حوار هاديء مع العلامة محمد الأشقر .. م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

عدالة الصحابة وولاية المرأة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد؛
فقد قرأت ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن سليمان الأشقر يوم السبت الفائت في صحيفة الوطن فساورني شك -كغيري- بأن يكون كاتب المقالة هو الشيخ الأشقر حتى قرأت صدر الصفحة الأولى من يوم الاثنين فتيقنت أن الكاتب هو الشيخ عينه-عفا الله عنا وعنه-؛ فتذكرت قول ابن مسعود" أيها الناس من كان مستنًا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة " ذلك أن من لم يمت لم يزل في دار البلاء والامتحان ، وأن العالم النحرير قد يقع في الزلة ، وهي مما لايحكم عليه بها .

أما مقال الشيخ فقد اشتمل على كسر لقواعد أهل الحديث كما تضمن طعنًا ـ من غير قصد ـ في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكرة-رضي الله عنه- وهذا أعظم ما فيه من مجانبة للصواب؛كما أن لازم مذهب الشيخ في استدلاله بقصة ملكة سبأ على جواز دخول المرأة المجالس النيابية فاسد بإجماع العلماء وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. وإليك الجواب المفصل بتوفيق الله تعالى:

أولاً:قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله"ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم الله بقوله:(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10) "أ.هـ. كما أن المقطوع به أنهم ليسوا بمعصومين قال شيخ الإسلام ابن تيميه " ولكن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغمور في جانب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله و رسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح"أ.هـ. وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم رحمة الله عليهم دون الاعتداد بأقوال من لا يعتد بقولهم من النواصب وغيرهم.وقد حكى ابن الصلاح وابن عبد البر وإمام الحرمين الجويني أن الصحابة كلهم عدول ثقات لا يبحث عن عدالة أحد منهم وقال شيخ الإسلام ابن تيميه " الذي عليه جمهور السلف وجمهور الخلف أن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم فيما أنزله على رسوله(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (التوبة من الآية100)"أ.هـ ولا أظن أن هذا الأصل خافٍ على أحد من أهل العلم أو أنه يحتاج إلى كبير جدال.

ثانيًا:مما هو معلوم أيضًا خطورة مسلك الطعن في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو أن هذا مؤدٍ قطعًا إلى الطعن بميراث النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي بلغوه للأمة -وكفاك من شر سماعه- وواقع الحال يدل على ذلك فقد قال الشيخ في مقابلة رئيس التحرير:( إن أحاديث أبي بكرة في الصحيحين كلها مردودة) قلت: والواجب هو صون الشريعة عن مثل هذه المطاعن سيما وأن فتح الباب للطعن في رواية صحابي واحد سيأتي على من بعده حتى ينكسر هذا الباب وتصير عدالة الصحابة موضع حوار بين سفهاء الأحلام وضعيفي العقول ومن لا يرفعون بالشرع رأسًا من العلمانيين وأذنابهم.

وإليك جزءاً مقتضبًا من حوار عمر بن حبيب مع الخليفة هارون الرشيد فقد تنازع -الناس في مجلس الخليفة-في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه فقال من عند الخليفة:"أبو هريرة متهم فيما يرويه" فدفع عمر بن حبيب هذا القول بقوة؛فاستنكر ذلك الرشيد قائلاً: ما تلقّاني أحد بالرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني! قال ابن حبيب:" يا أمير المؤمنين إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول!" فرجع الخليفة إلى نفسه وقال"أحييتني يا عمر".ذكره القرطبي في تفسيره عند قول الله تعالى في الفتح (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).وقال القرطبي بعد ذلك:"فالصحابة ومن بعدهم كلهم عدول ،أولياء الله وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة" .

ثالثًا:أبو بكرة هو نُفيع بن الحارث مولى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يكنى بأبي بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف على النبي-صلى الله عليه وسلم- ببكرة فسمي بأبي بكرة وذكر من ترجم له أن عمر رجمه لأنه لم يرجع عن قذفه للمغيرة.وقال له عمر تب تقبل شهادتك .قال:إنما أتوب لتقبل شهادتي. قال: نعم. قال: لا جرم، فإني لا أشهد بين اثنين أبدًا. قلت: وقد ذكر من ترجم له من صلاحه وكثرة عبادته؛ وقد قال الحسن البصري:" لم ينزل البصرة من الصحابة ممن سكنها خير من عمران بن حصين وأبي بكرة."

رابعًا: لم يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه رد رواية أبي بكرة بل إن عمر الخليفة الملهم وهو الذي جلده لم ينقل أنه نهاه عن التحديث أو نهى الناس عن قبول حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- مع شدة عمر في الحق ومع أن مثل هذا مما يستدعي الحال نقله فلما لم ينقل أصلاً فقد دل على عدم وجوده قطعًا.

خامسًا: مما اتفق عليه العلماء ولم يعلم لهم مخالف هو أن رواية أبي بكرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم-مقبولة بل حتى من انتقد على الشيخين بعض أحاديث في الصحيحين لم ينتقد أحاديث أبي بكرة.

سادسًا: قال أبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد:"إذا كان الراوي محدودًا بقذف فلا يخلو إما أن يكون قذف بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإن كان بلفظ الشهادة لم يرد خبره لأن نقصان العدد ليس من فعله فلم يرد خبره وإن كان بغير لفظ الشهادة رد خبره لأنه أتى بكبيرة، إلا أن يتوب"أ.هـ بتصرف. وقال الموفق في الروضة "ولأنهم اتفقوا على قبول رواية أبي بكرة " قلت: وهو برهان لما سبق ذكره.

سابعًا:فرق العلماء-رحمة الله عليهم جميعًا-بين الشهادة والرواية فليس كل من ردت شهادته ردت روايته قال العلامة الأمين الشنقيطي -رحمه الله-معلقًا على قول الموفق المتقدم" والشهادة في هذا ليست كالرواية فلا تقبل شهادة محدود بقذفٍ حتى يتوب ويصلح بدليل قول عمر:(تب أقبل شهادتك)"أ.هـ قلت: والمعنى أن عمر جعل التوبة موجبًا لقبول شهادته لا روايته وهذا ظاهر وقد تقدمت الإشارة إليه.

ثامنًا:قال تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4) (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النور:13) أفادت الآيتان أن القاذف فاسق وكاذب وهو منطبق على أبي بكرة رضي الله عنه وهذا ماذكره الشيخ الأشقر وتبناه والإشكال الذي لامحيص عنه هو نسبة الوضع والتكذيب إلى أحاديث من صحيح البخاري وقد التزم الشيخ ذلك في مقاله!!ولا أدري إن كان سبقه إلى هذا القول أحد من أهل السنة أو من أهل البدع!!

تاسعًا:هنا جواب عن ما رد به الشيخ حديث أبي بكرة "لن يفلح قوم..."؛ لا يخلو هذا الحديث إما أن يكون روي قبل الشهادة على المغيرة أو بعده فإن كان قبله فلا معنى لرده لأن المانع من قبول روايته لم يحدث بعد وإن كان بعده فالجواب عليه ما تقدم من إجماع السلف والخلف على قبول روايته.

عاشرًا:ذكر الشيخ أن الواقع يرد الحديث مستشهدًا بأنديراغاندي ومارغريت تاتشر وما حصل لدولهم من تقدم!!وهذا غريب من مثل الشيخ فإن الواقع الذي تعيشه بلاد الهند منذ ذلك الزمن ليس بخاف على أحد فحال المسلمين في كشمير لم يستقر لا قبل مقتل رئيسة الوزراء هذه ولا بعده؛ والفقر والبطالة وانتشار الجريمة والأمراض والأوبئة لم تنفك تنخر في شبه القارة الهندية فليت شعري أي فلاح تحقق للهند!!

حادي عشر: لو سلم أن كلتا المرأتين حققتا لبلادهما الأهداف المنشودة فهل بقاء أولئك على ملة الشيطان والكفر بالرحمن وهلاك الآلاف من شعوبهم على غير ملة الإسلام هو فلاح في شرعة الله أو هو من قول الله تعالى(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).

ثاني عشر: أي حجة في شرع من قبلنا من ملكة سبأ وقد ورد في شرعنا ما يخالفه كما قال تعالى(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )(النساء: من الآية 34) بل إن لازم الاستدلال بهذه الآية يوحي بجواز تولي المرأة الرئاسة العامة للدولة!فإن ملكة سبأ لم تكن إلا كذلك!فهل شرع من قبلنا في مثل هذه الصورة شرع لنا أم ليس شرعًا لنا؟ ثم إن القول بجواز تولي المرأة لرئاسة الدولة لم يقل به أحد من أهل العلم.قال العلامة الأمين الشنقيطي"من شروط الإمام أن يكون ذكرًا ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم".قلت : ولازم قول الشيخ خلاف ما ذكر العلامة الأمين من عدم الخلاف، فتحصل من ذلك إما أن يقال أن الآية لا يحتج بها لأنها في شرع من قبلنا وإما أن يقال أنها حجة فيحتج بها على جواز تولي المرأة للرئاسة العامة للدولة ولا يمكن أن يقال أنها تدل على الولاية ولا تدل على الرئاسة العامة لأنها إنما جاءت في الرئاسة العامة للدولة.

هذا خلاصة ما ظهر لي أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل وأن يثبتنا على دينه.

والذي أحب أن أنوه إليه هو أني لا أبلغ عشر معشار علم الشيخ وأثره في الأمة ولكني أحببت التنبيه على ما ذكر نصحًا لله ورسوله ولئلا يتابع الشيخ على فيما خالف فيه الإجماع. والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تم بقلم مقيده الفقير إلى عفو الله
خالد بن جاسم بن إبراهيم الهولي

الكاتب: الشيخ خالد الهولي
التاريخ: 01/01/2007