تسائل عنه أمــــه : أين داره؟ *** ويذري أبوه الدمع في كل مهـرق
ويسألني أبناؤه عـــــن معاده *** بنــي بــه يوم المعاد سنلتقـي
ففي كل بيت صوت ثكلى مرنة *** وتحنـــــــاك باك بالأسى متمنطق

ثم تحاملت جنين بعد الفاجعة على نفسها ، فوقفت ورفعت رأسها ، والدموع من عينيها تنحدر ، والدماء من أشلاءها تنهمر ، فأبصرت مباني كالحة ، عن العدل جانحة ، وفوقها لافتة مسطور عليها : ( الأمم المتحدة المتسامحة ) ... فبصقت جنين عليها ، ثم حانت منها التفاتة أخرى ، إلى جهة الشمال من تلك المباني ، فرأت تمثالا لامرأة تحمل شعلة الحرية ، فبصقت ثانية ... وحق لها .

قال قنصل فرنسا في القدس خلال النصف الأول من القرن العشرين واسمه (رينيه نويل) ، والذي عاصر وعد بلفور الشهير (1917) ، قولة حكيمة شهيرة ، قال : [إذا أقيمت دولة يهودية فى فلسطين ، فستخسر فرنسا العالم العربي ، وتتزعزع مصالحها فى العالم الإسلامي ، واليهود الذين يقدمون أنفسهم على أنهم متسامحون وديمقراطيون ومحبون للخير ، فى لحظة أن تصبح لهم دولة ، فالويل كل الويل لغير اليهود من العرب ، فسيعاملون فيها بقسوة غير مسبوقة ، وسوف ينفون أو يعاملون كعبيد] .

وقد أصاب وأخطأ ، أصاب في حكمه على اليهود ، وأخطأ في حكمه على العرب ، فلم تفقدهم فرنسا ولاغيرها ، ذلك أنه لم يبق فيهم حراك ، حتى الكلام غدا كأنه الحرام ، وصدق فيهم تندر الشاعر الساخر الرصافي إذ قال :

يا قوم لا تتكلمـــوا *** إن الكــلام محـــــــرم
ناموا ولاتستقيظوا *** ما فـــــــاز إلا النــوم
من شاء منكم أن يعيـ *** ش اليوم وهو مكــرم
فليمس لاسمع ولا *** بصر لديـــه ولا فــــم
وإذا ظلمتم فاضحكوا *** طربـــــــــا ولا تتظلموا
وإذا أهنتم فاشكروا *** وإذا لطمتــــم فابسموا

لم تفقدهم فرنسا ولاغيرها ، ولكنهم هم الذين فقدوا كل كرامة ، عندما ارتموا في أحضان الذل ، راضين بألقاب وأسماء التبجيل والتعظيم ، التي ما لبثت حتى انكشف زيفها .

رتب وألقاب تغر وما بها *** فخر لحاملها ولا استعلاء

ثم أحست جنين بصوت ناداها من تحتها أن لا تحزني ، فدماء أبطالك لم تذهب سدى ، لقد ارتوت منها أرضك الطاهرة ، ولقد غارت في أحشاءك فحسب يا جنين القسام ، غارت في رحمك يا ارض الجهاد ، ومنها سيتخلق جنين النصر بإذن الله ، النصر الذي يعرف طريقا واحدة :

هذى يهود ليس يفهم جندها *** إلا حديث النـار أو لغــــــة الدم
كثرة لغات العالميـــــن وهذه *** أوفى بيانا في اللسان وفي الفم

في الأسبوع الذي سبق اجتياح جنين ورام الله ، ولد مائة طفل فلسطيني ، في مستشفيات الضفة الغربية ، وفي أسبوع الاجتياح وحصار غزة ، ولد أكثر منهم في البيوت لعدم قدرة الأمهات الوصول إلى المستشفيات ، وأضعافهم كل يوم يولدون ، وإنهم لقادمون ، وعلى طريق النصر يسيرون ، ومهما طال الزمن سيبلغون :

يرقى الذرى ويعيش مغتبطا *** شعب على أعدائـه خشن
شعــــب يحب بلاده فإذا *** هانت فما لبقائه ثمـن