الكرة والطفولة الحضارية الشيخ عبد المنعم الشحات |
|
الكرة والطفولة الحضارية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
عندما نشاهد اهتمام ملايين البشر وانشغالهم بمتابعة مباريات كأس الأمم الإفريقية ثم تلك الفرحة العارمة بفوز مصر بالكأس والتي لم تقتصر على المصريين وحدهم، بل عمت كل البلاد العربية من المحيط إلى الخليج حتى غزة الجريحة المُحاصَرة خرج أهلها في مسيرات احتفالية بهذا النصر الرياضي "العظيم"!!. عندما نشاهد ذلك فلابد لنا من وقفة نبحث فيها عن سر تلك الكرة الملقبة بالساحرة المستديرة.
- إذا تأملت في الكرة وجدت أنها تشتمل على اللهو واللعب معاً، واللهو كما عرفه الجرجاني "الشيء الذي يتلذذ به الإنسان فيلهيه ثم ينفض"، ومن أمثلته البارزة في زماننا مشاهدة الأفلام والمسلسلات، ويدخل فيه أيضاً مشاهدة مباريات الكرة، إلا أن التأثير الواسع للكرة لا ينبع من مجرد كونها لهواً، بل يأتي من كونها لعباً.
واللعب يتضمن وجود غاية وهدف تشبه الأهداف الجادة، يسعى اللاعب لكي يصل إليه، كما في رفع الأثقال مثلاً، وكما يبني الأطفال قصوراً على الرمال ونحو ذلك، وقد يضاف إلى ذلك التنافس مع الآخرين كما في الجري ونحوه، وقد يضاف إلى ذلك كون اللعبة جماعية كما في كرة القدم ونحوها.
- إذا علمت هذا، فاعلم أن "اللعب" لاسيما الألعاب التنافسية الجماعية، معدود عند كل الأمم من وسائل التربية التي يمكن من خلالها إعطاء "الأطفال" صورة مصغرة للعالم الذي سوف يواجهونه في المستقبل، ويمكن من خلالها للمربي أن يكتشف الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية في "الطفل" الذي بين يديه.
وأما بالنسبة "للكبار" فقد تباينت الأمم في ذلك تبايناً شديداً، بين أمم تحب اللهو وتعظمه بالإضافة إلى أنهم في جدهم يميلون إلى روح تنافسية شديدة تحمل نفس إيقاع المنافسات الرياضية، وهؤلاء تفننوا في تطوير ألعاب الأطفال لتناسب الكبار، حتى أصبح الأصل في الألعاب عندهم أنها للكبار، ويستلزم الأمر إدخال بعض التعديلات عليها لتناسب "الناشئين"، وأوربا حاضرها وماضيها كان كذلك.
وأما الفلسفات الشرقية فترفعت عن الحاجات الأساسية للإنسان من مأكل وملبس، فترفعها عن الرياضة البدنية من باب أولى، وبين الشرق والغرب وجِدت كثيرٌ من الأحوال تميل إلى هذا تارة وإلى ذاك تارة أخرى.
وجاء الإسلام ليقرر أن اللهو واللعب حال لا تليق بمن تَـشَّرف بوصف الإيمان، حتى عاتب الله المهاجرين الذين فشا فيهم شيء من المزاح حينما وجدوا في المدينة الأمن والسكن، فأنزل الله عليهم: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(الحديد: 16).
إلا أن الشرع قد أذن للرجال في اللهو الذي يسد حاجة النفس إلى الترويح، ولكن مع الترغيب الشديد في أن يُوظَف ذلك في مصالح أعلى وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله)(رواه ابن ماجة وصححه الألباني)، فلم يجعل اللهو إلا فيما يعين على الجهاد، أو في ملاطفة الأهل.
ولشدة حرص الشرع على الاستعداد للجهاد فقد تجاوز الأمر إلى الإذن في السباق فيما يعين عليه دون غيره كما في الحديث (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)(رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني)، وغني عن الذكر أن المقصود هنا هو فنون القتال وليست أي رياضة بدنية.
إذن ففي دين الله لا يكون لعب الكبار إلا لأغراض كبار ويبقى اللعب للأطفال لأغراض كبار أيضاً، ومن شدة استقرار ارتباط اللعب بالأطفال، قال الجرجاني في التعريفات في تعريف اللعب: "هو فعل الصبيان يعقب التعب من غير فائدة" أي من غير فائدة تناسب همم المكلفين والواجبات المنوطة بهم.
ويمكن ذكر أهم الجوانب النفسية التي ينميها اللعب الجماعي التنافسي في الأطفال فيما يلي:
1- التعود على وجود غاية وهدف والسعي بجد واجتهاد إلى تحقيق هذه الغاية.
2- التعود على العمل الجماعي، وظهور ميول الفرد تجاه القيادة والجندية، واكتشاف نزعاته واستعداده للذوبان في الجماعة أو الاستغراق في الفردية والأنانية، وغني عن الذكر أنه ما لم يكن هناك توجيه لتفادي النزعات السيئة التي يكشف اللعب عنها فلن يزيدها اللعب إلا رسوخاً، ولذلك يبحث الأطباء النفسيون عند معالجة الأشخاص الذي يعانون من النرجسية أو الأنانية أو الانطواء في طفولتهم وكيف كان سلوكهم في اللعب فيها.
3- في اللعب يتعرض الفريق للهجوم والذي يلزم منه الصمود والإرادة لصد هذا الهجوم.
4- كما أن اللعب يعود على استحضار الأمل حتى عندما يحدث التراجع المؤقت أو الانكسار.
- إذن فاللعب يعود الأطفال على وجود الهدف واستشعار الأمل والتحلي بالصمود والذوبان في الجماعة لتحقيق هذا الهدف.
ومن المفترض من الناحية التربوية أنه يتم تدريجياً ومع تقدم العمر أن تدرج على قائمة أولويات الطفل أعمال جادة، فستقطع جزءً من وقت اللعب إلى أن يتلاشى اللعب تماماً فلا يبقى منه إلا ما كان معيناً على الجهاد أو على ملاطفة الأهل، أو ما كان غرضه الترويح -أي اللهو-، وهو لا يكون في حياة المسلم، بل في حياة كل الأمم الجادة إلا شيئاً يسيراً كالملح في الطعام فيكون في المناسبات فقط.
ولكن الأمر في زماننا لم يعد كذلك حيث انتشرت الحضارة الغربية في العالم، وهي حضارة تعظم اللهو جداً، وتدرجه ضمن قائمة اهتماماتها الأصلية.
والرجل الغربي غرضه في الحياة شهوة بطنه وفرجه ولهو نفسه، ومن ثَمَّ فالنظام السياسي والاجتماعي القائم هناك يطالب الناس بالعمل بكل طاقاتهم لكي يوفروا الأموال التي سوف تُأمن لهم شهوة البطن والفرج واللهو من سينما ومسرح، إلى ألعاب رياضية على اختلاف تنوعها، وقد صَدروا لنا هذا الجزء من ثقافتهم -وهو الانغماس في اللهو- ولم يصدروا لنا الجزء الآخر وهو الحرص على العمل والإنتاج من أجل تأمين "لهو مستقر ومُـنظم"، وغني عن الذكر أن لا هذا ولا ذاك يصلح أن يكون منهجاً لخير أمة أخرجت للناس، الحاصل أن الانغماس في المسابقات الرياضية منسجم تماماً إن لم يكن أحد مكونات الحضارة الغربية.
وقد تسرب هذا إلى قطاع عريض من الشباب المسلم لكونه في هذه المرحلة يحتاج إلى شيء من اللعب والتريض، ولا يجد نموذجاً للعب إلا النموذج الغربي كما هو الشأن في سائر المجالات، بالإضافة إلى أن القطاع الأكبر من الشباب المسلم لا يكتفي بالألعاب الرياضية، بل ينهل من كل أنواع اللهو الغربية حتى أصبح لا يعرف إلا اللهو.
فإذا كان هذا هو حال الشباب في ارتباطه باللهو واللعب عموماً، وبالكرة خصوصاً، فكيف يتحول الأمر إلى مشهد قومي يشارك فيه الرجال والنساء والأطفال من المحيط إلى الخليج.
هذا في الأعم الأغلب راجع إلى أن المنافسات الرياضية بصورتها الحالية تشبع تلك الحاجات الفطرية التي جبل الله النفس البشرية عليها من وجود الهدف والأمل والصمود والشعور بروح الجماعة.
- هذه الحاجات أودعها الله في النفس البشرية لكي تكون دافعاً لها على تحقيق رسالة عمارة الأرض بشرع الله -تعالى-، ولكن الشيطان يحاول دائماً أن يستدرج الإنسان إلى إشباع تلك الحاجات بأمور محرمة أو قليلة النفع على الأقل كما يجتهد في أن يجعل من يتزوج لا يريد من الزواج إلا شهوة فرجه دون أن يريد من وراء ذلك تكثير سواد الأمة، وربما ذهب مع البعض إلى ما هو أبعد من ذلك من قضاء شهوته في حرام مع أن الحاجة إلى الجنس الآخر إنما أودعها الله -عز وجل- في الناس ليكون الزواج والتكاثر وعمارة الأرض.
ومن هنا، وبدلاً من أن تلتف الأمة حول هدف أسمى هو نصرة دين الله -عز وجل-، وبدلاً من أن يكون أملها هو العودة إلى قيادة العالم، وبدلاً من أن يكون صمودها أمام هجمات الأعداء العسكرية والفكرية، بدلاً من هذا كله لم تجد الأمة من هدف وأمل وصمود إلا في ميدان الكرة، وهو أمل يتحقق حيناً ويذهب أحياناً، ولكنه أصبح في حس كثير من الناس أفضل من الآمال الجادة التي أريد للأمة أن تيأس منها يأسها من أصحاب القبور، وكذلك الصمود في ملاعب الكرة هو في عرف إعلامنا صمود الرجال، بينما صمود المقاومة للمحتل هو صمود "الصواريخ الكاريكاتورية".
الحاصل أن الأمة لديها حاجة فطرية لأن تشعر بأنها أمة، وأن يكون لها هدف وأمل، وأن تشعر بأن لها كيان، وأن تشعر أنها تملك "كتيبة شجعان"، فلم تجد ذلك إلا في هذا الميدان، وسبحان الله، لما وجد الأمل ووجد العمل، وجد الإنفاق والبذل؛ فالناس يشترون الأعلام للتشجيع مع أن الفريق المشجَع لن يراها، ولكنها الرغبة في المساهمة في هذه "الملحمة" بأي نوع من المساهمة، والناس يرفعون الدعوات لله -عز وجل-، دعاء ملايين المصريين ومعهم 300 مليون عربي، وكم بُحَّت أصواتنا في أن ندعو للمستضعفين ولكن الاستجابة لم تكن على القدر المطلوب، وكأن الكثيرين من المسلمين لا يريد أن يسأل الله شيئاً صور له الإعلام أنه من ضروب المستحيل.
وبالمناسبة فالله -عز وجل- يعطي عبده ما سأله طالما سأل وتوسل، وربما أعطاه حاجته وإن كان كانت محرمة، أو خلاف الأولى، وبالتالي فلا شك أن دعوات الملايين كان لها أثر في هذا الفوز، وإن كان هذا لا يعني مشروعية اللعب في هذه الكئوس، وإهدار الأعمار فيها.
المشهد الآن يقول: إن الأمة لجأت لا إرادياً إلى مجال اللعب لتشبع من خلاله الإحساس بأنها ما زالت أمة.
وقد قدمنا أن اللعب لا يصلح أن يكون هدفاً في أمتنا إلا للأطفال، فهل تعيش أمتنا طفولة حضارية متأخرة؟ هل رضينا من ميراثنا العظيم بهذه الطفولة الحضارية؟
إن أمتنا ولدت يوم ولدت عظيمة رائدة لأنها أمة ربانية، حملت نور الوحي إلى الدنيا بأسرها، واليوم ورغم أن نور الوحي ما زال في أيديها إلا أنها ترضى بأن يكون مشروعها القومي هو "منتخبها الكروي القومي".
وإذا تأملت في الفرحة العارمة التي ترتسم على وجه أب يرى طفله ذي الخمس سنوات وهو يبني قصره الأول فوق الرمال، ثم تأملت في تلك الحسرة التي تعلو وجهه لو وجد ابنه بعد أن تخرج من الجامعة وهو ما يزال لا يحسن غير بناء القصور على الرمال، علمت مقدار الصدمة والحزن والأسى الذي تورثه الطفولة المتأخرة في مجال الأفراد.
وأما في مجال الأمم فطعمها أمرُّ من الحنظل، وألمها يشوي الأكباد، ومع ذلك فالطفولة المتأخرة ليست بالداء العضال الذي لا يرجى برؤه، ولكنه يحتاج إلى صرخة من ناصح تعيد المريض إلى رشده وإلى سنه الطبيعي، فهل من ناصح لأمة الإسلام يعيدها إلى مشروعها الحضاري ويعيده إليها؟
سؤال لابد وأن يَشغل أبناء الصحوة الإسلامية أنفسهم به.
الشيخ / عبد المنعم الشحات حفظه الله
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف