لصوص المونديـال!
حامد بن عبدالله العلي
ما أرى الأمريكيين يثيـرُ قلقهم هذه الأيام ، شيءٌ أكثر من توقعهـم صدور شريط قادم لأسامة بن لادن يشمت بهم بعد فضيحة الوكيليكس ، كان الرجل يقول للعالم إنّ هؤلاء الذين يتعاملون مع العالم بعقول الأطفال التي لاتفهـم ، ونفوس الوحوش التي لاترحـم ، يستحقون ما نفعل بهم ، ثم جاء الويكليكس فنشر مئات الآلاف من الوثائق !!
ما بال أوليـاء الطغاة لايصطلون إلاّ بنارهـم ، ولا يعذَّبون إلاّ بسيـاطهم ، سبحـان الله ، ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ، فلما كفر قال إنـّي بريءٌ منك ) .
دعونا من الويكيليكس فإنها أضحـت الناطقـة بألف ألف لسان ، المجادلة عن نفسها ، لاتحتاج إلى غيرها ، ولاريب أنّ قنبلتها العنقودية ستأخذ أقصى مدى في الزمان ، وهي تفجّر فضائحها المتتالية إلى أمـدٍ لايعلمه إلاّ الله تعالى ، فهي بتدمير أعدائهـا كفيلة .
ولنأخذ في شأن هذه الهستيريا البلهاء التي تُسمَّى (المونديال) !
يقول السير توماس أرلوند في كتابه العجيب ( الدعوة إلى الإسلام ) ص 7 : ( ويظهر أنّ أخلاق صلاح الدين ، وحياته التي انطوت على البطولة ، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيراً سحرياً خاصاً ، حتى أنّ نفراً من الفرسان المسيحيين ، قد بلغ من قوة انجذابهم إليه ، أن هجروا ديانتهم المسيحية ، وهجروا قومهم ، وانضموا إلى المسلمين ، وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانية فارس انكليزي من فرسان المعبد يدعى روبرت أوف سانت ألبانس Robert of St. Albans عام 1185 م واعتنق الإسلام ، ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين وبعد عامين غزا صلاح الدين فلسطين ، وهزم الجيش المسيحي هزيمة منكرة في واقعة حطين ، وكان جوي ملك بيت المقدس بين الأسرى ، وحدث في مساء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه ، وفرُّوا إلى معسكر صلاح الدين بمحض إرادتهم ).
جاء في كتب الأدب أنّ كبشة بنت معد يكرب الشاعرة الجاهلية ، عاتبت أخاها عمرو بن معد يكرب ، تعيـِّره بميله إلى قبول دية أخيه المقتول ، فقالت :
ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم ** وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم ؟
وهي ترمي إلى أن همَّته تعلقت ببطنه _ وما هي إلاّ شبـر طعام _ ولهذا آثر الدية على كرامة أخذه بالثأر ، لكنه لما سمع بيتها ، نهض بعدُ وأخذ بثأر أخيه .
وأظن أنَّ العلامة الندوي علـّق على هذا البيت بأن كيف لو رأت كبشة معدة هذه الجاهلية المعاصرة ، وقـد تمدَّدت حتى وسعت الأرض .
وأقول فكيف لو رأت كبشة ، ثم العلامة الندوي ، أنَّ الهمة نزلت حتى تعلقت بأسفل ما في الإنسان وهو قدمه ! وصار الركض وراء الجلود المنفوخة ، هو المجد الأعلى ، والفخـر الأولى !
حياة صلاح الدين ، وأخلاقه ، وبطولاته ، التي تحدث عنه السير توماس أرلوند ، إنـما نبتت من أرض سُقيت بثقافة الهمم العالية ، وأشرقت عليها شمس تشعُّ معالي الفضائـل ، وتنفَّست هـواء أمجاد البطولة الحقيقية ، بطولة التضحيات العظيمة في سبيل العـزَّة السامية .
ولم يكن صلاح الدين ليحرِّر الأقصى ، ويعيد لهذه الأمة العظيمة عزّتهـا بعد نحـو قرن من إحتلال الصليبين للقدس ، إلاّ ومعـه جيـلٌ نبت معه ، من نفس تربته ، وأشرقت عليه تلك الشمس ، وتنفّس ذلك الهواء النقي.
يقول المؤرخ البريطاني Stanley Lave في كتابه عن حياة صلاح الدين ، واصفا الجيل الذي كان مع صلاح الدين : ( لقد وقف العالم المسيحي وقفة رجل واحد إزاء المسلمين ، ولكنّه لم يستطع أن يزحزح صلاح الدين عن مكانه ، كان جيش صلاح الدين قد أعياه الجهاد الطويل ، والمتاعب العظيمة ، وقد ظل أعواماً طوالاً مرابطاً ، مناضلاً ، مكافحاً عدواً قوياً جـداً ، لكن لم يسمع من جندي واحد أنين ، أو شكاة ، أنهم لم يتأخروا يوماً في الحضور ، ولم يضنوا قط بالنفائس ، والنفوس ، كلّما دعاهم صلاح الدين للجهاد ، وكلّما استفزهم للقتال ، وربما شكا أحد الأمراء التابعين له في بعض أودية دجلة البعيدة من هذه النجدة التي لا تكاد تنتهي ، ولكن قدموا ببعوثهم ، وحضروا بجيوشهم لنصرة السلطان كلَّما طُلبوا . وقد قاتل الجيش الموصلي بكـلّ بطولة ، وحماسة في حرب أرسوف الأخيرة ، وكان السلطان واثقاً بأنـّه سيأتيه المدد من جيوش مصر ، والعراق ، وكذلك من جيش الشام الشمالي ، والمركزي ، وكان التركمان ، والعرب ، والمصريون ، خدمة أوفياء للسلطان ، وحضروا كالعبيد كلَّما طلبهم السلطان ، وقد مزج السلطان هذه العناصر المختلفة مزجاً غريباً ، وألف بينهم رغم ما فيها من اختلاف في الجنس ، والقومية وما بين أفرادها من خلافات داخلية ، ومنافسات قبلية فكانوا كالجسد الواحد) .
إنَّ الأمة اليوم وهي تسمع على مدار الساعـة ، ما يلقاه المسجد الأقصى من تهديدات تقترب من فاجعـة إنهياره ، في ظـلّ إنتشار الجيوش المحتـلّة للبـلاد الإسلاميـة ، والقواعد الصليبية المنتشـرة حول فلسطين الحبيبة ، وعلى طول أصقاع الثروات من أفغانسـتان إلى جنوب السودان ،
هـي بأمسّ الحاجة إلى إشاعة الثقافة التي تثمـر مثل ذلك الجيل الذي كان مع صلاح الدين فحرر الله بهم الأقصى ، فرسموا بأحرف النور ، عنوان المجـد على نجوم سماء العـزّة .
ولاريب أنَّ أعظـم كارثة تمر بها الأمة اليوم ، بلاؤها بهذه الأنظمة العربية ، التي غدت وكأنها ليس له هـمّ ، إلاّ توفيـر جميع أسباب الضعف ، وعوامل المهانة لأمّتنا ، وقيادتـها إلى مهاوي الإنحطـاط ، وذلك بصناعة جيـل عابث ، فاقـد الإنتمـاء ، مبلبل الأفكار ، مشتت الهوية ، تائه الأهـداف .
ومـا أمـرُ هذا الذي يُسمَّى ( المونديال ) عن هذا ببعيـد ، ولا نقصد هنا الرياضة ، فالرياضة في شريعتنا مباحة ، وقد يُندب إليها _ وما يحقق مصلحة الجهـاد يجب في بعض الأحـوال _ إذ كلُّ محبَّب للنفس ، مثير للبهجة ، مفيد للحياة ، مشروع في الإسلام ، مرغـبٌ بـه في دين السماحة .
غير أنّ حكاية ما يسمى ( المونديـال ) ليس بهذه البساطة ، إنها شيءٌ آخر تماما ، إنها قصّة اللصوصية في أجلى تجلّياتهـا ، ولا نقصد هنا ما في منظمة ( الفيفا ) من فسـاد مالي ، ورشـوة _ إذ هي من أكثر المنظمات فســادا في العالم _ بل نعني أمـرا آخـر !
فأوّل شيء يُسرق فـي بيع أوهام المجد المزيَّف هـذا ، مجـد الأقدام الراكضة ، من (العارضة) إلى (العارضة) ،
هــو هويـّة الجيـل ، وأخـلاقه .
ولتنظروا إلى أولئك المساكين الذين خرجوا يصيحون في الشوارع ، كأنهم قد زُفَّ إليهم نبـأ تحريـر الأقصى ، كيف غـُرز في نفوسهم ، أنَّ ( المونديـال ) هو أسمى غايات الحياة ، وأعلـى سلَّم الهـمم ، وأعظـم إنجازات الأمـم !!
ولهذا ، فلاريـب أنّ كلَّ شيءٍ في قطـر سيُسخَّـر إلى أن يأتي عام 2022م ، من أجـل تحقيق نجاح موهوم ، وشرف معدوم ، في شهر واحـد لـن يتكرر في التاريخ !
وهذا يعني أنْ تفتح الأبواب على مصاريعها لكـلّ فساد يرغب القادمون من أنحاء العالم أن يرثعوا فيـه ، وهم في (دوحة المونديال) ، إثنائـه ، أو قبل ذلك ، من الشركات التي ستعـدّ البـلاد لشهـره المنحوس !
وأنـَّه كلَّما علت أصوات الغيورين على هوية المجتمع من الضياع ، سيقال لهم أتريدون أن يفشـل ( المونديال ) ؟!
وسيتحوَّل المونديال إلى إلـه يُستباح لـه كـلّ محرم _ من الخمور إلى الدعـارة _ كل محـرَّم حرَّمـه ربُّ العالمين ، في شريعة سيـِّد المرسلـين ، حتى يرضـى !
وسيُقضى على ما تبقـَّى في قطر من سمات المحافظة الفاضلة ، في شعب طيب كريم محـبِّ لدينه ، معـتزّ بإنتمائه لأمّتـه .
كلُّ ذلك بإسـم ( صنم المونديال ) ، فالمونديال قـد يلزم لـه صالات الرقـص ! والمونديال لايحقق أهدافـه على التـمام إلاّ بحانات الخمـر ، والمونديال لايتوقع نجاحه إلاّ بتعليم شبابنا ثقافـة التحـلُّل ، وشاباتنا فنون الترحيب بالضيوف بالهـزّ ، واللـزّ !
وأما السرقة الثانية فهي سرقة المفاهيـم الحقـّة في الأمـَّة ، مفاهـيم البطولة الحقيقية ، والإنجاز الذي يستحق الإعتزاز ، وذلك بتزييف ( الوعي المفاهيمي ) لدى الناس ، بإضفـاء ألقاب البطولات ، والأمجـاد ، والإنجازات العظمى ، وتحقيق الأهداف العليـا ، على ما ليس له من هذا كلـَّه أدنى نصيب ، على ركض ، ولعب ، ولهـو ، لاينتهي بالناس إلى صلاح في دينهم ، ولا إصلاح في دنياهـم !
ثـمَّ تكريس هذا الزيف حتى يصبح هـو ثقافة الناس ، فلا يبقى في عقولهم ، وقلوبـهم مكانٌ لسواها ، ويلتهون بذلك عن كـلّ مهم من قضايا أمّتهم .
وأما السرقة الثالثة فهي سرقة الثروة ، ثروة الأمـّة التي هـي عزًُّها ، وسـرُّ قوّتهــا ، ومعقـد نهضتها ، وقـد غـدت في هذا العصـر نهبـاً لكلّ ناهب ، وسلبـاً لكلِّ سالب ، من أجنبيّ يسخـّرها لهيمنته ، وأنظمة تستنزفها في ملذاتهـا ، وأطماعهـا .
فسيُهدر على إنجاز هذه (الأوهام المونديالية) ، مئات المليارات _ في وقت ترزح فيه الشعوب العربية بالفقـر ، والجوع ، والجهـل _ تتقاسم أرباحها الشركات الأجنبية الغربية ، والمتنفّذين المحلييّين ، ويجري تحت ذلك مالايحصيه إلاّ الله من التجاوزات _ كعادة البلاد العربية _ بلا رقيب ، ولا حسيب ، فلا يوجد في بلادنا العربيـة ، مجلسٌ نيابـيُّ يمارس دورا رقابيا حقيقيـا على المال العام ، ولا مؤسسات مدنيـّة تتحــرّك ضـد هذا الفساد محميـّة بالنظام نفسه ، وتدعمها صحافة حـرّة .
لقد أصبح المونديـال أهم من مشاريع الإنقاذ السياسية التي تحقق لشعوبنا آمالها ، وترقى بها إلى مصاف النظم السياسيّة المتطوِّرة ، التي تنتخـب فيها الشعوب قيادتها ، وتحاسبها ، وتسخـّر إمكانات الأمـّة ، وثروتها لمصلحة الأمّـة وعزّتـها .
وأضحى المودنيـال أولى من قضايا أمتنـا التي تعاني ما تعانيـه من تكالب الأعداء ، وخيانـة الأبنـاء ، وعلى رأسها قضية الأقصى السليب.
وغـدا مقدَّما على كلّ مشاريع التنميـة التي تفتقـر إليها شعوبنا .
والسرِّ وراء ذلك ، أنَّ ( المونديـال ) هو مصدر المال ، معبود الأنظمـة العربية ، أمـّا مشاريع الإصلاح الحقيقية فهي مصدر الإزعاج والقلق بالنسبة إليها !!
هذا ولا يظننّ أحـدٌ أنَّ الدول الأخـرى ليسـت بأحرص على مثل هذا السقوط ، بل هي أضحـت متحسِّرة على مالـم تنل ، حاقدة على قطر حقد الجمـل !
ولو قيل إنَّ هذا كلَّه قـد أُعـدِّ سلفا لتحقيق ما ذكرت ، وللوصول إلى ما إليه أشرت ، لكي تغـرق الشعوب العربية أكثـر بهذه الأوهام .
لاسيما والتهديدات على المسجد الأقصى بلغت ذروتها ، وتهويد القدس ماض بلا هوادة ، والمخطط الصهيوغربي يعـدُّ خططا جديدا لتفتيت الأمة ، أشدّ مما هي مفتتة ، وتمزيقها أكثر مما هي ممزقة ،
فليس ببعيـد قوله ، ولكن يبـدو أنـَّه لم يعـد ثمة حاجة إلى عقد هذه المؤامرات الخفيـّة ، بينما الأنظمة العربية أصبحت تتحرك تلقائيا وفق خطط الإنحطاط بالأمـّة بسبب ما أحاط ويحيط بها من ظروف وجودها ، وإستمرارها ، فكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضح !
وأخيـرا فإنَّ المكلَّف شرعا اليوم _ فرضا جازمـا _ بمراقبة ما يجري في قطر من خطط خطيـرة لتهيئة المجتمـع القطري لتغييرات مخيفة ، تحت شعـار ( ثقافة مونديال 2022م ) .
هـم العلماء ، والدعاة ، والغيورون على دين الناس، وأخلاقهم ، وهويتهم.
فعليهم أن يؤسِّسوا من الآن هيئة رقابة صالحـة ، تقوم بواجبها بالوسائـل المشروعة ، يُختار لها من أبناء المجتمع القطري الكريم ، صفوة منتقاة ، فيتابعون ما يجري عن كثب ، ويقومون بما يجب عليهم من واجب حماية الدين ، والذود عن الهوية الإسلاميـّة ، والدفاع عن الأخلاق ، ووقايـة المجتمع القطري من فيروسات الرذائل ، وجراثيـم الفساد.
لاسيما والناس تسمع عما يجري من تغريب مخيف في المجتمع القطري آخـذٌ بالإنتشـار سريـعا ، بالإضافة إلى تفريـخ مفزع لمؤسسات تخريب الهوية التي تتكاثـر وسط صمـت غير مقبـول ّّ! وسكوت غير مسؤول !
والله المسـتعان
اللهم إنـّا قد بيّنـا ، وعليك اللهمّ البلاغ ، والله حسبنا ، عليه توكلنا وعليه فليتوكـل المتوكـلون. الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 07/12/2010 عدد القراء: 27170
أضف تعليقك على الموضوع
|