من ابطال التاريخ |
|
من أبطال التاريخ ؛ أحمد بن نصر الخزاعي
للشيخ ابى المنذر سامى الساعدى {فبهداهم اقتده} (باع نفسه واستقتل)... هكذا قال عنه ابن كثير رحمه الله.
أحس بالخطر يتهدد عقيدة أهل السنة والجماعة فلم يقبع في بيته ولم يقنع بالكلمات الناعمة التي يستطيع ان يقدمها المؤمن والمنافق على حد سواء، وانما اقتحم الأخطار التي لا يردها إلا الرجال، وارتقى ذلك المرتقى الصعب - إلا على من يسره الله عليه - فبدأ يجمع حوله المؤمنين بعقيدة أهل السنة، ويحرضهم على حماية عقيدتهم والدفاع عن دينهم وقتال الحاكم المبتدع - الواثق - الذي عذب العلماء حتى يعطوه ما يري من القول بخلق القرآن، فلم يعط الدنية في دينه، ولم يبع عقيدته بعرض قليل من وزارة أو منصب أو مال، ولم يبحث عن التبريرات " المصلحية " التي وجد منها علماء عصرنا الشيء الكثير - إلا من رحم الله - وما زال هذا الإمام البطل يحشد القوى ويجمع الطاقات، لكن الله أراد أمرا أخر وهو أن يقتل بسيف الواثق نفسه.
هذه قصته نسوقها كاملة كما ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية [10/316 - 320] ونستخلص منها بعض الفوائد لعلها تكون جذوة تذكي حرارة الغيرة في قلوب كادت تصير رمادا، ولعلها تنبه عالما غرته ابتسامة الطاغية، أو فتنه رنين المال، أو نسي ما كان يدرسهُ ويُدرسه لتلاميذه: ان الآجال بيد الله وحده، فخاف ان يقطع الطاغوت أجله!
نسوق هذه القصة لعلها تحيي قلوب علماء المسلمين ويتقوا الله في بيع بيت المقدس وأرض الإسراء...
قال ابن كثير رحمه الله، في أحداث سنة إحدى وثلاثين ومائتين:
وكان فيها مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه.
وكان سبب ذلك ان هذا الرجل، وهو أحمد بن نصر الخزاعي بن مالك بن الهيثم الخزاعي، وكان جده مالك بن الهيثم من اكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا.
وكان أحمد بن نصر هذا له من وجاهة ورياسة، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث.
وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد - كما تقدم ذلك - وبه تعرف سويقة نصر ببغداد.
وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
وكان الواثق من اشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن.
فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها، فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه الألوف أعداد، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا، رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي، فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة وجماعات غزيرة.
فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها، فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان - وهي ليلة الجمعة - يضرب طبل في الليل، فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه دينارا دينارا، وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني اشرس يتعاطيان الشراب.
فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم، واعتقدا ان تلك الليلة هي ليلة الوعد، وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس، فلم يجئ أحد، وانخرم النظام، وسمع الحرس في الليل، فاعلموا نائب السلطنة - وهو محمد بن غبراهيم بن مصعب - وكان نائبا لأخيه إسحاق بن غبراهيم، لغيبته عن بغداد، فاصبح الناس متخبطين، واجتهد نائب السلطنة على احضار ذينك الرجلين، فاحضرا فعاقبهما فاقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادما له، فاستقره فاقره بما أقر به الرجلان.
فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان. فأحضر له جماعة الأعيان، وحضر القاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر، ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله، وقال له: (ما تقول في القرآن؟) فقال: (هو كلام الله) قال: (أمخلوق هو؟) قال: (هو كلام الله).
وكان أحمد قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها.
فقال له: (ما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟) فقال: (يا أمير المؤمنين قد جاء في القرآن والاخبار بذلك، قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته))، فنحن على الخبر)).
زاد الخطيب: قال الواثق: (ويحك! أيرى كما يرى المحدود المتجسم؟! ويحويه مكان، ويحصره الناظر؟! أنا أكفر برب هذه صفته).
قلت: وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح والله أعلم.
ثم قال أحمد بن نصر للواثق: (وحدثني سفيان بحديث يرفعه: أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"). فقال له إسحاق بن إبراهيم: (ويحك! انظر ما تقول) فقال: (أنت أمرتني بذلك)، فأشفق إسحاق من ذلك، وقال: (أنا أمرتك؟!) قال: (نعم أنت أمرتني أن أنصح له).
فقال الواثق لمن حوله: (ما تقولون في هذا الرجل؟) فاكثروا القول فيه، فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك -: (يا أمير المؤمنين هو حلال الدم) وقال أبو عبد الله الأرمني - صاحب ابن أبي دؤاد: (اسقني من دمه يا أمير المؤمنين) فقال الواثق: (لا بد أن يأتي ما تريد) وقال ابن أبي دؤاد: (هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل).
فقال الواثق: (إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني احتسب خطاي)، ثم نهض بالصمصامة - وقد كانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صحيفة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير - فلما انتهى إليه ضربه بها ضربة على عاتقه وهو مربوط بحبل قد اوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم طعنه بالصمصامة في بطنه، فسقط صريعا رحمه الله على النطع ميتا. فإنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله وعفا عنه.
ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرمي فصلب فيها، وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما وفي الغربي أياما، وعنده الحرس في الليل والنهار، وفي أذنه رقعة مكتوب فيها: "هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد ان أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره، وأليم عقابه بالكفر، فاستحل أمير المؤمنين بذلك دمه ولعنه".
ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحوا من تسع وعشرين رجلا، فأودعوا في السجون وسموا الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم.
وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسمع الحديث من حماد بن زيد وسفيان بن عينية وهاشم بن بشير، وكانت عنده مصنفاته كلها، وسمع من الإمام مالك بن انس أحاديث جدية، ولم يحدث بكثير من حديثه، وحدث عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي وأخوه يعقوب بن إبراهيم ويحيى بن معين، وذكره يوما فترحم عليه وقال: (ختم الله له بالشهادة) وكان لا يحدث ويقول: (إني لست أهلا لذلك)، وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه جدا، وذكر الإمام أحمد بن حنبل يوما فقال: (رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له)، وقال جعفر بن محمد الصائغ: (بصر ت عيني وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا، أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: " لا إله إلا الله " وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون})، قال: (فاقشعر جلدي).
* * *
الفوائد:
1) ثناء ابن كثير عليه ووصفه بالعلم والأمر بالمعروف والنصيحة، والترحم عليه والاسترجاع لمقتله.
2) مشروعة البيعات الجزئية والعهود على الجهاد والأمر بالمعروف ونشر عقيدة السلف، ومشروعية الاستسرار بتلك البيعات حتى لا يبطش الطغاة بأصحابها.
3) جواز الاستعانة بالفاجر في الجهاد.
4) إن أحمد بن نصر رحمه الله كان من الذاهبين إلى مشروعية الخروج على المبتدع، وان لم يكفر، لانه كان يدعو الوائق بأمير المؤمنين، ومن هنا نعلم ان ادعاء الاجماع على عدم جواز الخروج على الحاكم المبتدع والفاسق فيه مجازفة، كيف وقد خرج الحسين بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم على زياد الفاسق، وخرج عبد الرحمن بن الاشعث على عبد الملك ابن مروان وكان معه سعيد بن جبير والشعبي وغيرهما، وخرج عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه على يزيد بن معاوية، فكيف إذا كفر الحاكم وبدل شرائع الإسلام؟!!
5) خطر مجالسة العالم للسلطان، وانه يصاب بذلك في دينه، فعبد الرحمن بن إسحاق كان صديقا لأحمد بن نصر لكن فتنة السلطان أعمته فأباح دمه.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (وليس على العالم اضر من الدخول على السلاطين فإنه يحسن للعالم الدنيا ويهون عليه المنكر) [ص403].
قال صلى الله عليه وسلم: ((من أتى أبواب السلطان افتتن)) [صحيح الجامع 6124].
6) منع المحبوسين من أصحاب أحمد بن نصر رحمه الله من حقوقهم المالية ظلم عظيم، فكيف بإباحة دماءهم ودماء أمثالهم في كل عصر؟!!
7) ثناء يحيى بن معين على أحمد بن نصر، ويحيى بن معين يعتبر من المتشددين في تزكية الرجال، وهو من أكابر علماء الجرح والتعديل.
قال الذهبي في ميزان الاعتدال عن المتشددين في التوثيق: (قسم متعنت في التوثيق، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطين والثلاث، ويلين حديثه، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر وعض عليه بنواجذك وتمسك بتوثيقه)... إلى ان قال: (ومن هذه الطبقة الجوزجاني وأبو حاتم الرازي وأبو محمد عبد الرحمن بن أبى حاتم الرازي والنسائي وشعبة وابن القطان وابن معين وابن المديني ويحيى القطان).
8) ثناء الإمام أحمد - إمام أهل السنة - على أحمد بن نصر، والإمام أحمد ايضا من كبار علماء الجرح والتعديل.
9) كرامات أحمد بن نصر التي تعتبر بشارات له بحسن الخاتمة والله أعلم.
ان عقيدة السلف عروس غالية المهر، فماذا أعددتم لها يا معشر الخطاب؟
أحذروا ان تتحول عقيدة السلف في قلوبكم إلى جسد مسلوب الروح، او رماد سرعان ما تذهب به رياح الفتن كل مذهب.
{إنما المؤمنون الذين أمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
عن مجلة الفجر