تحذير المتفقهين من غشيان السلاطين من غير إنكار ولا تبيين..

 

بقلم الشيخ هياف المطيري

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :

المفاسد المترتبة على غشيان الفقيه للسلاطين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن مخالطة المتصف بالعلم الشرعي للسلاطين وغشيانهم والدخول عليهم وقبول هداياهم فيه شر عظيم وخطر كبير خاصة في زماننا هذا ، لأن النية قد تحسن في أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم ، وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضاً فيقع بذلك الفساد من وجوه عدة :

أولاً : السلطان فإنه يقول : لولا أني على صواب لأنكر عليّ هذا المتصف بالعلم الشرعي ، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي ويجلس في مجلسي .

ثانياً : العامي فإنه يقول : لا بأس بهذا السلطان ولا بماله ولا بأفعاله فان فلاناًالمتصف بالعلم الشرعي لا يبرح عنده .

ثالثاً : المتصف بالعلم الشرعي فإنه يفسد دينه بذلك .

وقد لبس الشيطان على كثير ممن ينتسب للعلم الشرعي في الدخول على السلطان وحجته أنه إنما دخل لفعل الخير كالشفاعة ونحوها ، وينكشف هذا التلبيس بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح في ذلك الشخص لتفرده بالسلطان .

وقد لبس الشيطان على بعضهم أخذ أموالٍ من السلطان فيقول : لي فيها حق ، ومعلوم أنها إن كانت من حرام لم يحل له منها شيء ، وان كانت من شبهة فتركها أولى ، وان كانت من مباح جاز له الأخد مع الذلة والصغار ، وربما اقتدى العوام بظاهر فعله واستباحوا مالا يستباح .

ولذا كان سفيان الثوري رحمه الله يقول : \" ما أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم \" .

ما يحل من غشيان السلطان :
ــــــــــــــــــــــــ

ولقد عقد الغزالي في « الإحياء » باباً في فيما يحل من مخالطة السلاطين، قال فيه: « اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة، ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: وهي شرها، أن تدخل عليهم.

والثانية: وهي دونها أن يدخلوا عليك.

والثالثة: - وهي الأسلم - : أن تعتزل عنهم، ولا تراهم ولا يروك.

أما الحالة الأولى: وهي الدخول عليهم، فهي مذمومة جداً في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار فننقلها لتعرف ذم الشرع له.

ثم سرد كثيرا من الأحاديث والآثار ثم قال: « فهذه الأخبار والآثار تدل على ما في مخالطة السلاطين من الفتن وأنواع الفساد ولكنا نفصل ذلك تفصيلا فقهيا، نميز فيه المحظور عن المكروه والمباح.

فنقول: الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله إما بفعله، وإما بسكوته، وإما بقوله، وإما باعتقاده ولا ينفك عن أحد هذه الأمور.

أما الفعل : فالدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى دار مغصوبة وتخطيها والدخول فيها بغير إذن المالك حرام ، والتواضع للظالم لا يباح إلا بمجرد السلام. فأما تقبيل اليد والانحناء في الخدمة فمعصية ، والجلوس على بساطهم إذا كان أغلب أموالهم حراما ، لا يجوز.

وأما السكوت : فإنه يرى في مجلسهم من الفرش الحرير ، وأواني الفضة والحرير والملبوس عليهم ، وعلى غلمانهم ما هو حرام . وكل من رأى سيئة وسكت عليها، فهو شريك في تلك السيئة بل يسمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء، والسكوت عن جميع ذلك حرام.

وأما القول : فإنه يدعو للظالم ، أو يثني عليه ، أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله أو بتحريك رأسه ، أو باستبشارٍ في وجهه ، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه ، والحرص على طول عمره وبقائه. إذ أنه في الغالب لا يقتصر على السلام، بل يتكلم ولا يعدو كلامه على ما تقدم .

وأما دعاؤه فلا يحل له إلا أن يقول : « أصلحك ، أو وفقك الله للخيرات أو طول الله عمرك في طاعته » أو ما يجري في هذا المجرى .

فأما الدعاء له بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة ، مع الخطاب بالمولى وما في معناه، فغير جائز، فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فيذكر ما ليس فيه، فيكون كاذبا أو منافقا أو مكرما لظالم .

وهذه ثلاث معاص ،. فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول، والتزكية على ما يعمل، كان عاصياً بالتصديق وبالإعانة. فإن التزكية والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيها ، وأيضا فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه فإنه ينظر إلى توسعة في النعمة ويزدري نعمة الله عليه .

وهذا مع ما فيه من اقتداء غيره في الدخول، ومن تكثير سواد الظلمة بنفسه ، وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات .

فلا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين :

أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام، لا إكرام، وعلم أنه لو امتنع أوذي.

والثاني: أن يدخل عليهم في دفع الظلم عن مسلم ، فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ، ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا ».

قصة طاووس اليماني رحم الله مع السلطان :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قال: « فإن قلت : فلقد كان بعض علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول: نعم تعلم الدخول منهم، ثم أدخل عليهم! فقد حكي: أن هشام بن عبد الملك، قدم حاجا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة » فقيل: يا أمير المؤمنين! فقد تفانوا قال: من التابعين. فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية البساط، ولم يسلم بإمرة المؤمنين، ولكن قال: « السلام عليك يا هشام! » ولم يكنه وجلس بإزائه وقال: « كيف أنت يا هشام! » فغضب هشام غضبا شديدا حتى هم بقتله وقال له: « ما حملك على ما صنعت؟! » قال: وما الذي صنعت؟! ».

فازداد غضباً وغيظاً، فقال: « خلعت نعلك بحاشية بساطي، وما قبلت يدي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، ولم تكنني ، وجلست بإزائي بغير إذن ، وقلت: « كيف أنت يا هشام؟ » فقال: أما قولك: « خلعت نعلي بحاشية بساطك، فأنا أخلعها بين يدي رب العالمين كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي. وأما قولك: « لم تقبل يدي فإني سمعت علي بن أبي طالب قال:« لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته بشهوة أو ولده برحمة ».

وأما قولك: لم تسلم بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راض بإمرتك، فكرهت أن أكذب. وأما قولك: « لم تكنني فإن الله تعالى سمى أولياءه وقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى وكني أعداءه فقال: »تَبَّت يَداَ أَبي لَهَبٍ« وأما قولك: جلست بإزائي فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: « إذاأردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، انظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام » فقال هشام: عظني؟.

قال: « سمعت علي بن أبي طالب يقول: « إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته » ثم قام وخرج.

فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا أكرهوا فكانوا يفرون بأرواحهم في الله أعني علماء الآخرة، فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم، فيدلونهم على الرخص، ويستنبطون بدقائق الحيل السعة فيما يوافق أغراضهم » انتهى كلام الغزالي باختصار وتصرف.

ولقد كان علماء السلف يبتعدون عن السلاطين ولا يقبلون منهم شيئا ، بل إن مما يمدح به العالم عدم مخالطته للسلاطين وعدم قبول هداياهم ، فلو استقرأت التاريخ لوجدت فيه من هذا القبيل الشيء الكثير ، فتجد هذا العالم يثنى عليه ويوصف بأنه لا يغشى السلاطين ولا يقبل منهم شيئا ، وذاك يوصف بأنه لا يطلب الجاه والدخول على السلاطين ، وآخر يوصف بأنه ذو المروءة الظاهرة والمحاسن الكثيرة الوافرة مع هجرانه لأبواب السلاطين وامتناعه على ممر السنين أن يقبل لأحد منهم صلة وعطية .

ولذا يجب على من ينتسب للعلم الشرعي من عالم أو طالب علم أو حامل شهادة شرعية أن يعطي حق العلم ويعتز به إذ أن العلم عزيز قال سفيان الثوري : « ما زال العلم عزيزا، حتى حمل إلى أبواب الملوك فأخذوا عليه أجراً، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم ومنعهم العلم به ».

ولا يخالط السلاطين ولا يذل نفسه عندهم بقبول هداياهم ، وأن لا يجعل هذا العلم سلماً يبتغي به مطامع الحياة الدنيا ، بل عليه أن يبتغي بهذا العلم رضوان الله والجنة ، قال الفضيل بن عياض : « لو أن أهل العلم أكرموا على أنفسهم وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، واشتغلوا بما يعنيهم، وعز الإسلام وأهله لكنهم استذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم، إذا سلمت لهم دنياهم وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم، فذلــوا وهانوا على الناس ».

شعر بليغ تنبغي لكل فقيه قراءته
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

وأختم هذا المقال ببعض الأبيات من القصيدة العصماء في وصف ( العالم الأبي ) والاعتزاز بالعلم وسمو الهمة للعلامة القاضي أبي الحسن الجرجاني ، وقد قال التاج السبكي عن هذه القصيدة \" لله هذا الشعر ما أبلغه وأصنعه ، وما أعلى على هام الجوزاء موضعه ، وما أنفعه لو سمعه من سمعه ).

قال القاضي أبو الحسن الجرجاني :

يقولون لي : فيك انقباضٌ وإنما ** رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجمـــا
أرى النّاس من داناهم هان عندهم ** ومن أكرمته عزة النفس أكرمـــا
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ** بدا مطمـــــع صيرته لي سلمـــا
وما زلت منحازاً بعرضي جانبــاً ** عن الذل أعتدُّ الصيانة مغنمـــا
إذا قيل : هذا منهلٌ قلتُ: قد أَرَى ** ولكنَّ نفس الحرِّ تحتمل الظمـــــا
أنزهها عن بعض ما لا يشينهـــا ** مخافة أقوال العدا : فيمَ أو لِما ؟
فأصبح عن عيب اللئيم مسلَّمــــاً ** وقد رحتُ في نفس الكريم معظَّمــــا

إلى أن قال :

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ** لأَخْدُم من لاقيتُ لكن لأُخْدَمـــــــا
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً ** إذاً فاتباعُ الجهل قد كان أحزما
وإني لراضٍ عــن فتىً متعفــــف ** يروح ويغدو ليس يملك درهمـــــا
يبيت يراعي النجم من سوء حاله ** ويصبح طلقا ضاحكا متبسمــــــا
ولا يسأل المثرين ما بأكفهـــم ** ولو مات جوعاً عفةً وتكرمـــــا
فإن قلت : زند العلم كاب فإنما ** كبا حين لم نحرس حماه وأظلمــــا
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظموه في النفوس لعظمــــا
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ** محيّاه بالأطماع حتى تجهمـــا

الكاتب: الشيخ هياف المطيري
التاريخ: 01/01/2007