بعد خلاف امتد عدة أسابيع بين قطبي السلطة الفلسطينية عرفات وأبو مازن ، وبعد ضغوط أمريكية وصهيونية وعربية رسمية على عرفات ، ولدت حكومة أبو مازن ، التي يراهن عليها أمريكيا وصهيونيا في نزع سلاح المقاومة ، وتدمير بنيتها التحتية ، بغية إسقاط خيار المقاومة من أيدي الفلسطينيين ، في محاولة لفرض الاستسلام عليهم ، ويبدو أن حكومة أبو مازن قد قبلت بالدور المرسوم لها ، كما يبدو أنها عاقدة العزم على نزع سلاح المقاومة ،انطلاقا من بيانها الوزاري وقبولها بـ ( خريطة الطريق ) ، رغم عدم موافقة حكومة شارون عليها لغاية الآن .
ومن الجدير ذكره ، بأنه لاول مرة منذ إنشاء السلطة ، يتم استحداث منصب رئيس الحكومة ، وجاء استحداث المنصب ، استجابة لضغوط أمريكية وصهيونية ، في إطار ما يسمى بعملية إصلاح السلطة ، التي تتلخص في إبراز قيادة بديلة عن عرفات ، ممثلة بالثنائي أبو مازن ـ دحلان واعادة بناء الأجهزة الأمنية ، ووضعها تحت قيادة دحلان ، بعد ( تنظيفها ) من بعض العناصر والقيادات ، لتنفيذ السيناريو المرسوم لها أمريكيا وصهيونيا ، في ضرب المقاومة ونزع سلاحها ، بعد أن اخفق عرفات في إنجاز هذه المهمة ، على مدى الثلاث سنوات الماضية .
وبدون شك أن الإصلاح مطلب له الأولوية لدى الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة ، بهدف إجراء إصلاح حقيقي للمؤسسات الرسمية والشعبية الفلسطينية ، عبر عزل القيادات الفاسدة سياسيا وماليا ، واستبدالها بقيادات شابه مجاهدة ومكافحة ، تمرست عبر المقاومة والانتفاضة والمعتقلات الصهيونية .
ولكن الإصلاح ضمن المفهوم الأمريكي والصهيوني ، كان له الأولوية لدى السلطة ، الذي يستهدف ( تنظيف ) المؤسسات والأجهزة الرسمية مـن بعض العناصر والقيادات التي رفضت قمع الانتفاضة والمقاومة ، ومثل هذا المفهوم للإصلاح غير مقبول ومرفوض فلسطينيا على مستوى الشعب وعلى مستوى الفصائل ، ومصيره الفشل ، لانه لا يستجيب لمطالب وطموحات الشعب الفلسطيني وفصائله في الإصلاح ، حيث المطالبة بإنشاء قيادة فلسطينية موحدة لقيادة المقاومة والانتفاضة تضم في صفوفها كل المقاومين والمجاهدين عبـــر الالتفاف حول برنامج المقاومة ، والتخلي عن برنامج التسوية .
ولتسليط الضوء ، على طبيعة الخلاف بين عرفات وأبو مازن ، فيما يتعلق بتشكيلة الحكومة ،والرؤية السياسيّة ، لا بد من التوقف عند ما يلي :
أولا : إن الخلاف بين عرفات وأبو مازن ليس خلافا مبدئيّا أو خلافا استراتيجيّا ، وإنما هو خلافا تكتيكيا في إطار الشراكة الكاملة بينهما ، التي امتدت نحو أربعة عقود ، منذ نشوء حركة فتح عام 1965، وفي إطار الخط السياسي الواحد الذين ينتميان إليه ، المتمثل بخط التسوية ، الذي انتج ( اوسلو ) التي بموجبها اعترفت منظمة التحرير والسلطة بشرعية الكيان الصهيوني على ارض فلسطين ، وتم بموجبها التنازل عن فلسطين المحتلة عام 1948 ، والتي كانت وراء إنهاء الانتفاضة الأولى ، ثم أخيرا ( خريطة الطريق ) التي هي في الواقع مؤامرة خطيرة على الانتفاضة .
ثانيا : هو خلاف شخصي بين الرجلين ، على المناصب الوزارية ، وتوزيع الحصص في الحكومة ، أي انه خلاف على مواقع السلطة والنفوذ والمكاسب الشخصية ، حيث برز هذا الخلاف بصورة جلية حول منصب وزير الداخلية ، الذي رفض عرفات منحه لدحلان بعد أن رشحه أبو مازن لهذا المنصب ، والذي اضطر عرفات لاحقا إلى القبول بصيغة معدلة بعد تدخل أو تهديدات حملها إليه رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان ، من خلال إسناد منصب وزير الشؤون الأمنية إلى دحلان ، مقابل أن يحتفظ أبو مازن بمنصب وزير الداخلية ، حيث كان الدافع لهذا الخلاف هو السيطرة على القرار الأمني والسياسي ، الذي كان يحتكره عرفات سابقا ، ويحاول أبو مازن السيطرة عليه الآن بدعم أمريكي صهيوني .
ثالثا : هو خلاف أو تباين بين رؤيتين ، ضمن إطار خط التسوية ، رؤية يمثلها عرفات ، تضع لنفسها بعض ( الخطوط الحمر ) ، وترفض تجاوزها ، كما تقول ، تتلخص في المطالبة بحل سياسي للقضية الفلسطينية ، عبر إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود 1967 ، عاصمتها القدس الشرقية ، بما فيها الحرم القدسي الشريف ، وإزالة المستوطنات ، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين ، من خلال العودة إلى المفاوضات السياسية التي توقفت بعد اندلاع الانتفاضة ، ويعتقد أصحاب وجهة النظر هذه ، بان الحل السياسي ، واقامة الدولة المستقلة في حدود 1967 كفيلان بوقف الانتفاضة وإنهاء المقاومة ، واستتباب الأمن والسلام في المنطقة .
ومن الجدير ذكره ، انه سبق لحكومة عرفات أن جربت ضرب الفصائل الإسلامية كحماس والجهاد عام 1996حيث حققت حملتها بعض النجاح في حينه ، ولكن حملتها لتصفية انتفاضة الأقصى منيت بالفشل الذريع ، وعادتا حماس والجهاد أقوى بكثير من قبل .
أما بالنسبة للرؤية التي يمثلها أبو مازن ـ دحلان ، فهي اشد خطورة من رؤية عرفات ، وهي تتلخص في أن أصحابها مستعدون للذهاب بعيدا في الاستجابة للاملاءات الأمريكية والصهيونية.
حيث يرى هؤلاء بان الأولوية هي للحل الأمني ، عبر تصفية المقاومة ونزع سلاحها ، وإنهاء الانتفاضة ، كما يرى هؤلاء بإمكانية التنازل عن حق العودة للاجئين ، والتنازل عن إزالة المستوطنات ، ويقبل هؤلاء بإقامة الدولة على أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ، ووفق الشروط الصهيونية .
وينطلق أصحاب هذه الرؤية من فكرة تقول ، بان متغيرات إقليمية قد حدثت بعد سقوط نظام صدام حسين ، والاحتلال الأمريكي للعراق ، تتطلب أن نكون واقعيين وان نتلاءم معها ، ويذكر أن أصحاب هذا الرؤية نظروا كثيرا لعدم جدوى المقاومة والانتفاضة ، وقالوا انه كان من الخطأ عسكرة الانتفاضة ، وتحويلها إلى مقاومة مسلحة ، وكان من الأفضل لو أنها بقيت سلمية ، وينتقد أصحاب هذه الرؤية عرفات ويتهمونه بأنه ضيع فرصة ثمينة بعد أن رفض التوقيع على الحل النهائي في ( كامب ديفيد 2 ) .
لا شك أن ما ينظر له أصحاب هذه الرؤية من أفكار ، تمثل منطق المهزومين والمستسلمين ، وهو منطق مرفوض ومدان من الفلسطينيين وفصائل المقاومة ، التي أكدت على تمسكها بخيار المقاومة ، الذي اثبت فاعليته وتأثيره العميق في الكيان الصهيوني ، على مدى واحد وثلاثين شهرا من عمر الانتفاضة ، ومنطق المهزومين ليس له مؤيدين بين الفلسطينيين لذلك سيكون مصيره الفشل ، كما فشلت كل المحاولات السابقة في ضرب المقاومة وانهاء الانتفاضة .
أما حول حقيقة ( خريطة الطريق ) ، فهي قد طرحت أصلا ، من قبيل المناورة السياسية للإدارة الأمريكية ، قبيل الحرب على العراق ، في محاولة لتهدئة أو تخدير الفلسطينيين ، عبر بيعهم الأوهام ، وبأنها جادة في حل قضيتهم ، واقامة دولة لهم ، بعد انتهاء الحرب وسقوط النظام ، خشية أن تؤثر انتفاضتهم ومقاومتهم سلبا على عملياتها العسكرية في العراق .
ولكن بعد نشر ( خريطة الطريق ) قبل أسبوعين تقريبا ، تبين بأنها خريطة أمنية ، أو خريطة دموية بمعنى اصح ، تستهدف القتل والتدمير والتخريب كما يحدث اليوم في غزة ، وتستهدف تصفية المقاومة والانتفاضة ، والتنازل عن حق العودة للاجئين ، وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية من أساسها ، في مقابل وعود غير مضمونة بدولة فلسطينية مؤقتة في العام 2005 ، وفق الرؤية التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي جورج بوش في إحدى خطبه .
وفي الواقع ، كان تشكيل حكومة أبو مازن ، البند الأول في تطبيق ( خريطة الطريق ) ، وبعد أن رأت الحكومة النور ، وبرز أبو مازن إلى الواجهة على حساب عرفات ، عبر الدعم والرعاية الأمريكية ، حيث يجري التعامل معه على أساس انه يمثل القيادة الجديدة للسلطة .
فان مهمة خطيرة جدا ، تتهيأ حكومة أبو مازن لتنفيذها خلال الأيام والأسابيع والشهور المقبلة تتمثل في نزع السلاح بقوة السلاح ، حيث ينتاب الفلسطينيون القلق من أن تقودهم حكومة أبو مازن إلى الاقتتال الداخلي ، إذا ما أصرت على تنفيذ مهمتها تلك ، خاصة وان الفصائل مجتمعة ترفض نزع سلاحها وتتمسك بالمقاومة ، وعبرت عن ذلك ميدانيا عبر مواصلة عمليات المقاومة ضد الاحتلال.
كذلك ينتاب الفلسطينيون القلق من النوايا الأمريكية بتقديم المال والسلاح والتدريب والخبرة للأجهزة الأمنية ، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية بأنها ستقدم 50 مليون دولار كمساعدة مالية لاعادة بناء وتدريب وتسليح أجهزة الأمن .
ورغم هذا القلق المشروع بين الفلسطينيين من الاقتتال الداخلي ، فانه لا خوف حقيقي من الاقتتال الداخلي ولا خوف على سلاح المقاومة ، لان المعطيات المتوفرة تشير بان حكومة أبو مازن لن تستطيع نزع السلاح من أيدي المقاومين ، انطلاقا من القناعة الراسخة لدى الفلسطينيين بان سلاح المقاومة هو خط احمر ممنوع وحرام الاقتراب منه طالما بقي الاحتلال.
خاصة بعد أن عجز سلاح السلطة عن مواجهة العدو ، وعجز عن حماية الفلسطينيين أمام العدوان الصهيوني اليومي عليهم ، وأمام الاغتيالات اليومية لقادتهم وكوادرهم وأبناءهم ، وأمام التدمير اليومي لبيوتهم ومزارعهم ومصانعهم ومؤسساتهم ، وأمام المصادرة اليومية لارضهم لبناء المستوطنات والأحزمة الأمنية .
ففي ظل هذا العجز السلطوي عن مواجهة العدو فانه لا يجوز الحديث عن نزع السلاح من أيدي الشعب وفصائل المقاومة ، التي تحمل السلاح لحماية الشعب ودافعا عن الوطن ودافعا عن القضية ودفاعا عن المستقبل ، خاصة وانه سلاح منضبط وملتزم ومسؤول ، والذي ثبت ميدانيا بأنه أمضى كثيرا واكثر فاعلية وتأثيرا من سلاح السلطة في جبهة العدو .
وفي نفس السياق ، هناك العديد من العوامل التي تؤشر إلى حتمية فشل حكومة أبو مازن وسقوطها المتوقع ، وفيما يلي أهمها :
أولا :
ـــــ
إن أبو مازن ودحلان ، شخصيتان تفتقدان إلى المصداقية ، ورصيدهما النضالي والشعبي ضئيل يكاد لا يذكر ، ومكامن قوتهما مستمدة من الدعم والرعاية الأمريكية والصهيونية لهما ، فأبو مازن محسوب تاريخيا على خط التسوية ، في منظمة التحرير وحركة فتح ، وسجله يخلو من أي رصيد نضالي في مقاومة الاحتلال والكفاح المسلح .
إلى جانب ذلك فهو صاحب نظرية تقول بخطأ عسكرة الانتفاضة ( تحويلها إلى مقاومة مسلحة ) ، ناهيك عن كونه المهندس الرئيسي لاتفاقية ( اوسلو ) سيئة الصيت ، والاهم من ذلك انه يلقى معارضة شديدة من داخل تنظيم حركة فتح وتحديدا من كتائب شهداء الأقصى .
أما بالنسبة لدحلان فسجله حافل بالتعاون الأمني مع الكيان الصهيوني ، وحافل بالقمع للمجاهدين والمقاومين ، خاصة مجاهدي حماس والجهاد عام 1996، عندما كان على رأس جهاز الأمن الوقائي في غزة .
ثانيا :
ـــــ
لقد جرت محاولات عديدة سابقة لنزع سلاح المقاومة ، فقد جربت حكومات عرفات المتعاقبة القيام بهذه المهمة ، ولكنها واجهت الفشل الذريع ، لذلك نال عرفات غضب إدارة بوش وحكومة شارون وسحبتا البساط من تحته ، فقد فشل في هذه المهمة اللواء عبد الرزاق اليحيى أول وزير داخلية في السلطة ، وفشل هاني الحسن وزير الداخلية السابق ، وفشل قبله دحلان في غزة ، وفشل الرجوب في الضفة ، وستفشل حتما حكومة أبو مازن ـ دحلان ، انطلاقا من الوعي الفلسطيني العميق بان أي بديل عن المقاومة لا قيمة له ، ولا يغني ولا يسمن من جوع ، وانطلاقا من الوعي التاريخي لدى فصائل المقاومة بان سلاحها ، هو الضمانة الوحيدة لانتزاع الحقوق المسلوبة ، وهو الضمانة الوحيدة للدفاع عن النفس والشعب والمستقبل أمام العدوان الصهيوني المتواصل يوميا .
ثالثا :
ـــ
لقد تجذر عميقا في الوعي والوجدان الفلسطيني خيار المقاومة والاستشهاد ، ويعود الفضل في ذلك إلى تضحيات أبناء حركة حماس وحركة الجهاد وكتائب شهداء الأقصى ، التي انتهجت منهج العمليات الاستشهادية ، فبعد كل هذه التجربة والخبرة والتراث الجهادي الضخم لدى هذه الفصائل المجاهدة ، والالتفاف الشعبي الفلسطيني المجاهد حولها ، فانه من العصب جدا ، بل من المستحيل ، وسيكون مكلفا جدا لمن يحاول المساس بسلاح المقاومة ، خاصة في ظل استمرار الاحتلال والعدوان الصهيوني اليومي .
رابعا :
ـــ
ان عدم اعتراف حكومة شارون بـ ( خريطة الطريق ) شكل ضربة قوية لهذه الخريطة ، كذلك إن مواصلة جيش الاحتلال الصهيوني لعدوانه وجرائمه وإرهابه اليومي ضد الشعب الفلسطيني ، من خلال الاغتيالات والقتل والتدمير والتخريب ومصادرة الأراضي ، من أهم العوامل التي ستؤدي إلى فشل ( خريطة الطريق ) وحكومة أبو مازن ، ففي ظل العدوان المستمر لا يمكن أن يستمع أحد لما يقوله أبو مازن وحكومته ، بل سيكون مرفوضا ومستهجنا ومدانا المطالبة بنزع سلاح المقاومة .
خامسا :
ــــ
لقد أسقطت حكومة شارون الأوهام لدى الفلسطينيين بإمكانية إقامة سلام وتعايش مع كيانه ، وفاق الجميع على حقيقة بان ( اوسلو ) ، كانت خدعة وكذبة كبيرة ، دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا لها ، ومن ناحية أخرى ، لم يعد لدى الفلسطينيين أي مصداقية بالإدارة الأمريكية بسبب دعمها ألا محدود للعدو الصهيوني ، بل أدرك الجميع بأنها شريكة كاملة في جرائمه ومجازره ضد الفلسطينيين . ومن جانب آخر ، لم يعد لدى شارون شيء يقدمه للفلسطينيين ، يستجيب للحد الأدنى من طموحاتهم في إقامة دولة فلسطينية مستقلة بعاصمتها القدس الشريف ، مقابل نزع سلاحهم ووقف انتفاضتهم .
من هنا فان العقل والمنطق والحكمة تقول بالتمسك بالسلاح والتمسك بخيار المقاومة ومتابعة الانتفاضة ، حتى تحقيق الأهداف ، ومن هنا فلا فرصة حقيقية لدى حكومة أبو مازن في تطبيق ( خريطة الطريق ) ، ولا فرصة لديها لنزع سلاح المقاومة ، وستواجه بالعجز والفشل ، وستسقط بأسرع مما هو متوقع ، وستستمر المقاومة والانتفاضة ، وسينتصر المجاهدون والمقاومون ، وسيسقط المهزومون والمستسلمون إن عاجلا أم آجلا ، فهذه الأمة لن تستسلم ولن تموت ، طالما هناك مجاهدون مستعدون للاستشهاد في سبيلها وفي سبيل عزتها وكرامتها . الكاتب: جهاد علي التاريخ: 01/01/2007