طاعة الحاكم في ظل الدستور |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
ففي العالم الأسلامي دول كثيرة تحكم وفق دساتير أرضية مبتكرة .. والأنظمة في تلك الدول تستمد مبرر وجودها وسيادتها من هذه الدساتير .. والدستور عقد اجتماعي عرفي طارئ خاص في زمانه ومكانه ومجاله ودائرة المحكومين به وهو يقابل الشريعة التي هي عقد إلهي أصيل يجب الأخذ به ديانة لعامة المكلفين في كل زمان ومكان ومجال .. من هذه القاعدة المسلمة عند الجميع أقول مستعينا بالمولى جل وعلا : الموقف من الدستور كمبدأ واضح فهو ند للشريعة ومنازع لها فيما هو من صميم اختصاصها فلا يسع المسلم ولا الكافر أن يؤمن بالشيء وضده فإما الشريعة وإما القوانين الأرضية المخترعة .
والموقف من الدستور كممارسة واضح أيضا فهو جملة من القوانين التي فرضت على المواطن في الوطن الذي يهيمن عليه الدستور وما تفرع عنه و لا يسع المواطن إلا التماشي معه بالجملة ..وهذا من باب الرخص في حالات الاضطرار .. والضرورة تقدر بقدرها ..
والحاكم بمقتضى الدستور له بحسب الدستور واجبات وعليه حقوق .. والمواطنون يطالبون بحقوقهم التي كفلها هذا العقد الاجتماعي ويؤدون ما وجب عليهم في ظل هذا العقد .. وهذا العقد بطرفيه هو المكون لعلاقة الرئيس بالمرؤوس والحاكم بالمحكوم .. وهذا كله واضح .. لكن الغرابة تأتي ممن يريد لهذا الحاكم أن يكون حاكما بمقتضى الشرع في حين هو حاكم بمقتضى العقد الاجتماعي .. ثم بعد مزج التوصيف الشرعي بالتوصيف الدستوري يتم خلط ما هو حق في الشرع بما هو حق في الدستور بل تصبح كل القوانين ملزمة للناس شرعا ويصبح الشرع تابع للدستور وما تفرع عنه من قوانين بعد أن كان مقابلا له - في واقع الحال - ومبطلا له - في الحكم الشرعي - .. وهذا منتهى الخلط والتخبط !
وآل الأمر إلى أن صار الحاكم المطاع بمقتضى الدستور تطلب له الطاعة أيضا بمقتضى الشرع تطوعا من بعض المنتسبين للعلم الشرعي في الوقت الذي هو يرفض فيه التوصيف الشرعي وما يلازمه من أحكام وتبعات .. وصار المخالف للقانون مجرما مرتين مرة في نظر القانون - وهذا واضح - ومرة في الحكم الشرعي - بزعمهم - ! .. وصار الملتزم بالقانون - المرفوض مبدئيا في الشرع - مثابا في الشرع ومرضيا عنه في نظر القانون فنال الرضى من الجهتين.. فأي مزج هجين هذا المزج ! بعبارة أخرى الحاكم ينحي الشريعة ويستمد سيادته وشرعية حكمه من عقد اجتماعي خاص الزمان والمكان يعقده مع مجموعة من المواطنين في حدود مساحة جغرافية محددة وبصرف النظر عن دين المواطنين أو انتمائهم أو خلفياتهم الثقافية .. فيأتي هؤلاء المتفقهون ويطلبون من الناس أن يتعاملوا معه بصفته حاكما شرعيا استمد حكمه من جهة \"الشريعة\" ! .. هكذا \" الشريعة \" بكل ما لها من قداسة وبكل ما لها من عمق في ضمائر المسلمين وبكل ما فيها من نور وحُكَم ومقاصد سامية .. تُهدى للحاكم بالقوانين الوضعية بغير مقابل وبلا أدنى مسؤولية تجاه أحكامها وشرائعها !
هذا التصور المطروح علنا اليوم يجعلنا نعيد التفكير في علاقة الحاكم بالمحكوم في ظل الدساتير والقوانين الوضعية .. فلننظر سويا فيما يلي :
أولا : تحكيم الشريعة مطلب لكافة المتدينين وعامة المسلمين بغير نزاع .
ثانيا : تنحية الشريعة مجرّم عند كل المدارس الفقهية المعتبرة .
ثالثا : التعاطي مع الأعراف الحكمية الطارئة على بلاد المسلمين بعد سقوط الخلافة ينطلق من منطلق تحقيق المصالح ودرء المفاسد من غير إقرار لمخالفة شريعة الله .
رابعا : الحكم على السلاطين دائر بين أن يكون كفرا أكبر أو أصغر عند الجميع .
خامسا : الكل يقر بأن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق .
سادسا ؛ لا يجوز للمحكومين الموافقة على تنحية الشريعة ولا متابعة الحاكم على ما ارتكبه من إثم في العدول عن شريعة الله .. مما يعني أن الحاكم المبدل للشريعة الأصل أن لا يوافق ولا يتابع وإنما يرتكب بعض ذلك في الوقائع المعينة على سبيل الرخصة لمن اضطر وفق النظر المصلحي الخالص ..
سابعا : الحكم بوجوب طاعة الحاكم المبدل ديانة تستلزم إقراره على تبديله وموافقته على تنحية الشريعة وهذا من عجائب الفقه إذ كيف يجب على المحكوم ما حرم على الحاكم ؟ وبيان هذا الإشكال الأخير أن الحاكم يحكم الناس بعين القانون الذي أثم بتحكيمه وهذا القانون بعينه يجب ديانة عند هؤلاء المتفقهين أن يؤخذ به طاعة للحاكم وإذعانا لأمره بموجب الشريعة .. فصار القانون من جهة وضعه جريمة في الشرع ومن جهة التحاكم له برا وطاعة يثاب عليها في الشرع ؟!! وهذا عين التناقض .
وبعد هذا أرجع إلى الفكرة الجوهرية في المقال وهي أن القانون عقد اجتماعي لا تقره الشريعة .. والتعاطي معه وفق النظر المصلحي لا غبار عليه وإنما المستغرب إرادة البعض تحويل هذا العقد العرفي إلى عقد شرعي لازم وملزم للطرفين ديانة .. ثم إن الحاكم - في أي بلد دستوري - يرفض التوصيف الشرعي فطاعته تقتضي ألا يوصف بكونه حاكما شرعيا .. وهو يأمر بلسان حاله أو مقاله بتفعيل أدوات الدستور بما في ذلك الأدوات الرقابية على نوابه وممثليه في الحكومة فطاعته حينئذ تقتضي العمل بما يوجبه الدستور حتى على أصولهم بل عندهم أن هذا من الواجب في الدين !
فإن قالوا إن هذا يخالف أوامر الشرع في معاملة الحاكم قلنا إذا رجع الأمر للشرع فالدستور كمبدأ باطل وما بني على باطل فهو باطل وكل قانون ينبثق عن الدستور فهو فرع عن تنحية الشريعة وتحكيم القانون فترتفع طاعته بالجملة من حيث الديانة وفق قاعدة \" لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل \" (وهذا نص حديث نبوي رواه الشيخان وأحمد واللفظ له عن علي بن أبي طالب مرفوعا وله شاهد من حديث ابن عمر عندهما ) .
والخلاصة أن إسقاط المفاهيم الشرعية على واقع غير شرعي هو مورد كل هذه الإشكالات وهؤلاء المتفقهون لا أدركوا مقاصد الشريعة في الأحكام السلطانية ولا فقهوا الواقع الذي يتعاطون معه .. وهم لا يفرقون بين باب الرخص المصلحية وبين باب العزائم المطردة في الظروف المستقرة في الأوضاع الطبيعية .. بل هم لا يفقهون من واقع الأمة شيئا أصلا ويرون هذا الجهل من كمالات مدرستهم المشبوهة .. وكل الحرائق والكوارث والتغيرات والنكبات التي تحدث في الأمة اليوم لا يرونها ولا يسمعون دويها.. ولا يشمون رائحة الدخان المنبعث من كل جهة في كل أرض وتحت كل سماء في العالم الإسلامي ..
وقد علمت أنهم يرون التعامي عن مصائب الأمة وجراحها من الدين العتيق وأن التعاطف مع المجني عليهم في كل حوادث القرن ينافي العلم والحلم والديانة .. ويقررون جهارا نهارا أن البلاء الحقيقي لهذه الأمة كامن في شبابها العاطفي المتأثر بواقع الأمة وأن الحزم والعلم يقتضيان الكف عن الثرثرة بشؤون الأمة العامة .. وبعد كل هذا الانعزال عن واقع الأمة يفاجؤوننا بالظهور في الساحة السياسية والانغماس في معالجة الواقع والتفاني في تحرير المشكلات السياسية الحاضرة بما يوافق وجهتهم في تطويع الدين للدولة وتركيع المحكوم للحاكم وتخضيع الشعوب للحكومات ..
ثم بعد أن ينهوا مهمتهم المشبوهة يختفون مرة أخرى ويتغابون في السياسة ويتغافلون عن هموم الأمة وتنحصر تحركاتهم بضرب المشاريع الإصلاحية بالخفاء ..
فإذا احتيج إليهم سياسيا جُلبوا مرة أخرى وظهروا وأسمعوا وأوجعوا !!! فلمصلحة من كل هذا ؟!