المشايخ والسّلطان والثّورة

 

المشايخ والسّلطان والثّورة

 مصطفى الونشريسيِّ

"إنّ العالم إذا لم يقُد انقاد، فإذا انقاد جاءت الفتنة والفساد\" ،

 كلمة قالها كبير المجاهدين ، وشيخ علماء الجزائر محمّد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى منذ أزيد من ستين عاماً، يوم أن كان المشايخ يقدُمون الشّعوب في ساحات الوغى ضد المستعمر الغربي، ويدافعون عن أممهم وشعوبهم في المحافل الدولية، وبعد جهاد طويل ، وصراع مرير، حصلت الشّعوب العربية على استقلال فيه دخن، فجوزي هؤلاء المشايخ والعلماء جزاء موفوراً، نفياً وسَجناً وقتلاً، وإقصاء عن ميادين الحياة، وتسلط على كل شعب سفِلتهم وسقطتهم، فأمسكوا زمام السُّلطة، وتملكوا رقاب الناس وأمورَهم ، وحكموهم بسياسة الحديد والنار ، فكمّموا الأفواه، وقيّدوا الأيادي ، وحاسبوا الأنفاس، حتى أصبح الواحد منّا إذا أراد الحديث يقصد به نقدا لحاكم أو سلطة ، نظر يَمنة ويسرة، ثمّ تحدّث همسا ليسمع نفسه ومن حوله، ومن تسوّل له نفسه نقد الحاكم أو نظامه ولو بزخرف القول ولينه، جعلته السلطة نكالاً لما بين يديه وما خلفه، وعبرة لكلّ معتبر، وأدنى النّكال تغيبه في غيابات السجن سنين عدداً.

وجاءت أيّام وذهبت أخرى والناّس في العالم العربي على هذه الحال لا تختلف معاناة الشّعوب بعضِها على بعض إلّا قليلاً، حتّى كانت المفاجأة الكبرى للشعوب ، الفاجعة العظمى لأنظمتها، وثار النّاس، فصارت العروش تتهاوى كأنّها حبات عقد ، بدءاً من تونس الخضراء، و مرورا بمصر العروبة ، وتتابع النّاس على الثّورة وكأنهم تبايعوا، وانتفض الشعب السّوري العظيم فيمن انتفض، أُسوة بإخوانه، فليس أقلَّ منهم ، فهو أقدم حاضرةً وحضارةً ، وأعرق نسباً عروبياً وإسلامياً، فأنّى له أن يرضى بالضّيم، فصرخ بأعلى صوته في جنبات القطر الغالي، \"الموت ولا المذلّة\" كلمة قالها أجداده من قبل \" المنيّة ولا الدّنيّة واستقبال الموت خير من استدباره\" فأتاهم النّظام القمعي ُّ من حيث لم يحتسبوا ، ليقذف في قلوبهم الرعب _ وأنّى له ذلك _ فاستعان بكل ما قدر ومن قدر ترغيبًا وترهيباً، وبدأ بذُخره الذي لم يخذله في عالم الاستبداد \" الأمن والجيش\" ،

وقد قال لهم الشّاعر الثّائر: جيوشكم في ظلال العزّ نائمة تكاد تهلك من عيش بلا تعب تحمي العروش تذيق الشعب سط وتها أليس ذلك يدعوني إلى العجب وثنى بالمشايخ ، المشايخ الذين ما فتئ النّظام الاستبدادي يحاول طيلة حكمه إقصاءهم عن ميادين الحياة، ولا سيما السياسية منها ، واختار منهم الأبيناء الفصحاء ، ليتحدّثوا للنّاس بلسانه، ويشرحوا برنامجه الإصلاحي الموهوم. فكان أول من طلع على النّاس الشّيخ الجليل، والمفكّر الإسلامي الكبير ، الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي بطلعته البهيّة، وهمّته العليّة، على قناة فضائيةٍ من أقنية السّلطة ليضمن للنّاس مشروع الأسد الإصلاحي ، وأعاد أسطوانة ً قديمةً ، تجلب الغثيان، وتصيب بالدُّوار، وقال ما شاء الله له أ ن يقول ، وأصبح درسه الأسبوعي يبثُّ على القنوات الفضائيّة الرّسميّة. ثمّ تتابع المشايخ مثنى وفرادى يتعاورون على الطاولات المستديرة والمستطيلة ، ليقولوا سيئاً من القول وهُجراً في الثّورة وشبابها ، ويسِموهم بكل ِّ منكر من القول وزوراً.

وكان أعظم المشايخ موقفاً من التزموا الصّمت وكأنّهم سَرطوا ألسنتهم، أمّا من صدعوا بالحقّ فهم قليل من قليل، وبعد تطوّر الأحداث نحو التّصعيد من شباب الثورة، وقع في قلوب بعض المشايخ شيءٌ من الحياء ، و بعد لَأيٍ أصدروا بياناً كانوا فيه كالجمل الذي تمخّض فولد فأراً.

والظاهر أنّه لعظم العمائم أُثقلت الرؤوس فنكِّست. إذن فليعلم شباب الثّورة المجيدة وليستيقنوا أنّ الحريّة ما كانت تعطى في يوم من الأيّام ، وإنّما تنتزع الحرّية انتزاعاً، هكذا يقول التّاريخ الإنساني. وللحرّيّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يدقُّ وإذا كانت \" السّلفية مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي\" كما عنون الدُّكتور البوطي _ أطال الله في العزّ بقاءه_ أحد كتبه، فإنّ حكم البعثيين مرحلة ٌ زمنيّة بائسة ، لا حكم سرمدي أبدي، هي سنّة الله في التّدافع ، ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ))الحج (40) . 


الكاتب: مصطفى الونشريسيِّ
التاريخ: 02/06/2011