الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
لاريب أن ما ذكره السائل ، هو بلاءٌ عظيم ، ونذير شؤم ، مؤذن بعذاب قد جاءتهـم نذره وهـي هذه الأمراض الفتاكة التي دهمت البشـرية حتى عجزوا عن تطويقها ،وأعياهم العثور على دواءها ، وهي أمراض ظاهرة ، مثل الإيدز ، وغيره ، وأمراض باطنة ، مثل الأمراض النفسية ، فقد انتشرت إلى حد كبير ، بسبب انتشار الفواحش ، والإعلان بها ، وقد توعّد الله تعالى من يحب أن تشيع الفاحشة بعذاب الدنيا قبل الآخرة ، فكيف بمن يحبها ويفعلها ، كما قال تعالى " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لاتعلمون "
وقـد عمّ هذا الـداء العالم كلّه ، كما نراه واضحا ، بما لم يسبق مثله في تاريخ البشرية ، وهو من أشراط الساعة ، فإن من أشراطه ظهور الفحش والتفحش ، وإنتشارهمــا .
ولإنتشاره بهذا الطغيان الكبيـر ،
ثلاثة أسباب رئيسة :
أحدها : أن الموجه الماديـّة الرأسمالية هي التي تكتسح العالم في هذا العصر ، وهي تؤمن بثلاثة آلهه :
المادة ، واللذّة الدنيوية العاجلـة ، والمنفعة .
وهي كلها راجعة إلى عبادة الحياة الدنيا ، وزينتها ، التي هي متاع الغرور .
كما قال الحق سبحانه " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم "
وقال " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا"
وقال في أكثر من أربعين موضعا يذم الغرور بالحياة الدنيا : " أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة " ، " زين للذين كفروا الحياة الدنيا " وقال " إن الذين لايرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمئنوا بهــا والذين هم عن آياتنا غافلون " ، " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا" ، وقال " فأما من طغى وآثـــر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " .
فمن البدهي أن يتغلّب خطابُ اللّذة الماديّـة الدنيويـّة ، على خطاب العقل في هذا العصر ، بعد سيطرة الرأسمالية الغربيّة المؤلهّة للمال والمادة ، على العالم .
ولا جـَـرم أن يطغى كـلّ هذا الطغيان المجنون ، فسدنة تلك الآلهة من الدول الكبرى ، قد سخّروا كل مقدراتهم للسيطرة على ثروات الأرض ، ومكامن النفط ، والأسواق العالمية ، بحثا عن سلطان المال ، وسيطرة القــوّة الظالمة الغاشمــة ،
ولهذا سيطـر على العالم هوس هــذا الـداء العضــال :
البحث الدائــم عن المال ، والجنس ، والجمال ، واللذة ، وتقديس ذلك كلّه ، حتى لـم يــروا للذّة الروحية التي تثمرها عبادة الله ، والتحلي بالفضائل ، والتزين بالأدب شيئا ، أي معنــى ، بل عدُّوا ذلك كلّه ، أساطيــر الأوّليــن ، ينبغي أن تضرب عنه البشرية صفحا ، وتستحـي من ذكــره !!
ولهذا السبب نلاحظ أن الإنحطاط الجنسي ، والإغراق في اللذّات المحرمة ، ردفان لايفارقان جيوش الرأسمالية أينما ولّت شطر وجهها القبيــح .
الثاني : الثورة الإعلاميّة التي تحمل ـ فيما تحمل ـ هذه الموجه الطاغية في عبادة اللذّة المحرمة ، وتمجيدهـا ، على حساب العقل ، والفضيلة ، تحملهــا إلى كل مكان في العالم ، متجاوزة كل الحدود التي حاولت ضبطها وتنقيتها.
الثالث : محاربة التديّن ، وملاحقته ، وتهجين تعاليمه ، وتقبيح آدابه ، ورميها بالتخلف ، وأنه يضيّـق على الحريـّـات ، ووصفه بالظلاميّة ، والتطرّف ، والتشدّد ، والإرهاب .
ومن ذلك وأعظمه ، وأشره ، وأشنعه :
تعطيل الشريعة الهادية المرشدة للنّاس لكلّ خير وفلاح ، فإنـّه لاجريمة أعظم من تعطيل شريعة الله تعالى ، ولاتفتح أبواب من الشر على الناس ، أشــر عليهم مما يُفتح بتعطيل أحكام الوحــي ، ولهذا جمع الله تعالى ، أشنع أوصاف الذم ، لمن يحكم بغير شريعته ، فسماهم الكافرين ، والظالمين ، والفاسقين ، والمنافقين ، والذين أرتدوا على أدبارهم ، وهذه كلّها لم تجتمع في القرآن على جريمة ، كما اجتمعــت على جريمة تعطيل الشريعة الإلهية ، أن تكون حاكمة بين الناس في كل شؤون حياتهم .
فما ظنّكــم بأمــر قـد عُظّمت كلّ الدواعي إليه تزييـّـنا وترغيبـا، وحوربت كــلّ موانعه تنفيرا وترهيبــا ؟!!
ولاريب أن كسـر هذا الصنم الجديد ، لايمكن إلاّ بجهاده على جميع المستويات ، ومن ذلك إبطال أصل هذا الدين المفسـد ، وعقيدته الخبيثة ، تأليه زينة الحياة الدنيا وعبادة المال واللذّة ، وإنكار منكــراته بكلّ السبــل ، وتحفيز كل دواعي الرجوع إلى الدين والفضيلة ، وإحياء الدعوة الإسلامية في كــلّ مكــان .
كما قال تعالى " فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين "
هذا بالنسبة إلى الحل الجذري العــام لهذه المعضلـة التي دهمت الأنام .
أمـّـا على مستوى الحلّ الشخصي ، لمن ابتلي بحب الفاحشة ، واستحوذ على نفسه طلبُ اللذة الجنسية العاجلة ، فأسره الهـوى بشباكها ، واسترقه الشيطان بقيودها .
فالحـــــــلّ :
1ـ بالتعلق بالله تعالى ، ومداومةِ الذكر فإنه هو الذي يحيي القلب ، فيُؤتى بصيرة يفرق بها بين ما يضره وما ينفعه ، وصحبة الصالحين ، وإشغال النفس بالعمل الصالح ، فإنه يثمر الهدى ، فالهدى ، والتوفيق ، والعفة ، والصلاح ، والفلاح ، والفضيلة ، والعاقبة الحسنة ، أبدا مع العمل الصالح والحسنــات ، واضداهــا مع العمل السيء والسيئــات ، على هذا قامت الدنيا والآخرة ، فلا أنفع للناس من طاعة ربهم وخالقهم ، ولا أضر عليهم من معصيته.
2ـ وأن يكون إيثار لذّة الآخرة مهيمنا على قلب العبــد ، ذلك أنّ الإنسان مفطور على طلب اللذّة أبدا ، وكل نشاطه الإنساني متوجه نحو التخلص من الهم ، والغم ، والألم ، سعيا وراء اللذة ، غير أن اللذة الدنيوية المحرمــة ، توجب شقاء أعظم منها ، ولايمكن للإنسان أن يتخلص من دواعيها ، وقد فُطر على طلبها ، إلا بأن يجمع قلبه على طلب ما هو خير وأبقى ، وهو لذّة الآخرة ، كما قال تعالى " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " ، ولهذا قام الدين على الإيمان بالمعاد ، وامتلأ القرآن بترغيب العباد بما في الجنة من النعيم ، وتخوفيهم بما في النار من العذاب الأليــــــــم ، لأنه سبحانه فطر الخلق على طلب اللذة ، والهرب من الألم ، ومن زعم غير ذلك فهو كاذب ، وإن جهل أنه كاذب .
ومع ذلك فإن الله تعالى فضلا منه ورحمة ، يعوّض من ترك اللذات المحرمة ، لذة عاجلة في الدنيا أيضــا ، غير أنها لذة روحية ، لكنها لاتقارب بأي لذة أخرى من لذات الدنيا ، حتى إن بعض السلف ، عندما ذاق هذه اللذة بوجدانه ، كان يقول : " لو كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم عظيم " أو كمــا قال ، وهذا كما قال تعالى " فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة " .
وضده يحصل لمن آثر لذة الدنيا على الآخرة ، فإن لذة الدنيا المحرمة لابد أن تعقب آثار سيئة قبيحة على نفسه ، فيكون ذلك من " العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر "
وننقل فيما يلي كلاما عظيم النفع للعلامة ابن القيم رحمه الله ، يصف فيه دواء التعلق باللذّة الجنسية المحرمــة :
وقال ابن القيم رحمه الله : " دواء هذا الداء من طريقين :
أحدهما : حسم مادته قبل حصولها .
والثاني : قلعها بعد نزولها .
وكلاهما يسير على من يسره الله عليه ومتعذر على من لم يعنه الله فان أزمة الامور بيديه .
وأما الطريق المانع من حصول هذا الداء .
فأحدهـمـا : غض البصر كما تقدم فان النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ومن أطلق لحظاته دامت حسراته .
وفي غض البصر عدة منافع :
أحدها أنه إمتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من إمتثال أوامر ربه تبارك وتعالى وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره وما شقي من شقى في الدنيا والآخرة الا بتضييع أوامره .
الثاني أنه يمنع من وصول أثر السم المسموم الذى لعل فيه هلاكه الى قلبه .
الثالث أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله فان إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فانه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابع أنه يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .
الخامس أنه يكسب القلب نورا كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الامر بغض البصر فقال " " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " ثم قال أثر ذلك " الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " ، أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه .
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات اليه من كل جانب كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى وإجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة وإشتغال بأسباب الشقاوة فان ذلك انما يكشفه له النور الذي في القلب .
فاذا فقد ذلك النور بقى صاحبه كالاعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
ثم ذكر أن من فوائد غض البصـر " أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب فانه يدخل مع النظرة ، وينفذ معها الى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور اليه ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقى عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل اليها بدون تلك الصورة .
فيصير القلب في اللهب فمن ذلك اللهب تلك الانفاس التي يجد فيها وهج النار وتلك الزفرات والحرقات فان القلب قد أحاطت به النيران بكل جانب فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور لهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار وأودعت أرواحهم فيه الى حشر أجسادهم كما أراها الله لنبيه في المنام في الحديث المتفق على صحته .
ثم ذكر ان من فوائد غض البصر : أن بين العين والقلب منفذا أو طريقا يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر وإن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده فاذا فسد القلب فسد النظر واذا فسد النظر فسد القلب وكذلك في جانب الصلاح فاذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والاوساخ.
الثاني من موانع حصول هذا الداء :
اشتغال القلب بما يصده عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه وهو إما خوف مقلق او حب مزعج ، فمتى خلا القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب أو خوف ما حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب أو محبته ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب لم يجد بدا من عشق الصور وشرح هذا ان النفس لا تترك محبوبا الا لمحبوب أعلى منه أو خشية مكروه حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب .
وهذ يحتاج صاحبه الى أمرين ان فقدا أو حدا منهما لم ينتفع بنفسه :
أحدهما : بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه فيؤثرا على المحبوبين على أدناهما ويحتمل أدنى المكروهين لتخلص من أعلاهما وهذا خاصة العقل ولا يعد عاقلا من كان بضد ذلك بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه .
الثاني : قوة عزم وصبر يتمكن بهما من هذا الفعل والترك فكثير ما يعرف الرجل قدر التفاوت ولكن يأتي له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الانفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ولا ينتفع به غيره .
وقد تقدم أن العبد لا يترك ما يحب ويهواه إلا لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة لاقواهما محبة كما انه يفعل ما يكره لحصول ما محبته أقوي عنده من كراهة ما يفعله والخلاص من مكروه كراهته عنده أقوي من كراهة ما يفعله وتقدم ان خاصية العقل إيثار على المحبوبين على أدناهما وأيسر المكروهين على أقواهما .
ثم قال : " وخاصة العقل النظر في العواقب ، فاعقل الناس من أثر لذة نفسه وراحته في الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة ، وأسفه الخلق من باع نعيم الابد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ولا نقص بوجه ما بلذة منقضية مشوبة بالآلام والمخاوف وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء .
قال بعض العلماء : " فكرت في سعي العقلاء فرأيت سعيهم كلهم في مطلوب واحد وإن اختلفت طرقهم في تحصيله رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم فهذا في الاكل والشرب وهذا في التجارة والكسب وهذا بالنكاح وهذا بسماع الغناء والاصوات المطربة وهذا باللهو واللعب فقلت هذا المطلوب مطلوب العقلاء ولكن الطرق كلها غير موصلة اليه بل لعل أكثرها إنما يوصل الى ضده ولم أر في جميع هذه الطرق طريقا موصلا اليه بل لعل أكثرها إنما يؤثر الى الاقبال على الله وحده ومعالمته وحده وإيثار مرضاته على كل شيء فان سالك هذا الطريق فاته حظه من الدنيا فقد ظفر بالحظ العالى الذى لا فوت معه وإن حصل للعبد حصل له كل شيء وإن فاته فاته كل شيء وان ظفر بحظه من الدنيا ناله على أهني الوجوه فليس للعبد أنفع من هذا الطريق ولا أوصل منه الى لذته وبهجته وسعادته وبالله التوفيق ."
وبعــــد :
فجوابا على ما ذكره السائل ، فإن حسم مادة هذا الفساد الآخذ بالإنتشار في البيوت في قيام الوالدين بواجب التربية الإيماينة لأنفسهم وأولادهم ، وتعاهدهم بالنصح والتوجيه ، وتقويم نفوسهم بالترغيب والترهيب .
أما الذين يعرضون عوراتهم على شبكة الإنترنت ، وينشرون فجورهم ، شبابا أو شابات ، فهذه والله الفاحشــة الشنيعة التي لا أشنــع منها ، والدناءة القبيحة التي لا أسوء منها ، وعلى من فعلها وزرها ، ووزر من فعل مثل فعلته متأثرا بجريمــته ، فهؤلاء كأمثال الشياطين ، فاسدون ، يفسدون الناس ، وينشرون فيهم الفحش .
ومع ذلك فإن باب التوبة لكل عبــد مفتوح ، ومن أناب إلى ربه فهو محسن ممدوح ، والتائب من الذنب كمن لاذنب له ، فندعوهم إلى التوبة ، وتدارك العمر قبل أن يفوت ، وإصلاح النفس قبل أن يهجم الموت .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .