قصة المنشور |
|
قصة المنشور بقلم محمد الشامي
إليك عزيزي القارئ هذه القصة من قصص الأنظمة الظالمة و الحكومات الطاغية الباغية ، وما تفعله بشعبها من ويلات و ما تُذيقهم من بغيٍ و تعذيب و تشريد 0
و اسمح لي قبل أن أسرد عليك وقائع هذه القصة أن أطلب منك طلبا أرجو منك ألا تخيبني فيه و ما أًًَََََُخالك تفعل ذلك ، اجعل هذه القصة سراً دفينا بيني و بينك و لا تخبر بها أحداً و لا تُطلع عليها انسياً و لا جنياً ، لأنَّ المخابرات والشبيحة ، إذا علمت بخبرها فسوف تُذيقني من الأهوال و الويلات ما الله به عليم ، و سوف تجعلني عبرة لمن يعتبر، وان كان يَخْلُوا في هذه الأيام من يعتبر من رجال الأمن و الشبيحة .
قال الراوي و لا مجال لذكر اسمه الآن :
كان صديقي عصام شاباً كالوردة المتفتحة وكالزهرة اليانعة ، وكان ملتزماً عابداَ ، مؤمناً بالله محباً للخير مبغضاً للشر، وهو مع هذه الصفات الحميدة أديبٌ أريبٌ ، ينظُمُ الشعر ويكتب القصة والمسرحية ، قد أكسَبَتُه دراسته عند بعض المشايخ الكبار الجامعين لعلوم القرآن وكنوز العربية ، حباً في الأدب واللغة وشغفاً بها وبأهلها من العلماء والأدباء واللغويين ، وقد زوَّدَتْه مطالعته لذخائر كتب التراث ذاتِ المجلدات الضخمة مَلََََكََة أدبية فذة .
تفتَّحَ صاحبنا على الدنيا فإذا هي سوداء حالكة وإذا بالناس مكلومون مظلومون مضطهدون ، يعيشون في مستنقع الذل منذ عقود خمسة مرَّ فيها أجيال من الناس ، كلما مات جيل ورث للجيل الذي يليه أسمالاً بالية رثة من الذل والقهر والاستعباد .
فسخَّر قلمه وأدبه لفضح هذا النظام الفاسد ، وللتحريض على الثورة ضده والانتفاض عليه ، فصار ينشر القصيدة تتلوها القصيدة ، والقصة بعد القصة يحرض الناس ويوعيهم ويرشدهم إلى الطريق الأمثل الذي لا غبار عليه ، ذلك الطريق الواضح المستقيم الذي يعيد الحق لأصحابه ، ويكسر شوكة الباطل ويسقط نظامه وبنيانه ، ذلك الطريق الذي يدعى طريق الثورة .
وفي إحدى الليالي ، وقبل أذان الفجر صحوت على ضجة كبيرة وسباب وشتائم ، فانتفضت من فراشي مُرتعباً مُرتبكاً ، وذهبت إلى النافذة ففتحتها فإذا بأكثر من أربعين رجل أمن مدججين بالسلاح يقتحمون بيت صاحبي عصام وهم يطلقون نيران بنادقهم هنا وهناك ويرسلون ألسنتهم بالسباب الفاحش والشتائم النابية ، وما هي إلا لحظات حتى كان هؤلاء الوحوش قد اقتحموا المنزل وألقوا القبض على المسكين عصام بعد أن فتشوا بيته وأخذوا من مكتبه حزمة من الأوراق ، ثم اقتادوه إلى سيارة مصفحة مقيد اليدين مغطى العينين ورموه في داخلها كما يرمى المتاع المُهترئ .
وانقطعت أخبار صاحبي منذ تلك اللحظة فما سمعت عنه شيئاً ولا علمت خبراً حتى كأنه اختفى عن هذا الوجود ولم يكن شيئاً مذكوراً .
بعد نحو الشهرين على تلك الحادثة جاءني ثمانية أشخاص من عناصر الأمن وطرقوا عليَّ الباب ، وما فتحت حتى ألقوا عليَّ القبض وقالوا إن المعلم يريدك ، قلت ويحكم و ما سأني أنا بكم و بمعلمكم هذا .
قالوا اصمت و امش معنا.
ذهبت مع هؤلاء وأنا مرتبك من هذه الدعوة غيرِ السَّارة إذ لم أعهد في يوم من الأيام أن أمثال هذه الدعوات فيها الخير ، ولا أظن أحداًَ من الناس يخالفني في هذا الرأي ، وصلت إلى مقر الفرع - وأعاذك الله من الفرع ومن رجاله وضباطه - ثم أدخلت مكتب المحقق بعد أن عُصبت عيناي بعصابة سوداء وقيدت يداي بقيد من حديد أمرني الضابط بالجلوس على مقعد أمام مكتبه فجلست .
- أنت فلان بن فلان .
- أجل أنا هو.
- اسمع إنني طلبت منك المجيء إلى هنا لأنني أعرف علاقتك بالمدعو عصام وأنك أنت صديقه وجاره .
- أجل أنا هو صديقه لأنه كما تعلم ليس له أحد هنا فهو من حماة وجاء دمشق ليكمل دراسته .
- دعك من ذلك الآن واسمع ما أقول :
إنَّ صديقك هذا قد اعترف بكل شيء ... أجل بكل شيء تماماً ، فمن الخير لك أن تقرَّ وتعترفَ وأنت تعلم من نحن وأنت أدرى بتعذيبنا .
- أنا لا أفهم ما تقول ، إنني فعلاً لا أفهم ما تقول .
- اخرس أيها الكلب ، وهنا وقف الضابط وتوجه إليَّ فأمسك بشعري وشدَّه شدَّة مؤلمة وهو يقول : إنني أقول لك كلمة واحدة من الخير لك أن تعترف وإلا فسوف ترى عذابنا .
- قلت له وأنا أتألم ، وبماذا أعترف إنني ....
ولم أستطع إتمام الكلمة فإنَّ هذا اللعين لكّمني في وجهي لكمة أفقدتني الوعي
ولم أشعر بنفسي إلا وأنا في الزنزانة التي تدعى ( المنفردة ) .
وبقيت على هذه الحال مدة من الزمن لا أشعر فيها بليل أو نهار وما ذقت فيها من الطعام شيئاً سوى بصلة رماها إليَّ أحدهم وقال لي بلهجة قاسية :
- كلها أيها الكلب فإنك سوف تبقى عندنا طويلاُ .
وبعد مدة يسيرة جاءني عنصران من الأمن وربطوا عينيَّ بقماشة سوداء كريهة الرائحة واقتادوني إلى مكان لا أعرف ما هو .
ولا تسألني عن شعوري حينها فقد كنت أسمع وأنا أمشي أصوات المعذبين لا... إنها ليست أصواتا بل هي أشبه بالنواح والعويل .
وعندما وصلنا إلى غرفة المحقق فكَّوا الرباط عن عينيَّ فكان أول شيء شاهَدْته عيناي جثةً مهمشَّة محطَّمة لشاب مسكين ملقاة على الأرض ، أمعنت النظر.... يالله إنه صديقي ..... أجل إنَّ هذه الجثة المنتفخة المتغيرة اللون والشكل والحجم بفعل التعذيب هي جثة عصام ... عصام ذاك الشاب الودود الحييُ الأديبُ ، ذلك البدر الطالع و الزهرة المتفتحة .....
ماذا فعل حتى صنعوا به هذا الصنيع المتوحش ؟
وركضت إلى الجثة أعانقها وأبكيها فما كان من المحقق إلا أن أمر عناصره بسحبي واقتيادي إلى غرفة التعذيب .
وبعد أن قيدت في تلك الغرفة المخيفة جاء المحقق ومعه سوط من سياط التعذيب ثم جذبني إليه وقال بصوت غارق في الحقد :
- هذا الكلب هو صديقك عصام وسيكون مصيرك مثل مصيره إن لم تعترف من الذي كتب المنشور ومن الذي وزعه ؟
قلت له – أي منشور هذا الذي تتحدث عنه وما علاقتي أنا به ؟
قال المحقق وهو يلوح بورقة ثم يعطيني اياها
- هذا المنشور... أليس كاتبه هو عصام وأنت من وزعه ، أيها السافل تريد أن تثور على النظام ، أنت تريد إسقاط النظام ، من أنت – ويحك– حتى تسقط النظام هل تريد الحرية ؟ سوف أريك إذن ما هي الحرية .
ثم انهال علي – لعنه الله – ضرباً وركلاً وسباً وشتماً حتى فقدت الوعي ورأيت نفسي مرة أخرى في الزنزانة المنفردة .
قال الراوي : وبقيت شهراً على هذه الحال كل يوم أُدعى إلى التحقيق في أمر هذا المنشور، وكل مرة أبري نفسي منه ومن توزيعه فأذوق من ألوان العذاب وأصناف الاضطهاد مالله به عليم .
وأخيراً وبعد كل هذه المعاناة أفرج عني وذهبت راجعاَ إلى بيتي والحزن يعتصر قلبي على صديقي الذي قضى حتفه حين طلب الحرية وطالب بالحقوق...
قلت لصديقي الراوي وما هي قصة هذا المنشور وهل أنت حقاً ممن وزعوه ونشروه .
أجاب صديقنا الراوي وهو يضحك ، لقد كان لي شرف توزيعه ونشره بعد أن كتبه صديقنا الأديب عليه رحمة الله ورضوانه ، والحمد لله أن حماني من أولئك الوحوش( رجال الأمن) فلم تكن نهايتي كنهاية صديقي عصام .
قلت : وهل تورد لنا نصه فإن في القراء من يغلبه الفضول لمعرفة هذا المنشور.
قال إنِّي أحفظه غيباً من كثرة ما كررته ، وقد وزعته على أكثر من عشرة آلاف بيت ، وقتل صديقي من أجله وعذبت كل هذا العذاب في سبيله والمنشور يقول :
"عندما يسقط نظام الأسد سيوقن الناس ، أنَّ الله يمهل ولا يهمل ، وأنَّه جلَّ جلالُه مهلكَ الظالمين ، ولكنْ في الأجل الذي يكتبه هو والموعد الذي يمدده هو، وسيعلمون أن لكل ظالم نهاية ولكل جبار خاتمة .
عندما يسقط نظام الأسد سوف يدخل الفرح إلى قلوب الناس المظلومين ويتغلغل السرور إلى سويداء أفئدة المكلومين المجروحين وسيشفى غليل جميع المشردين المبعدين وسيفرح المؤمنون بنصر الله
عندما يسقط نظام الأسد سوف يدك أكبر صرح بناه الشيطان وأذناب الشيطان ويهوي إلى أسفل سافلين
وسينادي الشيطان لقد سقط نظام بنيته أنا بيدي وبذلت في إقامته وتشيده كل ما أملك من حنكة مكر ودهاء وزرعت فيه من حقدي على الإنسانية مت يكفي لتدمير الإنسانية وغرست في نفوس جلاديه من بغضي للبشر ما يكفي لقتل جميع البشر
إن هذا الصرح الذي بنيته بيدي قد انهار فالويل لي ثم الويل لي بعد انهياره وسقوطه
عندما يسقط نظام الأسد سينادي مناد في السماء إن دولة الباطل قد انهزمت وإن دولة الحق قد ارتفعت وإن نصر الله قد أتى ألا ليعلم الناس أجمعون أن قد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
عندما يسقط نظام الأسد سيعود الأب إلى أبنائه والجد إلى أحفاده والمتزوج إلى زوجته والكاتب إلى كتبه والعالم إلى تلاميذه والعامل إلى مصنعه والفرح إلى أرضه وسيرجع كل حق إلى نصابه وسيغدو الحق عظيماً قوياً والباطل ضعيفاً
عندما يسقط نظام الأسد سينعم بالحرية ناس طالما حرموا منها وناموا في سجونهم وهم يحلمون بها وتمنوا وهم في سلاسل التعذيب أن يظفروا ولو بخيط من شعاعها الوضاء أو بقبس من نورها العظيم
عندما يسقط نظام الأسد ستعمُّ الأعراس في كل بلد وكل قرية وكل حي
وستتحول حياة الشعب أجمعه إلى نعيم توصف أيامه من حسنها بأنها أعراس
ألا إن فرعون قد بغى وطغى فأغرقه الله في البحر وإن كسرى تجبر وتكبر فحرق الله ملكه وإن نظام الأسد سوف يزول مع من يزول من الظالمين لأنه كان أعتى وأقسى من كل جبار مر على هذه الدنيا
ألا كم مر على هذه الدنيا من ظالمين كان كلٌ منهم يسوم شعبه بأقسى أنواع الظلم وأعتى أصناف التعذيب ومن جبارين بغوا وطغوا واستحقروا الشعب وأعلن كل واحد منهم أنه ربهم الأعلى و لكن
الله كان لكل هؤلاء بالمرصاد فأذلهم كما أذلوا وعذبهم كما عَذبوا وأوردهم النار وبئس المصير
ألا إن نظام الأسد نظام جائر ظالم فاسد وإن نهايته كنهابة كل نظام على شاكلته وإن أجل الله لآت وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
وبعد سيدي القارئ فهذه هي القصة ، سردتها عليك بكل أنبائها وتفصيلها وها أنذا أضعها بين يديك سراً بيني وبينك ، مثلما اتفقنا منذ البداية وأنت خير حفيظ عليها وأنت خير مؤتمن .
بقلم محمد الشامي