من مناقب حكامنا السابقين |
|
روى الحاكم في المستدرك قبيل كتاب الجمعة في ترجمة ضمام بن إسماعيل أنه روى عن أبي قنبل أن معاوية رضي الله عنه صعد المنبر يوم الجمعة فقال في خطبته: أيها الناس إن المال مالنا، والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا؛ فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثانية قال كذلك فلم يجبه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال كذلك: فقام إليه رجل فقال: كلا يا معاوية، ألا إن المال مالنا، والفىء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله تعالى بأسيافنا؛ فنزل معاوية وأرسل إلى الرجل فأدخل عليه، فقال القوم: هلك الرجل؛ ثم فتح معاوية الأبواب، فدخل عليه الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير! فقال معاوية: أيها الناس، إن هذا الرجل أحياني أحياه الله، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون أمة بعدي يقولون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة"، وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد شيئاً، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد علي أحد، فقلت في نفسي: أنت من القوم، فتكلمت في الجمعة الثالثة فقام إلي هذا الرجل، فرد عليّ فأحياني أحياه الله، فرجوت أن يخرجني الله منهم؛ ثم أعطاه وأجازه.1
روى عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس الرشيد فجرت مسألة المصراة، فتنازع الخصوم فيها وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرد بعضهم الحديث، قال: أبو هريرة متهم فيما يرويه (!!) ونحا نحوه الرشيد ونصر قوله، فقلت: أما الحديث فصحيح، وأبو هريرة رضي الله عنه صحيح النقل فيما يوريه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي، فلم يستقر بي الجلوس حتى قيل صاحب الشرطة بالباب، فدخل إليّ فقال: أجب أمير المؤمنين، إجابة مقتول، وتحنط وتكفن؛ فقلت: اللهم إنك تعلم أني قد دافعت عن صاحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه؛ قال: فأدخلت على الرشيد، فإذا هو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، وبيده السيف، وبين يديه النطع، فلما رآني قال: يا ابن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي مثل ما تلقيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به؛ فقال: كيف ويحك؟ قلت: لأنه إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والحدود كلها مردودة غير مقبولة، لأنهم رواتها، ولا تعرف إلا بواسطتهم؛ فرجع الرشيد إلى نفسه، وقال: الآن أحييتني يا ابن حبيب أحياك الله؛ ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم.
روي عن علي بن زيد بن جدعان أن أنساً رضي الله عنه دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي الجائر المبير، فقال له الحجاج: إيه يا خبيث، شيخاً جوالاً في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير أخرى، ومع ابن الأشعث مرة، ومع ابن الجارود أخرى، أما والله لأجردنك جرد الضب، ولأقلعنك قلع الصمغة، ولأعصبنك عصب2 السلمة، العجب من هؤلاء الأشرار أهل البخل والنفاق، فقال أنس رضي الله عنه: من يعني الأمير؟ فقال: إياك أعني أصم الله صداك3.
قال علي بن زيد: فلما خرج أنس من عنده قال: أما والله لولا ولدي لأجبته؛ ثم قال: كتب إلى عبد الملك بن مروان بما كان من الحجاج إليه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً، وأرسله مع إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم، فقدم على الحجاج وبدأ بأنس فقال له: إن أمير المؤمنين قد أكبر ما كان من الحجاج إليك، وأعظم ذلك، وأنا لك ناصح، إن الحجاج لا يعدله عند أمير المؤمنين أحد، وقد كتب إليه أن يأتيك، وأنا أرى أن تأتيه فيعتذر إليك، فتخرج من عنده وهو لك معظم، وبحقك عارف؛ ثم أتى الحجاج فأعطاه كتاب عبد الملك، فتمعَّر وجهه، وأقبل يمسح العرق من وجهه ويقول: غفر الله لأمير المؤمنين، ما كنتُ أراه يبلغ مني هذا!! قال إسماعيل: ثم رمى بالكتاب إليَّ وهو يظن أني قرأته، ثم قال: اذهب بنا إليه؛ فقلت: لا، بل يأتيك أصلحك الله! فأتيت أنساً رضي الله عنه، فقلت: اذهب بنا إلى الحجاج، فأتاه ورحب به، وقال: عجلت باللائمة يا أبا حمزة، إن الذي كان مني إليك كان من غير حقد، ولكن أهل العراق لا يحبون أن يكون لله عليهم سلطان يقيم حجته، ومع هذا فأنا أردت أن يعلم منافقو أهل العراق وفساقهم أني متى أقدمت عليك، فهم عليّ أهون، وأنا إليهم أسرع، ولك عندنا العتبى حتى ترضى.
فقال أنس: ما عجلتُ باللائمة حتى تناولت مني العامة دون الخاصة، وحتى شمتَّ بنا الأشرار، وقد سمانا الله الأنصار، وزعمتَ أنا أهل بخل، ونحن المؤثرون على أنفسهم، وزعمت أنا أهل نفاق، ونحن الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبل، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة لأهل العراق باستحلالك مني ما حرم الله عليك، وبيننا وبينك الله حكم هو أرضى للرضا، وأسخط للسخط، إليه جزاء العباد، وثواب أعمالهم، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فوالله إن النصارى على شركهم وكفرهم لو رأوا رجلاً قد خدم عيسى عليه السلام يوماً واحداً لأكرموه وعظموه! فكيف لم تحفظ لي خدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين؟! فإن يكن منك إحسان شكرنا ذلك منك، وإن يكن غير ذلك صبرنا إلى أن يأتي الله بالفرج.
قال: وكان كتاب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد: فإنك عبد طمت بك الأمور حتى عدوت طورك، وأيم الله يا ابن المستنثرة بعجم الزبيب لقد هممت أن أضغمك4 ضغمة كضغمات الليوث للثعالب، وأخبطك خبطة تود أنك زاحمت مخرجك من بطن أمك، قد بلغني ما كان منك إلى أنس، وأظنك أردتَ أن تختبر أمي المؤمنين، فإن كان عنده غيرة وإلا أمضيتَ قدماً، فلعنة الله عليك وعلى آبائك، أخفش العينين، ممسوح الحاجبين، أحمس5 الساقين، نسيت مكان آبائك بالطائف، وما كانوا عليه من الدناءة واللؤم، إذ يحفرون الآبار في المناهل بأيديهم، وينقلون الحجارة على ظهورهم، فإذا أتاك كتابي هذا وقرأته، فلا تلقه من يديك حتى تلقى أنساً بمنزله، واعتذر إليه، وإلا بعث إليك أمير المؤمنين نبأك، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، فلا تخالف أمير المؤمنين، وأكرم أنساً، وولده، وإلا بعثت إليك من يهتك سترك ويشمت بك عدوك، والسلام.
هذه المواقف الثلاثة تدل على الآتي:
1. ما كان عليه حكام المسلمين الأوائل من العدل والإنصاف والغيرة لله ولدينه.
2. ما كان عليه العلماء من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سر بقاء هذا الدين.
3. أن الأمر والنهي من الصادقين المخلصين لا يباعد من رزق ولا يقرب من أجل.
4. أن النصيحة الصادقة عاقبتها كلها خير.