مستقبل الجهاد..في ظل الانسحاب المرتقب من غزة

 

بعض المثقفين يرون في عرض شارون قرار الانسحاب من غزة مناورة لكسب الوقت..وهم وإن كان لديهم بعض الحق في رؤيتهم المبنية على تاريخ شارون ..وأنه صاحب عقيدة استيطانية حتى النخاع..إلا أنهم أغفلوا جوانب أخرى.. منها أن الانسحاب من منظار آخر لا يعدو غير ترجمة واقعية لقراره التهديدي السابق حول الفصل من جانب واحد..ليضمن بذلك التغطية على الهزائم التي مني بها عبر العلميات
الجهادية..

فيكون الاندحار من غزة مجرد انسحاب سياسي لا عسكري..لا أكثر..
مع ما يؤمن له ذلك من ملاذ يضمن له متنفسا من جرائم الرشوة والفساد التي تلاحقه..

وقبل نحو أسبوعين عقدت السلطة اجتماعا قبل أيام قلائل الذي دعيت إليه كل الفصائل ما عدا \"حماس\" و\"الجهاد\"..وتم فيه مناقشة الوضع وفق رؤية السلطة..والذي تمت مناقشته مع مدير الاستخبارات المصري قبل ذلك..وتتلخص بنوده:-

-أن تعقد السلطة مؤتمرا يحضره ممثلو الأحزاب الوطنية والوجهاء يتم فيه تجديد \"وحدانية\" السلطة..ممثلة في تجديد البيعة للرمز الخالد..ياسر عرفات -ثم نشر العناصر الأمنية شيئا فشيئا..لتشمل قطاعات القطاع المختلفة..مع مظاهر شكلية من تحسن الوضع..وانتظام المدارس..وحفظ الأمن ورد المظالم..وصولا إلى :

-مصادرة الأسلحة..وإصدار فرمانات بمنعها..ومحاسبة المتخلفين عن أداء هذا الواجب الوطني حسابا عسيرا..

هذا الاجتماع الذي حبس عنه حماس والجهاد تسربت الأنباء أن الفصائل المدعوة والنخب أجمعت على القبول به..أعني البند الأخير وهو المحك..الذي يقلق الكيان اليهودي..فشكل ذلك عزل (قسرية) لحركتي حماس والجهاد..يراد منها النيل منهما بإظهار شذوذهما..وأنهما لا يمثلون
الطموح الفلسطيني..

ومن المزري..أن لا تفسر السلطة مبدأ الانسحاب المتوقع..على أنه هزيمة واندحار.. غير أنه متوقع..لأن الثمرة الحلوة..لا تكون كذلك في جميع الأفواه والحق أن شارون أعلن قرار الانسحاب لسببين رئيسيين:

*محاولة وضع حد للخسارة الفادحة التي يتكبدها جيشه وشعبه كثمن للبقاء..

*استخدام هذا القرار-ولو لم يتحقق-كسند قبض لتنازلات جديدة..تقضي بدفن فكرة القدس..واللاجئين..بل وأد الطموح باستقلال على الضفة كلها..

وهناك مكاسب أخرى في حاشية هذين السببين..

ومع أن قرار الانسحاب..في الواقع -إن حصل- سيكون من حيث المبدأ بلا ثمن .. -بخلاف الانسحاب من الجنوب اللباني-

وهو ما نعبر عنه بالاندحار..غير أن شارون في رحلته المرتقبة إلى واشنطن سيحاول التنسيق مع الأمريكان..بما يضمن له الظهور بالمنتصر أمام شعبه..وأنه رجل سلام أمام العالم..

وفي ضوء هذه المعطيات..تتباين رؤية السلطة مع رؤية حماس والجهاد..لما سيكون عليه الحال بعد الاندحار..

أما السلطة..فأقصى ما يطلبه منظروها..أن يضمن الانسحاب عدم الإخلال بخارطة الطريق..المختلة أصلا..بعد تعديلات شارون الجهنمية..

وأما أصحاب القضية الحقيقيون..فلا يعترفون بالخارطة أصلا.. وهم في حقيقية الأمر تتلخص رؤيتهم للوضع بناء على الأسس الأتية:-

-النظر إلى الوضع الجديد..كوضع جديد..لا علاقة له بأوسلو..وتداعياتها
-النظر إلى الانسحاب كاندحار وهزيمة ..وثمرة أثبتت جدوى الانتفاضة والجهاد والمقاومة -وأن هذه بداية الطريق..والخطوة الأولى في طريق التحرير الطويل..لا أنه النهاية ودنو أجل القضية

وبناء على ما تقدم..فإن رؤية حماس المتعارضة قلبا وقالبا مع رؤية السلطة..ستفرض على البال احتمال الاقتتال الداخلي..أو ما يسمى بالحرب الأهلية

واللافت للنظر..أن مسألة الاقتتال هذه لا تبدو استحالتها في نظر السلطويين بنس النفس الذي تبديه حركة كحماس..ففي الوقت الذي يعلن فيه غير واحد من قيادات حماس كالدكتور الرنتيسي..وأسامة حمدان..وخالد مشعل..وغيرهم..أن هذه قضية لا مجال للنقاش في احتمال
وقوعها أصلا..لأسباب كثيرة..منها قدرة الشعب الفلسطيني على تجاوز الامتحانات الصعبة السابقة..منذ عام 1416هـ-1996م..وإلى يومنا هذا..بفضل الله سبحانه..

ومنها أن الوقوع في فخ كهذا..لا يعني الحكم على الانتفاضة بالإعدام فحسب..بل يعني نسفا كليا لكل ما قدمه الجهاد الفلسطيني من ثمرات مختلف ألوانها..

أقول في هذا الوقت..تلحظ الخجل في التعبير السلطوي..وهو ينفي أمرا كهذا..وكأن رجال السلطة لا يستبعدون وقوعها لما وقر في آذانهم من إملاءات صهيو أمريكية..تتعارض جملة وتفصيلا مع طموح المفرطين..فضلا عن المجاهدين الشرفاء..

وحيث إن الحرب الأهلية..تمثل أحد طموحات اليهود..وهكذا أبدا كل عدو (فرق تسد)..

فإن ثقة الأمة بالله تعالى..ثم بما بوعي الشعب المجاهد..يجعل من غير المبالغ فيه..أن نقول باستحالة وقوع هذا الشيء..بمعنى أنه ليس تفاؤلا مجردا..وبكلمة أوضح..الحرص على عدم حدوث الاقتتال..يستوي أو يزيد على الحرص على استمرار رفع راية الجهاد..أو المقاومة..في نظر أي عاقل..

وهنا..يبرز الإشكال..لأن المعادلة الصعبة تقول:بقاء جذوة الجهاد أمر لا نقاش فيه..لأن إعلان حالة وقف الانتفاضة..تذكرنا بقول الله تعالى\"ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا\"

والشيء الآخر من المعادلة:الاقتتال الداخلي..لا نقاش فيه أيضا..بنفسة السوية..أو أزيد

الأمريكان كما يظهر من تصريحاتهم..يودون إقحام الانسحاب كمعلم من معالم خارطة الطريق وصولا..وشارون سيجعلها خارطة الطريق..بمعنى (غزة أولا وأخيرا)..

وفي تشعبات هذه المتاهة ..وعبر الشرق الأوسط الكبير..في مدة قد تستغرق سنتين..سيكون المارد الأمريكي قد أفرز معطيات جديدة على السطح..تمهد لهذا..باستخدام لعبة \"زلزال الكراسي\"..

يقول ألمرت (رئيس بلدية القدس والخبير اللعين بجغرافيا فلسطين) تعليقا على الانسحاب الموعود:-

\"ستكون هناك تعديلات هامة على الوضع في الضفة بحيث سيبقى الجانب الأكبر من المناطق المقامة عليها مستوطنات لدى إسرائيل على أن يحصل الفلسطينيون على \"أراض متصلة كافية لإقامة دولة\"

والكلام يشرح نفسه بنفسه..ولا حاجة أن تتفق عبقرية المحللين..للكشف عن المخططات اليهودية.. يقول ألمرت \"أراض متصلة كافية لإقامة دولة\"..هذا منطوق وعد ألمرت..

ولم يبين للحالمين بالدولة..ماهية هذا الاتصال..هل هو اتصال جغرافي..أم اتصال إداري.. أم اتصال عبر شبكة الهاتف المحمول!

لاشك أن المرحلة المقبلة..مشحونة بالمفاجآت..ولا يمكن عزل المستجدات على العراق..عن مستقبل القضية الفلسطينية..

وبقدر ما تنتظم المقاومة في العراق وتعظم جذوتها..بقدر ما يتعثر المشروع الأمريكي..الذي تصب كل بنوده في مجرى خدمة القضية الصهيونية.. فأول من ذكر مشروع الشرق الأوسط..بنغوريون..ثم أتحفنا بيريز قبل أكثر من عشر سنوات بالمصطلح:الشرق الأوسط الجديد..والآن..الشرق الأوسط الكبير..الممتد من أفغانستان إلى
موريتانيا..

وفيما يخص القضية الفلسطينية..سيعني هذا المشروع..تسوية القضية..وفقا لرؤية شارون ولا أدل على ذلك..من الموقف الأمريكي الصامت إزاء إعلان شارون الفصل من جانب واحد رغم أن فكرة الفصل تتعارض مع الخارطة المحروسة..

أضف إلى ذلك صمت شارون عن بيان حقيقة خطته..للمعارضة الإسرائيلية

وإلى أن تستوي طبخة شارون ..لابد أن يشغلونا..بجزئيات تتعلق بمن سيتقلد الإشراف وسد الفراغ الأمني..طمعا في حرب أهلية..وهنا تأتي حكمة حماس في إعلان شيخها أحمد أنه لا طموحات للسيطرة على الوضع

المصريون من جانبهم أعلنوا استعدادهم لحراسة الحدود..وأظهروا مبالغة في دعوى عدم القبول بالتواجد الأمني على ثرى غزة الطاهر.. ولا شك أن مبررات التواجد..من السهل خلقها..تحت أي خدعة سينمائية..حين يصير ذلك مطلبا فلسطينيا..

ورغم أن الانسحاب ليس إلا هروبا واندحارا ..فلابد أن يكون من ضمن الثمن..عزل للقطاع عن تأدية دوره الجهادي ..ولن تقوم حماس والجهاد بالطبع عشية الانسحاب بحمل بطاريات صواريخ القسام إلى آخر موطيء قدم قذرة..للبدءبالقصف.. وسيكون ثمنا لإكمال بناء الجدار راسما بذلك خارطة الطريق الشارونية..

كما أن تغطية عار الهزيمة..لابد أن تكون عبر عمليات تصفية لقادة من حماس والجهاد كي تسم الاندحار بأنه مجرد انسحاب..انسجاما مع الرغبة الدولية

وأتوقع في ظل هذا الاختناق السياسي الاجتماعي الاقتصادي والضغط الأمريكي على السلطة..أن تشرع في خطوات عملية لوقف الإرهاب بمصادرة أسلحة ونحو ذلك..أن تحصل انشقاقات في حركة فتح....وتهديد لأصحاب المصالح الذاتية من السلطة ..ينشأ عنها استقالات جماعية وتململ عام ..يقود إلى البدءفي عمليات منظمة صعبة ومتطورة..

وهنا سيقوم الطرف اليهودي بالتهديد بالاحتلال من جديد وإعلان أنها الفرصة الأخيرة التي تعطى للفلسطينيين..الأمر الذي سيجعل السلطة بالقيادات الجديدة آنذاك وبعض من يبقى من الحاليين..بالقيام بخطوات تصعيدية..نحو اعتقالات ومصادرة أسلحة.. مدعومة بالأشقاء العرب!(الأردنيين والمصريين) والمغطى قانونيا بإجماع عربي

وفي هذا المنعطف الخطير..سيتعين على حماس سحب البساط بإعلان مبادرة..يتم على ضوئها..عدم مصادرة السلاح وعدم الاعتقال..مقابل وعود بالكف عن عمليات تنطلق من غزة..

وهنا ستأخذ المقاومة منحى آخر..يتعاظم في مناطق 48..لسد الفراغ الجهادي..

وهذا ما سيتم العمل عليه..على قدم وساق بتكوين خلايا كبيرة متماسكة وجديدة

وأعتقد أن الأوضاع ستتعقد لكنها ستصب في مصلحة المقاومة بالجملة إن شاء الله..وانتهاءذلك..بفشل شارون السياسي..تمهيدا لمرحلة جديدة..

هذا مجرد سيناريو..وإلا ففي درج الصهاينة بدائل عديدة..تقتضي مناقشة كل منها بحوثا طويلة

وحتى إذا كتب للمقاومة أن تقف مدة طويلة في غزة..فإنها ستكون فرصة عظيمة..للتخطيط الهاديء..والبناء النفسي ..والتنظيم المحكم..بما يضمن أن تكون غزة ظهرا مساندا وكامنا..يأذن بالانطلاق في الوقت المناسب

الكاتب: أبو القاسم المقدسي
التاريخ: 01/01/2007