره اللسان، ولا مُنَقِّباً عن عيوب الآخرين، وعيوبك لو وُزِّعت عليهم لكفتهم، ولا تتمنَّ نعمةً أصابها حاسرٌ.
(3)
أي بُني:
خير لك، وليكن أحبَّ إليك، أن تستدفئ بالمزن المثقلة بالماء في الشتاء، وأن تبترد بلهيب الشمس في الصيف، وأن تفترش الشوك اليابس القوي في ليل ونهار، وأن تكتحل بالرَّماد المحمَّى، وأن تأكل طحين الزجاج، وأن تشرب الماءَ الملح الأجاج، من أن تضع مختاراً غلَّ الذُّل في عنقك، أو أن تأكل سحتاً خبيثاً، أو أن تصيب حراماً يشينك عند الله في سر أو علانية، في الدنيا أو في الآخرة.
(4)
أي بُني:
اعلم أن العاقل البصير هو الذي يعجل إلى تدارك ما بقي من سبب يُرجى به صلاح الأمر الذي توعَّر على القوانين، واختلطت به الحقوق، وتجاذبته في آن معاً الأهواء والكروب، حتى صار أو كاد قطعة من تاريخ فسيح الأرجاء، أُذيب في أتون.
(5)
أي بُني:
لم يعد لواحد من الأمة أن يأذن لنفسه أن ينصرف عن أمر -مهما بدا صغيراً- يؤَمِّل في صلاحها، ورأب صدعها، وتوحيد صفها، فالطامَّة الكبرى التي ألبستها الرزايا، وردَّتها الفتن والبلايا، وساقتها إلى الحتوف والمنايا، لا تؤذن بشيء من مثله. فقد حان الوقت في إعجال أمر، لم يعد له مكان في الريث، وإلا فإن ذلك يكون من سوء العيث، وتُقيل الحيث.
(6)
أي بُني:
ارتضع رمال البيد العطاش، وانهل من ثرى الصحارى الغارقة في الجدب والظلام، ولا تفلت حبل الثريا من يدك من يأس، فإنك إن تفعل، فقد أدنيت نفسك من مصرع الرجاءِ الآفل، واحتطب لحنيذك من أطراف الشمس، وامضغ الصَّبر بشوكه، ولا تعدل عن روائع الموت الآزفة بالنقيع، وأرِشْ سهمك لتفَوِّقه إلى حلوق الخطوب إن رامتك بضراءَ بيد الظلم الشَّثنة، ومدَّ بصرك إلى الآفاق الراعشة بذوامر القنوط فأبطل كيدها أن تُصيب به نفوس البائسين المستضعفين.
(7)
أي بُني:
انظر بني، ما أحسن أن يعرف المرءُ قدر نفسه، فلا يعدوه، فإنه إن عرف قدره عزَّ عليه أن يشتار العسل إلا من قمم الشامخات الراسيات، وأن يشرب الماءَ إلا من المزن المعصرات العاليات، واعلم رعاك الله أن أهنأ الحب ما تزول به ضرَّاءُ القلوب، وتتقطع به أوكيةُ الشر التي أحكمتها يد البغضاء والحسد، وسوءِ الظن، والتشحُّط في الأعراض، والكبر السخيف، واختلاس المعروف.
(8)
أي بُني:
اطلب الحلال من الزَّاد على قلَّةٍ، ولا تَمِلْ بعينك إلى الحرام على كثرةٍ، وإيَّاك أن يكون لنفسك عليك سلطان في شبهةٍ ولو على مسغبةٍ، وألقِ بجسدك طعاماً سائغاً شهياً للسباع بصون العرض، ونقاءِ السريرة، والنُّصح للناس كلِّهم وللعشيرة، وأمسك عليك حتى قلامة الظفر أن تُنالَ بهوانٍ من ذا وذاك.
(9)
أي بُني:
اعلم؛ أن أرفع الناس قدراً من يحفظ عليك ودَّكَ بوفاءِ حقٍّ لمعروفٍ أصابه منك، وأنزلَ الناس قدراً من يضيع ودَّك باجتراحك معه خطأً. لا يذكر إلى جانب معروف، يعمرُ أرضاً شاسعة من البور، فاقدر لكلٍّ قدره، وأبْصر بمآلات الذين أصابتهم مودَّة الشيطان بحمَّاها اللاَّهبة، وكن من نفسك على محاذرةٍ من أن تجنح بك إلى سبيل لا تعرفها، فتضل وتشقى، وأسلم قيادك في طمأنينة إلى قلبك، فإنه يهديك إلى سواءِ القصد، ولا يفتَرَّ ثغركَ عن ابتسامةٍ إلا وهي سالبةٌ من صدركَ بغضاً، أو جالبةٌ لك حبّاً، والغبْ في صواب الحقِّ، ولا تستهويك سهولة الباطل، فتُكَبَّ على وجهك وأنت تمشي سوياً، ولا تخف شيئاً إلا إن يكون فيه معصيةٌ ÷ تفرح لها، أو طاعة ÷ تخشى فواتها.
(10)
أي بُني:
لا يُحْزِنُكَ أن يفوتك شيءٌ تحسبه نافعاً، ولا يُفْرحك أن يفوتك شيءٌ تحسبه ضاراً، إذ لستَ تدري أين النفع أو أين الضرُّ في أحدهما، والله سبحانه يقول: {عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يعلم وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} واستَبْقِ النافع بالتضرع إلى الله أن يقيمك على شكره، وادَّرِأ الضارَّ بالرضا بقضاءِ الله فيك، واعلم أن ما أصابك ما كان ليخطئِك، وما أخطأك ما كان ليصيبك، والله يقدِّر الأشياءَ كلَّها بحكمته وإرادته، والخير كلُّه في التسليم بما أراد الله ، ولا تستعجل ما أخَّره الله ، ولا تستبطئْ ما أعجله الله ، وارضَ بما قدَّره الله ، وتوكَّل على الحيِّ الذي لا يموت. وسبِّح بالعشيِّ والإِبكار، واعلم أن ما يكون من ظلام في الليل يعقبه ضوءٌ في النَّهار.
(11)
أي بُني:
إن خيِّرت بين أن تشرب كأس المنيَّة مدهوقةً عزةً، وبين أن تشرب كأس الحياة يخالطها بعض يسيرٌ من الذِّلة، فاشفع الأولى منهما بثانيةٍ، وأنت مبتهجٌ جذلان، ومرِّغ جبهتك بالصخور الصلدة الخشنة في يسيرٍ من الطاعة، تلقى بها ربك إن أوثقتك المنيَّةُ إليها، واحذر أن تمسَّ ناعم الحرير في معصيةٍ، فينتهبك الموت وأنت في لذتها الماتعة، ولا تنتعل إلا جلود السباع العاديات، ولا تطعم إلا من أجواف الكواسر الراعبات، ولا تصحب إلا الصقور في قممها العاليات.
(12)
أي بُني:
حسبك من التوبة -وهي قريبةٌ منك، وليست بنائيةٍ عنك- أن تستحضر ما كان من تقصيرٍ مدَّ يوماً رواقه عليك، فغمَّ عليك ذنبك حتى توارى بدموعٍ ساخنةٍ سحَّت بها عيناك على وجنتيك، وأماطت الحوبة التي اقترفتها يدكَ، أو مشت إليها قدمُك، أو لقفتها أذنك، أو أبصرت بها عينُك، أو جاش بها صدرك، أو أطافتها نفسك من حولك، فلم يَعُدْ لشيءٍ مضى أن يعود على صاحبه إلا بِعبْرَةٍ بها، يفيد منها في يومه وغده، وما كان لأمر مرَّ وانقضى أن يثوبَ إلا بعظة تهديه إلى حال يأخذ منها أو يدع وهو موقن أنها ذاهبةٌ عنه. وليس يحسن بالمرء أن يُلِمَّ بفكرةٍ إلا ليبصر منها بحسنةٍ، أفلتت منه يوماً، لعلَّه أن يصيب أحسن منها.
(13)
أي بُني:
إذا أولجتك مصيبةٌ في بلاءٍ، فألن لها جنبك، حتى لا تكسر فيه فيعجزك، وأحسن البصر ما قنَّعك بالقليل، ورضَّاك بما أنت فيه، ونجَّاك من شرِّ نفسك، وباعد بينك وبين الإثم، وأدناك من المعروف، وصبَّرك عن الشهوات، وأماط عن قلبك الطمع، وحبَّب إليك الضعفاءِ، وكرَّه إليك صحبة العصاة والأشراف وأهل الكبر، وأقامك على الحق وإن كان صعباً مرَّاً، وأعجلك عن الباطل وإن بدا لك سهلاً حلواً.
(14)
أي بُني:
ليس الضعيف من يشتد ذراعه بالأقوياء، إنَّما الضعيف من يرى في أمثاله الضعفاءِ ظهيراً له فهو قويٌّ بهم، وليس القويُّ من يرى في قوته بيدراً يجبى إليه حصاد الآخرين، بل القويُّ من يأخذ من بيدره، ليفرح به جيوبَ الآخرين، فاحم بيدرك بالصَّدقات، واحرس حصيدك بطيِّب العطاءِ، ولا تقبض يدك أو تبسطها، فينتقص أو ينتهب، وأنت في غمرة الفرح، واعلم أن الدنيا رهينةٌ عندك بما هي فيه، فإن أصبتَ منها فهو ما أصبت، وإن أعرضَتْ عنك فهو عليك لا منك ولا إليك.
(15)
أي بُني:
اعلم أن أدوم ما يكون الوصل في الناس، بتقوى الله ، وحسن الخلق، وصالح العمل، وأقطعُ ما يكون لما وصلتَ بذهاب التقوى، وشرِّ العمل وسوءِ الخلق، فلا تضنَّ على نفسك بإحسان لا يشق عليك بذله، ولا تُلْجِئْها إلى وهم أنك تعجز عن صنائع المعروف، فإن خيرَ الناس من يَحملُ في النائبات، وإن أعياه همُّهم، ويحرص على خيرهم وإن أثقله غِيُهم، ويرضى عن سيئهم ويكافئُ محسنهم وإن رابه أمرهم.
(16)
أي بُني:
إن من خير الناس، من تأْمنه على سرِّك لا يذيع، ويدنيك منه ويقدِّمك على نفسه بعزوفها عن شيءٍ وهو قريب منه وإن شقَّ عليه تركه، ويهديك إلى صوابٍ تصيبُ به حقاً، ويدفع عنك باطلاً، في غير منٍّ منه ولا أذىً، وينزلك من نفسه في أشرف منزلة بما يعلم فيك من خشية من الله تبدو عليك من أعمالك. ويردُّ عنك الألسن في غيبتك، ولا يرقب منك معروفاً ليكافيك، ولا يكافيك لتزيد من معروفك له، ولا يقبل عليك في رخاءٍ، ويدبر عنك في شدَّة، ولا يرصدك في خطأ ليذيعه، أو في صواب فيحبسه.
(17)
أي بُني:
إن من شرِّ الناس من يوافيك بزَّلتك فيعرض عنك، وبحسنتك فيقبل عليك، وخيرهم، من لا يرقب منك زلةً ولا حسنة، فتكون عنده الصاحب الودود، والشِّربَ المورود، والحبل المتين الممدود، وأصدقهم لك مودَّةً من لا يعدو عليك في سرٍّ، ويرد عنك في علانية، فيقول فيه الناس قولاً حسناً، ويذكرونه ذكراً جميلاً، وأضّلهم مودَّة عنك من يرى في نعمةٍ يصيبها منك مغنماً واجباً، وإذا مسّته منك ضراءُ خفيفة، جعلك غرضاً يُرمى، يثخنك بجراح سهامه.
(18)
أي بُني:
اعلم أنَّ الجمال والقبح ضدان لكنهما نسبيان.
وأن خير النساءِ من تستميل الرجل إليها بعقلها، فيكون به جمالها، وأن شر النساء من تُقصى الرجل عنها بحمقها وإن كانت أجمل النساء، وكم من امرأة استمالت الرجل إليها بحسن عشرتها، فحسنت في عينه وهي قبيحة، وكم من امرأة صدَّت الرجل عنها بسوءِ عشرتها، فقبحت في عينه وهي جميلة، وكم من امرأة بهر الناس جمالها فأودَت ببيتها.
وكم من امرأة قال الناس عنها إنها قبيحة فملأت بيتها بهجة ورجاءً.
فإذا طلبت امرأة لتكون لك حليلةً تحصن بها بيتك على أنها صالحة عاقلة، ولا يخدعنَّك الجمال الذي يذوي ثم أنت به تشقى.
(19)
أي بُني:
1- اعلم وقاك الله السوء أن من الناس من إن تحرص على إدنائه أعرض عنك، وإن حرصت على إقصائه أقبل عليك.
2- ومن الناس من إذا شام منك تواضعاً استكبر عليك. ومن إن رأى منك ما يظنُّه استكباراً كان كالعبد بين يديك.
3- ومن الناس من إذا أحسنت إليه حسبك راهباً منه، ومن إذا أسأت إليه ظنك راغباً فيه.
4- ومن الناس من لا يستقيم أمره إلا والعصا تقرع رأسه، ومنهم لا يستقيم أمره إلا بنظرة ودادٍ تخالط نفسه.
5- ومن الناس من إذا رأى منك ابتسامةً تمرَّد عليك، ومنهم من إذا أدمت العبوس في وجهه أدام الخضوع عند قدميك.
6- ومن الناس حاله في الإحسان كحال النساءِ، إن أحسنت إليه الدهر، ثم أسأت إليه مرة، قال: ما رأيت منك إحساناً قط.
واعلم يا رعاك الله إن من خير الناس في كلِّ زمان من وفاك بإحسانك إليه إحساناً من وفاءِ الكلب، ومن ذاق عرف، ومن جرَّب علم.
واعلم يا رعاك الله أن أسوأ الناس من شاع ذكرهم في الناس مقروناً بما قيل فيهم: «تَمَسْكَنَ حتى تَمَكَّن» وأحسنهم من إذا أعجزه معروفك عن ردِّ ولو بعضاً منه، أحزنه ذلك فجاءَك معتذراً قائلاً: فضلك عليَّ لا ينسى في الدنيا إلا بالموت، أما عند الله فهو مذخور في سجلٍ لا يبلى ولا يحور.
(20)
أي بُني:
الولد إما عار شنار لا تحرقه النار، وإما فخر مكسوٌّ بياضاً يسعى عزيزاً كريماً في ظلام الليل ووضح النَّهار.
والمرأة إن كانت عصيَّة على الرجال أطمعتهم فيها بشرفٍ وعزٍّ نوال، وإن كانت سهلةً عليهم، أجاءَها إليهم رخيصُ النَّوال، والأمُّ الصالحة تبني القلاع والحصون، وتعلي صروح العلم والمعرفة، وتشق الأنهر في الصخور القاسية القوية، وتزرع الأرض بالزروع والثمار الشهية، وتمسك بحبال النُّجوم والكواكب القصيَّة، وتسقي الجدب بندى الحبِّ، وهي لابثةٌ في كسر بيتها راضية مرضيَّة، وتستمطر السماءَ وهي جاثية على ركبتيها تناغي طفلها في جنح الليل والظلمة الخفيَّة.
(21)
أي بُني:
خلِّ ما بينك وبين اللهب التقوى، وخلِّ ما بينك وبين العباد بالحذر، وإن عراكَ فيهم رجاءٌ، فلا تعجل إليهم بحسن الظنِّ واستبطن قلوبهم بالتوكُّل على الله ، أما ظاهرهم فخذ منه اليسير اليسير، وإياكَ إياكَ والإغراق في الإحسان إليهم بحسن الظنِّ فيهم، فلعلك تفجع يوماً في واحدٍ أكثرت من الإحسان إليه، فيزهدك في الإحسان إلى من يستحق منك الإحسان، حتى ولو كنت مقيماً عليه، فيذهب عنك الأجر، ولا ينالك من بعد إلا التعب والنصب، وإن أردت أن تريح وتستريح، فتعلَّم أن تدع للآخرين كل ما يريدون منك، ويحملونك عليه من غير أن تنتظر منهم شكوراً أو جزاءً، وإن حدَّثوا أنفسهم أن يصنعوا معك معروفاً، فقل لهم معزِّياً من قبل أن يظهروه: عظَّم الله أجركم.
(22)
أي بُني:
حســنٌ أن يذكِّـر العبد نفسه الموت، وأن يكثر من ذكره
في نفسه، لكن خيرٌ من ذلك أن يتعلَّم العلم الذي إذا انتهى أجله، يكون قد انتهى إليه، وهو على حيطةٍ يعرف بها حقَّ الموت عليه، إذ الموت لحظة سريعة، لا يطول وقوف المرءِ عندها، وهو في حاجةٍ دائمةٍ ما دام حيَّاً أن يعرف حقَّ الحياة عليه، وأنها رحلةٌ يجب أن يدأب فيها على الاستعداد لتلك اللحظة السريعة الخاطفة، وهي التي يجتمع فيها أمر الإنسان كلُّه، فيرى منها مكانه، فأحسن لنفسك أي بُني، أن تكون عارفاً قدر نفسك، ثم أن تحيط علماً بما تحسن فتأتيه من قبل أن يفوتك، وما لا تحسن فتصرفه عنك بودع أسبابه واجتنابها.
(23)
أي بُني:
اعلم أن أهل القرآن هم أهل صُفَّة الرحمن، ينَعِّمهم الله فيها بالنظر إليهم غدوَّاً وعشيَّاً وحين يظهرون، فمن نازعهم فيها ليخرجهم منها، سلَّط الله عليه من لا يتَقيه فيه فيرديه، وما زال الناس في خيرٍ ما قدَّموا أهل القرآن، فلما أخَّروهم أخَّرهم الله ، وأحلَّهم دار الهوان، فهل لهم أن ينجوا أنفسهم بكرامة أهل القرآن؟! فأهل القرآن هم أهل كرامة الرحمن.
(24)
أي بُني:
اعلم: أن الناس لا ينتقصون بالموت، بل بانتقاصهم في دينهم، والانتقاص في الدين لا يكون حين يأتي عليه كلِّه، بل يكون حين يبدأُ، والعاقل من يدَّاركُ دينه من قبل أن يكون انتقاص، فالله قد حفظ لنا الدين، فلا يكون منَّأ حيف عليه على غير ما أراد الله له سبحانه له، وانتقاص الدين كالدَّاءِ، يبدأُ قليلاً، ثم يتكاثر بإهماله، حتى يغرق من يصيبه، فيرى المنكر معروفاً، وغير مستنكر ولا مستبشع، ثم لينظر الأول ما كان من أمره بصبره على الانتقاص، وتركه يغدو ويروح فيه، من ظنٍّ حسن في نفسه، أنَّه لا يؤْذي غيره بانتقاصه الدين وصبره عليه، وغاب عنه أنَّ الشر لا يستطير إلا من البداية.
(25)
أي بُني:
اعلم أن الكبر لبوس السفهاءِ، يعرفون به فيجتنبهم العقلاءُ، والتواضع لبوس العقلاءِ، يعرفون به، فيصلح الله بهم السفهاء، وما رأيت متكبراً إلا والشر أقرب وأحبُّ إليه من الخير، وما رأيت متواضعاً إلا والخير أقرب وأحبُّ إليه من الشر، والكبر لا يليق إلا بالأراذل الجهلاء، والتواضع لا يليق إلا بالنبلاء الشرفاء، وما عرفت متواضعاً إلا والناس مجمعون على حبِّه ولو كان فاسقاً، وما عرفت متكبراً إلا والناس مجمعون على بغضه ولو كان فيما يبدو للناس تقيَّاً صالحاً، فكن من الكبر على حذر، ولا تعزف نفسك عن تواضع، فتصيبك ندامةٌ باغتةٌ جاسية.
(26)
أي بُني:
ما -وا÷- رأيت أمنع للعلم من العربية، ولا أصون له من الإخلاص، ولا أمتع به من العمل، ولا أبقى له من المدارسة، ولا أروح للنفس فيه من استحضار مسائله، ولا أشوق للتزوُّد به من رؤْية آثاره في الناس، والأرفع في الناس قدراً من أهله، ولا أجمع للخير من الإقبال والحرص عليه، ولا أضلَّ ممن يتَّخذ إليه سبيلاً غير سبيله، وأيسر سبيل إليه أن تصونه بالإخلاص والعمل، وإياك أن تهجر بقولٍ فلربما كان به غصَّة، إذاً: فليس خيراً من أن تضع طرف لسانك على لهاتك، فإن تقضي مُمسكاً عليك لسانك، خير من أن تموت وأنت تحركه بكلمة تؤْذي به إخوانك. واعلم -رعاك ا÷- أن العاقل من يعرف مواقع عقله ولسانه، فلا يقع على واحد منها إلا وهو آمن على عقله أن يغتال، وعلى لسانه أن يقطع.
(27)
أي بُني:
اعلم: أن العالم هو الذي يعلم المسألة من مسائل العلم، فيكون عقله حافظاً لها، ولسانه قائلاً بها، وجوارحه عاملةٌ بها، وسمته داعياً لها. واعلم: أن الفقيه ليس هو بالذي يحفظ النصوص، فكم من حافظ لها هو أجهل الناس، لكن الفقيه هو الذي يستخرج منها الأحكام والفوائد، وهي معروضةٌ أمام عقله وناظريه، يأخذ منها للناس أكثر مما يأخذ الناس منها، فإن وافق الحقَّ وأصابه فذاك، وإلا فقد أوفر لنفسه أجراً عند ربه سبحانه.
(28)
أي بُني:
اعلم أن اللسان أمةٌ وافرةُ العَدَد، كثيرة العُدَد، يشرف بها
إمامُها وهو العقل، ويعزُّ بها اللائذ بها وهو العييُّ، ويسمو بها دانيها وهو الحائر، وينجو بها حسيرُها وهو المتأخِّر، ويشتد بها ضعيفها وهو الحَييُّ، فانظر أي بُني أعزك الله ، من تكون في أُمة اللسان، ومن ستكون مع من أسلمته قيادك. واعلم رعاك الله أن الصبر والجزع طرفان يفصل بينهما حاجزٌ، فإلى أيهما كنت فقد سقط الحاجز، لكن إن كنت إلى الجزع أدنى، فاستذكر قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب}. وإن كنت إلى الصبر أقرب والجزع -منك حينئذٍ- كفٌّ ممسكةٌ بعنان الصبر، فهو نعمة أفاءَ الله بها عليك وجمَّلك بها.
واعلم يا رعاك الله ، أن أصدق الشوق وأصفاه وألذَّه ما يُفرح بالقرب، ويُحزن بالبعد، واعلم أن النجاح معقودٌ بأربعة: الإخلاص في التصور، والأمانة في الأداءِ، والإتقان في العمل، وإيثار أمر الجماعة على أمر الفرد.
(29)
أي بُني:
اتخذ الصبر درعاً تقيك، وتدفع عنك أذى مبغضيك، فإن أرادك أحدٌ بسوءٍ، فبسط به يده إليك لم يصل إلى عبوس فيك، وإن أرادك أحدٌ بخير فلم ينفذ إليه، فاحسنْ إليه بأحسنَ مما كان سينالك منه لو كان له نفاذ إليه، ولا تجعل يدك مغلولةً عن معروفٍ مهما صغر، وإياكَ أن تجعل من إساءَةِ من أحسنت إليه حائلاً بينك وبين تضعيف الإحسان إليه، واعلم أي بُني أن النادم على معروفٍ يبذله لا يستأْهل حتى أن يكون حاضراً في قلبه فيذكره، والنَّاسي أنه صانع معروف هو أهله الذي يردُّ إليه عند الحاجة إليه.
(30)
أي بُني:
اعلم أنَّ الجعلان لا تعيش إلا في السباطات، ولا تكبر وتنمو إلا في القاذورات والنتن، وأن النَّحل لا تحط إلا على الأزهار والورود، فكن مع النحل في البحث عن رحيق الزهر، وإياك أن تُمِرَّ ذِهْنَك بالجعلان، والتمس لأهل الحق والصدق عذراً باساءَتهم إليك، وأما أهل السَّفاهة وظعائن الأهواءِ، فأحسن ما يكون لك الإعراض عنهم، ونبذهم من وراءِ ظهرك، ولا تمنن على نفسك بأنك صبرت على الأذى والقذى، فلرب يومٍ يمر بك ترى أنك في حاجة إلى من يصبر عليك، كحاجتك إلى الهواءِ إذ يضيق بك صدرك أو كحاجتك إلى الماءِ حين يشتد بك الظمأ، أو كحاجتك إلى رغيف الخبز حين يستبدُّ بك الجوع.
(31)
أي بُني:
إن كنت عاقلاً، فلا تجعل في نفسك فرقاً بين من عظمت جثَّته بأكلٍ وشربٍ وكبر مقطَّع، وبين بعوضةٍ عظُم جرمها بمص الدماءِ.
وليس في الناس أسوأ ممن يرى في صنيعك الخير معروفاً، غيرك أحق بأن يكافأ عليه، فإذا سألته: لماذا كان منك هذا، قال: لئلا يفوتني خير أرجوه منه، ونسي المسكين أنه قد لا يأتيه معروف إلا ممن أسلف له المعروف، وكن دائماً باسطاً يدك به، ولا تعجل على نفسك بالملالة، فإن قطار الموت دائب الحركة والسفر، فلعلك تصعد إليه في سفر لا تؤوب منه، واذكر نعمة الله عليك، إذ كنت فقيراً فأغناك الله ، وكنت ضعيفاً فقوَّاك الله ، وكنت محروماً فأعطاك الله ، فإياك إياك أي بُني والبخل عن نفسك، وتصدَّق بالمعروف على من هو أهلٌ، وعلى من ليس بأهل، فإن وافق معروفُك أهلَه فهو أهلُه، وإلا فأنت أهله وأهلُه وأهلُه.
(32)
وما ضرَّك أي بُني لو أنَّ طائفاً من نفسك يبقى طائفاً بك يقول لك: أن يُقال إنك جاهلٌ والحق منك قريب خيرٌ من أن يقال: إنك عالم، والحق عنك بعيد، والنفس الكسيرة بالحقِّ خيرٌ من النفس المتيبِّسة بالباطل.
وإياك أي بُني أن ترمي بسهمك إلا في حلق صيد يكافِئُه، فإن اخطأت أو نسيت، فأنالك بخطئك أو بنسيانك صيداً غير مكافئٍ فدعه، طيِّبةً به نفسك للمهازيل، المبلَّلة ألسنتهم بلعابِ الأطماع الرخيصة.
ولا تغذُ نفسك بعسلٍ إلا أن يكون من رؤُوس الشامخات الراسيات، ولا تشرب الماءَ إلا من أثداءِ المزن المعصرات العاليات، ولا تبحث عن علف فرسك إلا في طلع أشجار النخيل الباسقات.
(33)
أي بُني:
إن أردت أن تعرف أين تكون أنت من كلماتي هذه التي جمعت لك حروفها، وأبنت لك عن فحواها، ووضعتها أمام عينيك تقرؤُها وتتملاَّها، فاعلم يا رعاك ا÷: أن الكلمة أصبحت حبيسةً أسيرة نفسها، وقد آثرت ذلك لا -رغبة منها واختياراً، فما من شيء في الدنيا إلا وهو يحب الحرية والانطلاق بها- بل للعجز الذي حطَّ عليها، من قلمٍ مثلومٍ بخط حروفها، أو لسانٍ عييٍّ لا يحسن النطق بها، أو فكرٍ قاصرٍ عاثرٍ يعجز عن الإبانة عن صورتها، فأين إذاً ستذهب الكلمة على مثل عجزها هذا، لو قُدِّر لها أن تكسر قيدها، لكي تنطلق، وتمشي حرَّة ملءَ عطفيها رجاءٌ أن يكون لها حياة تزهو بها نطقاً باللسان، وكتابةً بالقلم، وتفكراً بالعقل.
(34)
أي بُني:
لا أحسبك إلا أنك تحبُّ أن تتحلَّى بأجمل حلية كان يحلِّي بها رسول الله× عنقه، فيزداد بها جمالاً على جمال، وبهاءً على بهاء، وسناءً يرقى به فوق الخلائق، إن كنت تحب، فاعلم أنها الصبر، فما يكادُ أحد يُلمُّ بطرف من سيرته عليه الصلاة والسلام -وبخاصةٍ ما كان منها في العهد المكي- إلا وتطالعه حروف الصبر مرقومةً أينما يوجِّه بصره، تخبره بكلِّ ما تشكل من كلمات متفرقة ومجموعة، أن الصبر هو العدَّة المنيعة، التي كان الرسول عليه السلام يتقي بها البلاءَ، وهو يحمل أعباءَ الرسالة، يبلغها الناس، ويدعوهم إليها، وينشئُ في صدورهم قدسيَّة التكاليف التي خاطبهم الله بها، قولاً وعملاً، عقيدةً وتصوراً، أدباً وفضيلةً أمراً ونهياً، يقف بهم على جادَّة القصد في غير عناءٍ ولا حرج، لكأنَّما الأعمال والأقوال جاءَت من كل آفاق الحياة، لتقول بملء فمها، لكل من يعقلها، معانيَ حاضرةً في النفس، وأعمالاً تشهد بها الجوارح، في نوم وفي يقظة.
ليس من الحكمة في شيء إن أتاك نبأ سوءٍ أن تعجل لاستجلائه، إلا أن يكون في وسعك صرفه والتخفيف من ضرائه، أما إن كان غير ذلك فخذ نفسك بقوله عليه السلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.