أخيراً مات صاحب الأخدود رفاعى سرور رحمه الله

 

أخيراً مات صاحب الأخدود

توفي شيخنا العلامة المجاهد الزاهد رفاعي سرور


بقلم د. هاني السباعي

hanisibu@hotmail.com

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الفجر الآيات من 27 إلى 30.

ينعي مركز المقريزي للأمة الإسلامية وفاة الشيخ العلامة المجاهد الزاهد رفاعي سرور عن عمر ناهز 67 عاما وذلك عصر يوم الأربعاء 30 ربيع أول 1433هـ الموافق 22 فبراير 2012م .. ونحسب أنه من الأنفس المطمئنة التي رجعت إلى ربها راضية مرضية ولا نزكيه على خالقه .. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

إن للموت للوعة! وفرقة وحرقة! وإنه لمصيبة بحق! فهو هازم اللذات ومفرق الأحبة! لكن رغم هذه اللوعة والفرقة وهول المصيبة! فإن ربنا قد علمنا في كتابه الكريم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) البقرة: آية 156.

نعم قد دهشنا لمصيبة الموت! وإنا لمحزونون لفراق شيخنا! فقد كان علماً وبركة وتواضعاً يمشي على الأرض.. فالدعوة الإسلامية قد خسرت ابناً من أبنائها الأبرار وعلماً من أعلامها الأخيار.

وأحسب أن قول الشاعر قد صدق فيه:

فما كان قيسٌ هُلكهُ هُلك واحد ** ولكنه بنيانُ قوم تهدما

ولكن رحم الأمة ولود والحمد لله .. نسأله سبحانه أن يخلفنا في شيخنا خيراً..

فلا يزال طيف صوته هامساً في مسمعي! ولا تزال كلماته الصادقات وأفكاره النيرات ماثلة أمام ثنايا رثائي له! حتى ضحكاته وقفشاته الحلوة وأنا أداعبه بأسماء كتبه وهو يضحك ويبادلني القفشات البريئة! ثم يعود بي إلى السؤال عن أحوالي ويقول لي لو عدتَ إلى مصر إن شاء الله سأكون من أول المستقبلين لك في المطار! فقلت له لو رجعتُ بإذن الله إلى مصر إن شاء الله سأذهب إليك وأضمك في صدري!

ثم يبادلني مشاعر في غاية السمو والأدب الرفيع والثناء الجميل الذي كان يخجلني به! وأقول له شتان شيخنا بين الثرى والثريا! فأنت نجم في سماء الحركة الإسلامية!

فمنذ أيام قلائل كنا نتبادل هموم الأمة وأطراف الحديث في موضوعات عامة وخاصة!

وأذكر أيضاً أنه منذ أسابيع معدودات كان هناك لقاء ثلاثي عبر الهاتف لأكثر من ساعة بيني وبينه ومعنا فضيلة الشيخ الدكتور طارق عبد الحليم حول مشروع التيار السني لإنقاذ مصر؛ كان رحمه الله مهموماً بمصير الأمة! كان مشغولاً بلملمة الجراح وتوحيد تيار نقي يقف أمام انهيار المتراجعين الذين ألهتهم صناديق الاقتراع عن ثوابت عقيدتهم! كان بيته مفتوحاً لأبناء الحركة الإسلامية على اختلاف مشاربهم! لم لا؟! وكنا نعده من آخر علماء مصر المحترمين.. لم لا؟! لكن قدر الدعوة في فقد أبنائها الأوفياء!..

كان رحمه الله عالماً موسوعياً صحيح الاعتقاد حلو المعشر، يقطر صوته خجلاً وتواضعاً! تجلس معه تشعر أنك قد آويت إلى كهف رحمة وتحنان! أب حنون، وأخ شفوق، ورفيق درب لا تمل صحبته!

أسد ٌهصورٌ في الحق! ذلولٌ رؤومٌ لينُ الجانب لأهل دينه.. كبيرٌ منذ أن عرفته الحركة الإسلامية وعرفها.. لم تلده فضائيةٌ مدغدغةٌ للمشاعر! وُلدت دعوته في رحم المحن والسجون والمطاردة!..

لقد غيبه الطغاة أكثر من ثلاثين سنة عن الحديث مع الناس! حتى ظن الوليد الجديد أن شيوخ الفضائيات هم شيوخ الإسلام وأعلامه! لكنهم شيوخ النظام وأزلامه!

وعلى أية حال فقد أبى الله إلا أن يحصحص الحق ويبقى ما ينفع الناس.. ويخلع الله وحده الباطل وحزبه في ثورة 18 من صفر 1432هـ الموافق 25 يناير 2012م.. ثم ها هو ذا شيخنا الصابر المبتلى يطل على استحياء في فضائية إسلامية في مقابلة أو مقابلتين! وقد صارحني بعد ظهوره أنه كان كارهاً رغم جهره بالحق! لكن لله في خلقه شؤون .. فلم نستمتع بشيخنا طويلاً!

وكان من عجائب قدر الله أنه شرفني بكتابة مقدمة لكتابي "مصادر السيرة النبوية" وكان قد كتبها فجر عرفة العام المنصرم 1432هـ .. ولم أكن أعلم أن هذه ستكون أول وآخر مقدمة يقدمها لي شيخنا العلامة رفاعي سرور!

أتته المنايا حين تم تمامه ** وأقصر عنه كل قرن يطاوله

وكان كليث غاب يحمي عرينه ** وترضى به أشباله وخلائله

غضوبٌ، حليمٌ، حين يطلب حلمه ** وسمٌ زعافٌ لا تصاب مقاتله

وسبحان الله كنت أتحدث أمس الثلاثاء مع نجله المهندس عمر وأحسبه أسداً مثل أبيه .. نسأل الله أن يحفظه .. الذي أفرج عنه العام الماضي بعد الثورة وقلت له لا تنس أن تعطي شيخنا والدكم نسخة من كتابي هدية! فضحك عمر وقال أنا أخذت النسخة من عنده أصلاً! ثم لم تمر إلا ساعات حتى نعى الناعي وفاة شيخنا! فدهشت وحبست العبرة وخفق الفؤاد إذ لم أجد إلا أن أقول ما يرضى الرب فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبعد هذه التقدمة السريعة أقول أيضاً:

لقد كان شيخنا العلامة رفاعي سرور من العلماء القلائل الصداعين بالحق الثابتين على المنهج فلم يدخل في دين الطاغوت ولم يتراجع قيد أنملة عن الحق.. وقد كنا قد كتبنا بياناً منذ 7 سنوات نستنكر فيه اعتقال قوات أمن الطاغية المخلوع لشيخنا رفاعي سرور في ذلك الوقت! وها نحن أولاء نعيد تسليط الضوء على جانب من هذه الشخصية الفذة ليعرف الشبيبة أن شيخنا كان من أنفس معادن الرجال:

أولاً: الشيخ العلامة رفاعي سرور من الرعيل الأول للحركات السلفية ذات التوجه الجهادي، ويعد من العلماء القلائل الذين صدعوا بالحق في وجه الطغاة، وتحملوا تبعة قولة الحق بالسجن والتعذيب والتضييق في الرزق، وفرضت عليه إقامة شبه جبرية لسنوات طويلة وهو صابر محتسب مع زهد وقناعة وحسن عبادة ولا نزكي على الله أحداً.

ثانياً: ابتلي شيخنا رفاعي سرور بالسجن طيلة عمر الحركة الإسلامية الجهادية منذ منتصف الستينات وحتى وقتنا الحاضر. كان الدكتور أيمن الظواهري يبجله ويكن له خالص الإحترام؛ إذ أنه قد تعرف عليه في سنة 1975م وكان يقول لقد تعلمت واستفدت منه كثيراً.

ثالثا: كان شيخنا رفاعي سرور ضمن الإسلاميين المتهمين في القضية رقم 462 لسنة 1981م حصر أمن دولة عليا المعروفة باسم قضية تنظيم الجهاد وكان مثالاً للأسد الهصور والشيخ الصبور الذي لم ينثن للطغاة ولم يركع إلا لله حتى ضاقوا به ذرعاً فحرضوا بعض السفهاء للشغب على فكره وعلمه وقد خاب مسعاهم وخرج الشيخ رفاعي سرور نقياً صافياً حيث فرضت عليه المراقبة اللصيقة وكان من قبل قدر قرر أن يعتزل العمل التنظيمي فكان يعكف على تأليف بعض الكتب النافعة والتحقيقات الجادة رغم حالته المادية الصعبة؛ إذ لم يشتك لأحد، وكان الناس يتعجبون من صبره وجلده ومواظبته على الصيام حتى أصيب ببعض الأمراض؛ كالسكري والكلى ومرض هشاشة العظام.. وظل هكذا حتى صعدت روحه إلى ربها .. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

رابعاً: لقد ترك شيخنا رحمه الله للمكتبة الإسلامية نفائس فكرية وعقدية كانت ولا تزال زاداً للشبيبة وللأجيال القادمة بإذن ومن أهمها:

(أ) كتاب عندما ترعى الذئاب الغنم: وهو من جزئين وهو في غاية الروعة ومترجم إلى عدة لغات أجنبية ألفه في بداية حقبة السبعينات.

(ب) كتاب أصحاب الإخدود: رغم صغر حجمه إلا أن الله وضع البركة في هذا الكتاب الذي طبع في السبعينات وحتى وقتنا الحاضر وترجم إلى عدة لغات وقد ألفه شيخنا عام 1966 وهو ابن ثمان عشرة سنة.

(ج) كتاب قدر الدعوة: من الكتب القيمة التي ينبغي على أي داعية إسلامي أن يقرأه وله كتابان في نفس السياق اسمه (حكمة الدعوة) وكتاب (بيت الدعوة)..

(د) كتاب علامات الساعة: وهو دراسة تحليلية لعلامات الساعة: وهذا الكتاب لا يوجد له نظير في العصور القديمة ولا الحديثة إذ لم يؤلفه على طريقة القدماء، بل غاص في مسائل تحليلية وأجاب ببراعة عن إشكاليات وملابسات في غاية الأهمية. هذا الكتاب منشور من جزأين وترجم إلى اللغة الإنجليزية.

(5) ومقالاته القيمة: الحاكمية والحرب الصليبية.. ملامح المنهج السلفي في المواجهة مع التنصير.. الحد بين الرأي والحرب .. الحرب على الشريعة .. «طلب الاعتذار» بدعة نصرانية وضلالة سياسية .. الشواهد النفسية على شرك القبور.. إبليس والصليب وغيرها من مقالات رائعة ماتعة.


صفوة القول


نعم إن الموت حق! وكل نفس لا محالة ذائقة الموت؟ نعم! لقد توفي شيخنا العلامة صاحب الأخدود ولا تزال الذئاب ترعى الغنم!! لكن كتاباته وكلماته ستظل حية بإذن الله كحياة كلمات أستاذه الشهيد سيد قطب رحمهما الله .. وبإذن الله سيأتي اليوم الذي تفر فيه الذئاب وتهيم في الفيافي والمفاوز مذعورة تائهة هالكة .. وتنعم الغنم في مراعيها ومراتعها بدون خوف وهلع.. أليس الصبح بقريب؟!

اللهم إنا نشهد أن عبدك شيخنا العلامة أبا يحيى رفاعي سرور قد ظلمه طواغيت مصر على مدار خمسين سنة.. اللهم إنا نشهد أنهم زجوا به ظلماً في السجون وضيقوا عليه وعلى أهله.. فكانت حياته بين السجن والإقامة الجبرية واعتقال أبنائه يحيى وعمر وحتى أصهاره..

اللهم إنا نشهد أنه كان صحيح الاعتقاد حريصاً على نشر دينك والذب عن شريعتك..

اللهم إنا نشهد أنه لم يدخل في دين المتراجعين عن الحق!

اللهم إنا نشهد أنه كان من العلماء العاملين المبتلين الصابرين الثابتين..

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تغفر له وترحمه وتنزل عليه شآبيب الرحمة والرضوان.. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده وأدخلنا معه في الصالحين.

اللهم أسكنه الفردوس الأعلى وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله..

اللهم ألهم أهله الصبر والسلوان .. وألحقنا به وأنت راض عنا يا غفور يا رحمن! اللهم آمين..


مركز المقريزي للدراسات التاريخية

لندن في يوم الأربعاء

30 ربيع الأول 1433هـ

22 فبراير 2012


الكاتب: ابوطلال من ليبيا
التاريخ: 23/02/2012