الحمد لله والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
مقدمـّـة
قال الحـقُّ سبحانه : ( وأمرتُ لأعدلَ بينكم ).
وقال : ( ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ).
وقال : ( وكذلك أخذُ ربِّكَ إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إنَّ أخذه أليمٌ شديد ) .
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : ( ما من عبد استرعاه الله رعيّته ، فلم يُحطها بنصحه ، إلاّ لم يجد رائحة الجنة ) رواه البخاري ، وعند مسلم ( إلاّ حرم الله عليه الجنة )
وقال صلّى الله عليه وسلّم : ( من أعان ظالما ليدحض بباطله حقـّا ، فقد برأت منه ذمّة الله ، وذمّة رسوله ) رواه الحاكم وغيره
مقتطفات من رسالة القاضي أبي يوسف إلى الخليفة الرشيد رحمهما الله :
( وليس شيء أحبُّ إلى الله من الإصلاح ، ولا أبغض إليه من الفساد ، والعمل بالمعاصي كفرٌ بالنعم ، وما كفر قومٌ قطّ النعمة ، ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلاّ سُلبوا عزَّهم ، وسلّط الله عليهم عدوَّهم )
( فاحذر أن تضيّع رعيَّتك فيستوفي ربها حقُّها منك ، ويضيّعك بما أضعت ، وإنما يُدعم البنيان قبل أن ينهدم )
( واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد ، ولاتخف في الله لومة لائم )
( وجورُ الراعي هلاكٌ للرعية ، وإستعانته بغير أهل الثقة ، والخير هلاكٌ للعامة )
( فلا تلق الله غـدا وأنت سالكٌ سبيل المعتدين ، فإنَّ ديـّان يوم الدين ، إنما يدين العباد بأعمالهم ، ولايدينهم بمنازلهم ، وقد حذَّرك الله فاحذر )
قال ذو عمرو حكيم اليمن لجرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه : ( يا جرير إنّ لك عليّ كرامة ، وإنّي مخبرك أمراً ، إنّكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أميـر ، تآمرتـم في آخـر ) فتح الباري 9/139 ، ومعنى ما قال أي لايزال أمركم بخير ما دمتم تنصبون عليكم أمراءكم بالشورى ،
( يا أيها الملوك لاتغتروا بما لكم من المال والملك ، فإنّكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ، ويا أيُّتها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك ، أفما تخافون سياسة ملك الملوك ) الفخر الرازي في تفسيـره 1/193
( ما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل إن لـمْ يصدّها الهوى ) ! عبدالله بن المعتـز ، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 219
( ولايتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى ، والحكم بالحق إلاَّ بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، وإستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن ، والإمارات ، والعلامات حتى يحيط به علما
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه ، أو على لسان رسوله ، فـي هذا الواقع ) الإمام ابن القيم ، إعلام الموقعين 1/383
وبعــد :
إقامة الدولة العادلة من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية ، ومقوّمات وجود الأمّـة :
فمن المعلوم المتقـرِّر في هذه الشريعة العليّة الحكيمة ، أنَّ الدولة العادلة من أهـمّ مقوّمات وجـود الأمـّة ، وبغيرها لا تؤدّي الأمّة رسالتها الحضارية ، وأنَّه يجـب على الأمّـة الإسلامية ، أن تقيـم نظامَ الحكم الذي يحـقِّق العدل ، ويحـارب الجور ، ويحفظ مصالح الناس ، ويدرء المفاسد عنهم ، وهـو من أعظـم الفروض على هذه الأمـّة العظيـمة .
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( يجب أن يعرف أنَّ ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيــا إلاّ بها ) مجموع الفتاوى 28 /390
وأنَّـه يجب على الأمـَّة أن تسعى لإصلاح أي نظام حكم يُقـام على غير هذا الأساس ، فتختـلّ فيه العدالة ، وينتشر الجور ، وتضطرب مصالح الناس ، وتحـلّ فيهم المفاسد الدينية ، والدنيوية .
وهذا الفرض أعظم بكثيـر من قيامها بإنكار شرب الخمر ، والزنا _ مثلا _ فضلا عن إنكار التبـرُّج ، والإخـتلاط .. إلخ !! وغير ذلك من المنكـرات ، إذ فساد السلطة هـو ينبوع كلِّ فساد في الناس ، وظلمُها مجلبة للمحق العـام لجميع مصالحهم ، بل لزوالهـم ، وحلول العقوبة الشاملة عليهم .
كما في الحديث : ( إنَّ الناس إذا رأوْا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده ) رواه احمد وأصحاب السنن.
وفي الترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً : ( والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكنّ أن يبعث عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) .
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ولهذا كان أولوا الأمر هم العلماء والأمراء إذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس ،ولما سألت الأحمسيّة أبا بكر الصديق ما بقاؤنا على هذه الأمـر ، قال : ما استقامت لكم أئمتكم ) انتهى ،
وإنما عنت السائلـة بقولها : (الأمر ) ، استقامة الحال ، وصلاح الأحوال ، واجتماع الشمل ، وانتشار العدل ، خلاف ما كانوا عليه في الجاهلية ، فبيـَّن لها أنَّ ذلك مرهون باستقامة السلطة ، وهو أمرمعلوم بضرورة العقل ، وشهادة الواقع ، والحس ،
ومن الخطأ الشائع الظن أنَّ فساد السلطة نتيجة لفساد الرعية ، والعكس أولى بالصواب ، غير أنّ الرعيـّة تعاقب على سكوتها عن ظلم السلطــان ، ورضاها به ، باستدامة ذلك الظلم عليهم جـزاء وفاقـاً ، ولا يظلم ربك أحداً .
ولهذا ورد في السنة كما في صحيح مسلم أنَّ من الخِلال الحسنة في الروم كونهم أمنع الناس لظلم الملوك ، ولما كانت هذه الخُلـَّة الجميلة فيهم ، لا يكاد يُسلَّط عليهم ظالمٌ من أنفسهم ، يستبيحهم كما يحدث عند غيرهم .ولهذا السبب _ أعني كون فريضة تقويم السلطة عظيمة جـداً في هذا الدين _ صار أعظم الجهاد ، ما يكون في تقويم إنحراف السلطة ، وإصلاحها ، كما روى النسائي عن طارق بن شهاب البجلي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز .. أي الجهاد أفضل ؟ قال : ( كلمة حق عند سلطان جائر ) ، وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتلـه ) رواهالحاكم ، والضياء في المختارة .
ومعلوم أنَّ الجهاد أفضل متطوع به ، وفي هذا الحديث أن أفضله ، هو كلمة الحقِّ الناقدة لجور الحاكم ،
فهذا نص واضح في أنَّ جهود إصلاح الأنظمة المنحرفة ، بالوسائل المشروعـة المعتبرة ، أفضل الجهاد في سبيل الله تعالى .
وليس في هذا الحـديث ونظائره ، ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد ، بل هو بالحضِّ على إعلانها أوضـح ، إذْ ما جُعلت أفضل الجهاد إلاّ من أجل أنّ في الإعلان التعرُّض لبطش الظالم ، وفي ذلك أعظم البذل للجهد ، وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى ، ولأنَّ في الجهـر والإعـلان تخويفُ الحاكم الجائر ، من تشجيع المجاهر بالإنكار لغيره على الإنكار أيضاً ، مما يؤدي إلى ارتداعه عن الظلم ، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها .
وإما الإسرار فليس فيه في الغالب بذل النفس ، لأنـّه ليس مظنّـة الأذى أصـلا ، بل قـد أصبح الإسرار بالنصيحة للسلطة اليوم ، مـن الوسائل السياسية الماكرة التي تُضفي على الظلم شرعية زائفة !
يستحيل تحقيق الدولة العادلة في هذا الزمن بغير رقابة فعّالة على السلطة تقيّدُها وتحمـلها على مقتضى الإصلاح ، والعدل ، فإن تعذّر الإصلاح تغيـّرها.
هذا .. وقد تقـرَّر شرعـا ، وعقـلا ، وواقعـا ، إستحالة أن يؤدِّي نظام الحكم دوره الأساس وهـو الإصلاح ، والعدالة _ لاسيما في هذا العصر _ إلاّ بوسائل الرقابة ، والمحاسبـة ، التي تملك القدرة على الإصلاح الفعلي ، لامجرد البيان القولـي وترك السلطة سادرة في غيِّها ، وجوْرها !
ولهذا فإنَّ تقييد السلطة في الإسلام كما هو فريضة دينية ، هـو أيضا ضرورة اجتماعية ، وذلك انطلاقاً من حقيقتين اثنتين :
الأولـى : أن تولـّي السلطة مع احتكار أدوات القوة ، والقدرة على استعمال العنف بلا قيود ، مدعاة إلى الاستبداد ، ضرورة انقياد الطبيعة البشرية لحبِّ التسلط المركوز فيهـا ، وهذه الطبيعة وإن كانت يمكن معارضتها بالوازع الذاتي ، غير أنـَّه محجوبٌ في طيِّ القلوب ، ولا يمكن ضمانه ، أو ضمان استمراره ،
فضلاً عن أن باب ارتكاب المحظورات بالتأويل مفتاحـه هـو الاستبداد بالرأي ، وهـو ملازم للسلطة المطلقة من القيود ، وهذا الباب قد دخل منه من ظـُنَّ فيه الاستقامة ، والمثاليـّة ، وقوة الوازع الذاتي ، الذي يُفتــرض أن يمنع من سوء استعمال السلطة ، إلى ارتكاب عظائم من التعسُّف في استعمال السلطـة باسم الديـن !
الثانيـة : أنَّ تضخم أجهزة ، وآلات السلطة في العصر الحديث ، وتشعُّبها إلى مختلف أنشطة الحياة ، وتملُّك السلطة إلى جانب أدوات العنف ( الشرطة ، الأمن ، الجيش ، أجهزة الاستخبارات . . إلخ )، أدوات تمكّنها من صناعـة العقول ، وصياغتها ، وكذا خداعها ( الإعلام ، التعليم . . إلخ ).
إضافـة إلى سيطرتها على أدوات التحكُّم في موارد الإنتاج ، ودورة الاقتصاد ، وبالتالي مستوى حياة الأفراد المعيشية ،
يعني منحها قدرة مطلـقة على تحكُّـم كامل في المجتمع ، وإخضاعه بالقوة بشتى أنواع الإخضاع .
ولاريـب أنَّ هذا يعنـي أنَّ ترك السلطة التي هذا شأنها بلا قيود تردعها عن الجـوْر ، يعنـي تعريض الأمـّة لكوارث شاملة تهدِّد وجودها .
وكم من أمم ودول زالت ، ودُمـِّرت ، بسبب الاستبداد وترك السلطة بلا قيود ، مما أغراها بالظلم ، والطغيـان ، حتى حلَّ بسبب ذلك الدمار ، وأدركها وعيد الله تعالى الذي توعّـد به الظالمين ، في آيات كثيرة في القرآن العظيـم .
ومن يقــرأ تاريخ الأمم يلحظ بوضوح تلك النقطة البارزة التي كانت وراء الدمار الهائل الذي أصابها في كثير من الأحيان ، أعنـي استبداد الدولة.
هذا .. ومـن المعلوم أنَّ الإسلام قد جاء بتحصيل المنافع ، والمصالح ، منافع ، ومصالح الناس في دينهم ودنياهم بحسب الاستطاعة ، وإلغاء وتفويـت المضار ، والمفاسد في الدين ، والدنيا ، بحسب الاستطاعة ،
فلا يمكن أن يكون هناك شأن من الشئون ، الناس معــه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، في حال تفرُّدهم ، واجتماعهم ، وإلاّ ويأتي في الإسلام الأمر به ، والحث عليه ،
ولهذا فقـد سبق الفقه الإسلامي جميع النظم الوضعيّة في تقرير هذا المبدأ العظيـم ، مبدأ تقييد السلطة ، ورقابة الشعب للدولة .
مشروعية وسائل الإحتجاج السلمي لتتغيير والإصلاح في الشريعة الإسلامية
ولهــذا نجــد جميع الآلات ، والوسائل ، التي تستخدمها النظم الحديثة لردع السلطة عن الظـلم ، وضمان تحقيقها العدل ، والمصالح ، أي ضمان عدم انحراف الدولة عن مقصودها الأساس ، نجـدها منصوصٌ عليها ، أو مدلول عليها بالأدلة العامة ، أو القواعد الكلية ، أو القياس المضطرد الصحيح في الشريعة الإسلاميـة ، وقد أخـذ بها علماء الإسلام قبل النظم الوضعيّة بقرون .
غير أنَّ الفقه الإسلامي في نصوصه العامة ، ومصادره الأصلية _ في عامّة القضايا المتعلقة بتنظيم الحياة المتغيرة ، والمتطورة _ إنـّما يوجـّه نحو المعاني ، والحقائق العامـّة ، ويحـرّك عوامل التفكـُّر ، والتدبـُّر ، ويدع للإنسان التفريعَ على القواعد ، حتى يمكـن استيعاب المتغيـّر .
ولهذا جاء في القواعد الفقهية : أنَّ الوسائل لها حكم المقاصد ، ليتسنَّى للمسلمين الإستفادة من كـلِّ وسيلة جديدة تحقق مقاصد دينهم ، المنطويـة كلُّها تحت هذا العنوان العظيـم : جلب المصالح ، ودرء المفاسـد .
كما قال الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله : ( واعلم أن الذريعة كما يجب سدُّها ، يجب فتحها ، ويكره ، ويندب ، ويباح ، فإنّ الذريعة هي الوسيلة ، فكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة ، فوسيلة الواجب واجبة ، كالسعي للجمعة والحج ، وموارد الأحكام على قسمين :
مقاصد : وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها
ووسائل : وهي الطرق المفضية إليها ، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم ، أو تحليل ، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد ، أفضل الوسائل ، وإلى أقبح المقاصد ، أقبح الوسائل ) الذخيرة 1/145
لايشترط أن تكون الوسائل مستعملة في زمن النبوة حتى تكون مشروعة
هذا .. ولايشترط ، عند جميع الفقهاء ، أن تكون هذه الوسائل مستعملة في زمن النبوَّة _ وإلاّ لما قيل الوسائل لها حكم المقاصد _ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وهذا باب واسع بسطناه في غير هذا الموضع وميّزنـا بين السنة ، والبدعة ، وبيّنـا أنَّ السنة هي ماقام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ، ورسوله ، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فُعل على زمانه ، أو لـم يفعله ، ولم يُفعـل على زمانه ، لعدم المقتضى حينئذ لفعله ، أولوجود المانع منه ) مجموع الفتاوى 21/381 .
كما لايمنـع مـن الإستفاده منها ، كونها من إختراع غير المسلمين _ وسنبيّن أنها كانت في التاريخ الإسلامي أصـلا _ كما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في النفع الذي يفعله المسلم ، وغير المسـلم ، كالبناء ، والخياطة والنسيج ، والصناعة ، ونحو ذلك أنه يجوز أخذه من غيرالمسلم , ينظر الفتاوى 30/206 ،
وذكر أنه لهذا أجاز المسلمون استعمال القوس الفارسية بعد فتح فارس في عهد عمر رضي الله عنه ،
وقد استفادوا بعد الفتح بعض التنظيمات الإدارية مـن غير المسلمين ،
يُنظـر فيما تقدم التفسير الكبير لابن تيميه 7/547 ،548 ويُنظر أيضاً مجموع الفتاوى 31/85 .
ومعلوم أنّ الصناعات والتنظيمات الإدارية – على سبيل المثال – التي أنشأها غير المسلمين ، قد تصير وسائل لإنكار المنكـر ، والدعوة إلى الله تعالى ، والإصلاح ، ومن ذلك إصلاح النظام السياسي ، وفي هذا العصر السريع التطور ، قـد تداخلت الوسائل الإدارية ، والمادية التي تنظم شؤون الناس بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ ، ولا يكاد شيءٌ منها يختص بجنس من البشر حتى يقال أنه من عمل الكفار دون المسلمين !
ولهذا تجد المانعين لبعض وسائل تقييد السلطة ، ومحاسبتها ، كالمظاهرات السلمية ، محتجين بأنها تشبُّه بالكفار ! لابد أن يتناقضوا تناقضاً بيناً ، فهم يستعملون من الوسائل الحادثة ما لايُحصـى كثـرة ، ويجيزونه في وسائل الدعوة _ مثـلا _ فإذا جاءت وسائل الحسبة على السلطة التي هي أعظم نفعا ، وأوسع فائدة لأهل الإسلام حظروها ، وحاربوهـا أشـدّ الحـرب ؟!!
أمثـلة على دخول المظاهرات ، وسائر وسائل الإحتجاج السلمي في الوسائل المشروعـة لإصلاح السلطة ، وتقييدها ، وردعها عن الظلم .
وهذا كلُّه يدلّ على أنَّ المظاهرات وغيرها من وسائل الإحتجاج السلمي إذا صارت وسيلة لجلب المصالح ، ودرء المفاسد ، وعادت بالخير على المجتمع ، بتقييدها السلطة ، ثـمَّ حملِها على تحقيق العدالة ، وإصلاح الأحوال ، وإرجاع الحقوق ، ورفع الظلم ، فهي مشروعة ، وقـد تكون واجبـة .
وحتى لو كانت تمُنـع فيما مضى في زمن لاتحقـِّق مصالحها ، فلايجب استصحاب التحريم في كـلّ عصر ، كما قال القرافي في فروقه : ( ما هو مبني على العوائد ، مما لايحصى عدده ، متى تغيرت فيه العائدة ، تغير الحكم ، بإجماع المسلمين ، وحرمت الفتيـا بالأول ) الفروق للقرافي 1/44
ومعلوم أنَّ المظاهرات ، وسائـر وسائـل الإحتجاج السلمي ، قد أصبحت في هذا العصر ، وسيلة ناجحة في التغييـر ، والإصلاح ، وهي تستعمل _ تقريبا _ كلَّ يوم في العالم كلـِّه ، وهي في عامتها تحقق مصالح الشعوب ، وتردع السلطة عن جورها ، وتعقبـها منافع عظيمة ، وما يحدث منها بضد ذلك ، في غاية الندرة ، مما لايلتفت إليه عند بناء الأحكام على مقتضى الوقائع ، كما هو متقرر في قواعد الشريعة .
وبهذا يكفي في الإستدلال على مشروعتها ، الإباحة الأصلية ، إذْ من قواعـد الشريعة العامة عظيمة النفـع ، أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة ، ولايحـرم منها شـيء إلاّ بدليـل.
كما يستدل أيضـاً بقاعدة الوسائل لها حكم المقاصد على ما ذكرنا قبل قليـل .
ومع ذلك ، ولأنَّ وسيلة الإحتشاد للتظاهـر ، مؤثـِّرة في التغيير الإصلاحي ، فقد استعملت في تاريخ أمّتنـا الإسلامية ، بالطبيعة التي أودعها الله في السنن الإجتماعية البشرية ، أنَّ الناس تجتمع فيما تشترك فيه ، وتستعمـل إجتماعها في تحقيـق أهدافهـا ، ولهذا أُسِّست النقابات ، والإتحادات ، والأحزاب ، ونحوها من التجمَّعات وجعل في يدها وسائـل تمكنها من نيل حقوقها بقوة الدسـتور ، في كلّ دول العالم المتحضّـر ، التي ترفض الإستبداد ، وتترفَّع عن الصيـغ المتخـلّفة للحكم !
ومن الأمثـلة على ما ذكرته من إستعمال وسائل الإحتجاج الجماعي في تاريخ أمـّتنا ، مـا في المنتظم للإمام ابن الجوزي رحمه الله قال _ بعدما ذكر إنتشار المفاسد في بغداد آنذاك _ : ( واجتمع الحنابلة في جامع القصر من الغـد ، فأقامـوا فيه مستغيثيـن ، وأدخلوا معهم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه _ أي فقهاء الشافعيـّة _ وطلبوا قلع المواخير ، وتتبع المفسدات ، ومن يبيع النبيذ ، وضرب دراهم المعاملة بها عوض القراضة ، فتقدم أميـر المؤمنين بذلك ، فهرب المفسدات ، وكبست الدور ، وارتفعت الأنبذة ، ووعد بقلع المواخير ، ومكاتبة عضد الدولة برفعها ، والتقدم بضرب دراهم يتعامل بها ، فلم يقتنع أقوام منهم بالوعد ، وأظهر أبو إسحاق الخروج من البلد فروسل برسالة سكتته ) المنتظـم 16/139
فهذه مظاهرة ، وإعتصام ، نظمهما علمـاء الحنابلة ، والشافعية معهـم ، لحمل السلطة على تتبّع الفساد ، فنجحت ، وآتت أكلَهـا ، ولم ينكرها أحـدٌ من العلماء ، إذ كيف ينكر فقيه وسيلـة إجتماعيـة لانص على تحريمها ، ومع ذلك تفضـي إلى مصلحة شرعية ؟!!
ومما ورد في تاريخنـا أيضـا من غير نكيـر من العلماء ، ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم أيضـا قال : ( واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية ، والنصرية ، وشارع دار الرقيق ، وباب البصرة ، والقلائين ، ونهر طابق ، بعد أن أغلقوا دكاكينهم ، وقصدوا دار الخلافة ، وبين أيديهم الدعاة ، والقراء ، وهم يلعنون أهل الكرخ _ أي منكرين لبدعة إظهار شتم الصحابة التي وقعت من أهل الكرخ _ واجتمعوا ، وازدحموا على باب الغربة ، وتكلّموا من غير تحفـُّظ في القول ، فراسلهم الخليفة ببعض الخدم ، أننا قد أنكرنا ما أنكرتم ، وتقدمنا بأن لا يقع معاودة ، فانصرفوا ) المنتظـم 16/94
فهؤلاء الدعـاة ، والقـرّاء ، تقدّموا المحتجّيـن المتظاهرين ضـد السماح ببدعة شتم الصحابة ، في مسيرة إلى دار الخلافة ، وتكلَّموا بغير تحفّظ في القول _ فلعلّهـم شتموا السلطة لتقصيرها في أداء واجبـها ! _ وكان مع هذه المسيـرة ، إضراب عن العمل ذلك اليوم ، بإغـلاق الدكاكين ، ولم ينكـر ذلك أحدٌ من العلماء ، إذ لايستنكـر مثل هـذه الوسائـل الإجتماعية السلميّة الفعّالة عاقل فضلا عن عالم !!
ومما ورد أيضا في هذا الباب ، مما في حياة شيخ الإسلام المجتهـد الإمام ابن تيمية الحنبـلي قال : ( فبلغ الشيخ أنّ جميع ما ذكر من البدع يتعمدها النّاس عند العمود المخلق الذي داخل ( الباب الصغير ) الذي عند ( درب النافدانيين ) فشد عليه ، وقام ، واستخار الله في الخروج إلى كسره ، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبدالله بن تيمية قال : فخرجنا لكسره , فسمع الناس أنَّ الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق ، فاجتمع معنا خلق كثيـر ) ص 10 رسالة بعنوان ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محبّ الدين الخطيب
فهذا شيخ الإسلام ، خرج معه خلق كثير ليغيـِّروا منكرا ، فلم يأمرهم بالرجوع عنه ( بحجة أنها مظاهـرة محرَّمة ) ! بل سار معهم إلى أن غيـَّر المنـكر بهـم !!
فكذا لو خرج العلماء ، ومعهم المحتجـُّون ، وساروا _ مثلا _ إلى مقر السلطة ، ليظهروا النكير عليها في ظلـم ، أو منكـر ، أو لرد حـقّ ، أو إطلاق سجناء حُبسوا بغير حق ، ونحو ذلك ، لكان من يسمِّى هذا ( خروجـاً عن ولاة الأمـر ) ، ويحرّمه مخطئـا خطأ بيِّنـا ، بل يكون تحريمه من أعظم أسباب بقاء الظلم ، وإستمراره ، وتعطل المصالح ، وزيادة المفاسـد في الأمـّة ، فيكون هو من أعوان الظلمة !
ومن الأمثلة أيضا ، ما هـو معلومٌ مشهـور ، ما حملته كتب التراجم من قيام العلماء السالفين بالخروج متظاهريـن لدفع المفاسد ، وللإصلاح في جماعات كثيرة ، ومن ذلك ما نقل عن الإمام البربهاري أنه كان يظهر مع أصحابه ، وينتشـرون في الإنكار ، حتى حملت كتب التاريخ تلك القصة المشهورة عن اجتيازه بالجانب الغربـي في بغـداد ، فعطس فشمَّته أصحابه ، فارتفعت ضجّتهُم حتى سمعها الخليفة وهو في روشنـه ! فسأل عـن الحال ، فأخبر بها ، فاستهولها !!
فليت شعـري ماذا كان يفعل البربهاري في مسيره هذا مع آلاف من أنصاره في ذلك الزمن في شوارع عاصمة الخلافة الإسلامية ، ولماذا لم يُنكـر عليه ، هذا الحشـد الهائل الذي كان يتوصل به إلى إنكار المنكرات ، ومقاومة الفساد ، وهو حشـد كبير بحيث إنْ يُشمّته من حوله ، يبلغ صـوت : ( يرحمك الله ) إلـى رأس السلطة في مقـرِّه !!
وأيضـا مما ورد في السنة من إستدعاء الحشد للبلاغ ، ما في الصحيحين عن ابن عباس قال : ( لما أنزل الله عز وجـل : وأنذر عشريتك الأقربـين ، أتى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ الصفـا فصعـد عليه ، ثم نادى : يا صباحاه ، فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطلب ، يابني فهر ، يابني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم ، أنَّ خيلاً بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغيـر عليكم ، صدقتموني ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلاّ لهذا ؟ وأنزل الله ( تبت يدا أبي لهب وتب ) .
فهذا نـصٌ واضـح في أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، صعـّد ليراه الناس ، واستدعاهم ليجمعهم في مكان واحـد _ في صورة أشبه ما تكون بالمظاهـرات السلمية اليوم التي يراد منها رفع مستوى قـوّة الإحتـجاج _ وليبلّغهم ، فاحتشدوا له ، واستغـلّ هذا الحشـد ، ليوصل صوته إلى أبـعد مدى ، فيبلغ ما أمـر بتبليغـه.
فليت شعري أيُّ فرق بين هذا ، وأن يدعو دعاةُ الإصلاح الناسَ لمكان محدد ، يدعون إلى حشـد كبير ، ليبلّغوا السلطة مطالبهم ، وليوصلوا حقوقهم ، ليكون فعلهم أشد وطأة ، وأعظـم تأثيرا في التغييـر !
إذ من المعلوم أنَّ استدعاء الحشد متظاهرين ، للإحتجاج الجماعـي ، يؤدي دورا بالغ التأثيـر في التغيير ، كما هو شأن كلّ ما يجتمع عليها الناس في شئونهـم العامّـة ، فيكونون أقـوى به من حال الإنفـراد ، كما ذكرنـا .
ولهذا ورد عن الأئمة ، الإرشاد إليه في إنكار المنكـر ، كما روى الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 50 ، عن محمد بن أبي حرب قال : ( سألت أبا عبدالله عن الرجل يسمع المنكر فـي دار بعض جيرانه ، قال : يأمره , قلت : فإن لم يقبل ؟ قال : تجمع عليه الجيران ، وتهوِّل عليه ) ، وقوله تجمع عليه الجيران ، وتهـوّل عليه أي ليكون ذلك أردع ، عندما يرى تظاهر الجيران كلُِّهم في الإنكـار .
ولهذا جاء في شريعتنا في مواضـع كثيرة في إظهار الإحتشاد في المجامع العامة ، كالجمع في الجوامـع الكبيـرة ، والأعيـاد في المصلّيـات في الفضـاء ، ويسار إليها مشيـا ، لرفع راية الدين ، وإغاضة إعدائه ، كما أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يملأ قلب أبي سفيان رهبة من أمر الإسلام فأمر العبّاس أن يريـه الكتائب المحمدية في فتح مكة ، وهي تسيـر محتشـدة في مواكبها المهيبـة ، لتحقيـق بعض مصالح الشريعة في ذلك اليوم العظيـم .
وهذا كلُّه في غاية الوضوح ، أعني ما في شريعتنا من الإستفادة من التظاهرات العامة ، لمقاصد شرعيَّة متعـددة ، تنبـّه إلى مشروعيتها في الجمـلة ، وفائدتها للأمـَّة ، وإنه _ والله _ ليستغـرب أن يحُتـاج إلى بيان مثل هذا لاسيما في هذا الزمـن ؟!!
خاتمـة مهمّـة
وإذا كان العلماء قد أفتوا بالثورة لإصلاح أحوال المسلمين في ظلِّ سلطة ، لاترعى لهم حقـَّا ، ولا تقيم بهم عدلا ، ولا تحفظ لهم كرامة ، كما قال إمام الحرمين :
( إنَّ المتصدِّي للإمامة إذا عظمت جنايتُه ، وكثرت عاديتُه ، وفشا إحتكامُه ، وإهتضامُه ، وبدت فضَحَاتـُه ، وتتابعت عثراتـُه ، وخيف بسببه ضياع البيضة ، وتبدُّد دعائم الإسلام ، ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة ، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا ، فإنهم لو فعلوا ذلك لأصطلموا وأُبيـروا ، وكان ذلك سببا في زيادة المحن ، وإثارة الفتن ، ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع ، وأشياع ويقوم محتسبـا ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، وانتصب لكفاية المسلمين ما دفعوا إليه ، فليمض في ذلك قُدُمـا ، والله نصيره ، على الشرط المتقدم في رعاية المصالح ، والنظر في المناجح ، وموازنه ما يدفع ويرتفع ، بما يتوقع ) الغياثي 115
فكيف _ ليت شعري _ يكون الحكم بالمظاهرات السلميّة التي يتحقق بها ما هـو من أعظم أهداف هذه الأمـّة ، وأرفع غاياتها ، وأسمـى قِيَمِها ، وهو العدل ، والإصلاح ، وتحرير العباد من الجور ، ورفع المظالم ، والمفاسـد عنهم .
فالله المستعان !
هذا ..ونسأله سبحانـه أن يخرج هذه الأمـّة من محنتها ، فيقم فيها راية العـدل ، والإصلاح ، ويقـوّض راية الجور ، والفساد ، وينشر الخير في البلاد ، والعبـاد ، ويهدي هذه الأمـة لسبل الرشـاد .
والله أعلـم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله ، وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا ، وحسبنا الله ونعم الوكيـل ، نعم المولى ، ونعـم النصيـر .