غول الغــلاء ..ودواءُ هذا البـلاء
،
حامد بن عبدالله العلي
،
( ظلَّت السيدة "إيرينا فولفجانج" تحلم بالمعاش الذي ستحصل عليه خلال شهرين ، والرخاء الذي سيحققه لها ، بدأت أحلامها بشراء بيت بحديقة صغيرة ترعاها، ولكن ..ونظرًا لارتفاع الأسعار بصورة مذهلة ، تحوَّلت الأحلام ، لشراء شقة صغيرة تقيم بها، ثم تحوَّلت الشقة بعد ذلك إلى حجرة، حتى مر الشهران ، وتسلَّمت معاشها لتجد أنه لا يكفي سوى لشراء عشاء الليلة!!
إِثـْر الحرب العالمية الأولى بعد ارتفاع الأسعار في ألمانيا.
لايستبعد المراقبون إذا استمر هذا التضخم الذي دهـم البلاد والعباد ـ وهو الارتفاع في المستوى العام للأسعار ـ أن يصل الحال بالناس ـ عائذين بالله تعالى ـ إلى فساد حياتي شامل .
قال الحق سبحانه ( ظَهَرَ الفَسَادُ في البرِّ والبحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الذي عَمِلُوا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُون )
قال الحق سبحانه : (وَمَاأَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)،
رخص الدين في نفوس أكثـر الناس ، فغـلا عليهم كلّ شيء !
وتعلّقوا بشهوات دنياهم ، منساقين وراء النمط الإستهلاكي الرأسمالي للعولمة ، ونسوا دينهم ، فعُذبوا بما تعلقوا به
وقـد غـدوا متعجّبـين من حالهم ، فبينما ارتفعت أسعار النفط ، وبشَّرهم الغرب بالرفاه ، والمستقبل الزاهر في ظل الهيمنة الأمريكية ، والتبشير بالديمقراطية ، وأنها ستحوّل المنطقة على سـوق يعيش فيها الجميع عيشة هنيّة ، فوجئوا بما حـلّ عليهم من مصيبة التضخّـم ، التي لو استمرت على هذه الوتيرة المتصاعدة ، فستجعل النقود صورة بلا معنى ، وشكلا بلا مضمون .
وقد بدأ أولا بإرتفاع أسعار مواد البناء ، والأدوية، والعقار ، ثم قفـز ليشمل المواد الغذائية ،والخدمات العامة ، كالصحة ، والتعليم ، والخدمات المهنية ..إلخ
فسبحان الذي ينزل البركة على المال اليسيـر فيثـمر به الخيرات العظيمـة ، وينزعها من الكثـير فيعـود كالخراب اليباب .
كثـُر الربا ، واستُبيحـت الحيـل عليه ، كـ(التورق المنظـّـم) ، و(المرابحة الصورية) ، و( الإستصناع المتوازي ) ، وانتشـرت المعاملات المحرمة ، وعمّت الرشوة ، والاحتكار ، وبخـل الناس بزكاة أموالهم ، وقُطعت الأرحام ، ووُضع بين الناس الشُّـح ، حتى شحُّوا بأموالهم عن المنكوبين من المسلمين كأهل فلسطين ، وتُرك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعُطِّلت حدودُ الله ، وأُهملت شريعته.
هذه هي الأسباب الحقيقية الغيبية التي تكمن وراء الأسباب المادية الظاهرية ، وهي ارتفاع أسعار المواد المستوردة ، وجموحها في بورصات السلع العالمية ،وفساد الإقتصاد العالمي القائم على الربا ، وتغير الأحوال المناخية المؤثـر سلبا الزراعة في العالم بصورة عامة ، مـع زيادة عدد السكان في العالم عامة ، والبلاد العربية خاصّـة، وتكالب الناس على الشراء على النمط الإستهلاكي ، وتدهور سعر صرف الدولار ..إلخ
هذا كلُّه وغيره ، أدّى إلى هذا التضخـم الذي يزداد يوما بعد يوم ، وإذا استـمر فيوشك أن يسبب كارثة عامة .
وهذا غير مستبعـد ـ نسأل الله أن يجنب المسلمين المصائب ـ فالتضخّـم كالسيل المدمّر ، قـد يُثـمر الخراب ، وقد يؤدي إلى مجاعات مهلكة ،
كما روى المقريزي قصة أشد مجاعة أصابت الناس ، في حوادث منتصف القرن الخامس الهجري ، والناس تحت أسوء سلطان للعبيديين في مصر :
( وأُكلت الكلاب ، والقطط ، حتى قلّت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضاً ، وتحرز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ، ومعهم سلب ، وحبال في كلاليب ، فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه،ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره، وصار يجلس على الحصير، وتعطلت دواوينه، وذهب وقاره .. وجاءه الوزير يوماً على بغلته، فأكلها الناس، فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم ) المقريزي.
وأعظـم حل لمشكلة التضخّـم هو التوبة ، والإستغفار ، قال تعالى : (فقُلْتُ استغفروُا ربّكم إنّه كانَ غفَّارا * يرسلُ السّماءَ عليْكمْ مِدْراراً * ويمُددْكُم بأَمْوال وبنينَ ويجعلْ لكمُ جنّاتٍ ويجْعل لكُمْ أَنهْاراً ) ، ثم ترك كلّ الذنوب المسببّه له ، وتعزيز الإنتاج المحلي ، ومحاربة الإحتكار ، وفرض الرقابة على السلع ، وإنزال العقوبـة على الجشعين من التجار ، ودعم الدولة للسلع الضرورية ، والحاجية ، وسعر صرف العملة ، وتطوير النظم الإقتصادية ، وإزالة الضرائب ، والرسوم ، التي ترهـق المواطنين ، وإشاعة ثقافة الإدخار ، والإقتصاد في سبل المعيشة ،كما قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّالْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) .
وأعـظم من ذلك كله ، العناية بإقامة الصلاة ، قال ابن كثير رحمه الله :
( وقوله : ( وأْمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ، لا نسألك رزقا نحن نرزقك ) يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب ، كما قال تعالى : (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب )وقال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) ولهذا قال : ( لا نسألك رزقا نحن نرزقك ))
ذلك أن الصلاة هي زكاة الوقـت ، فمن أداها بورك له في وقته ، وإذا بورك له في وقته ، صار ما يكسبه فيه من المال مباركا عليه ، وعلى أهله ، إذ كان يقيمها ويصطبر على أمر أهله بإقامتها ، فأقيم له رزقُه أحسن قيام.
والله أعلم
( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ) .
الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 09/02/2008 عدد القراء: 12248
أضف تعليقك على الموضوع
|