كلمة طيبة للشيخ طه الدليمي عن الملتقى العربي لدعم المقاومة

 

بقلم طه الدليمي : لا تزول الأمم بانعدام أفرادها، أو اندثار أجيالها من فوق سطح الأرض، وإنما بتبدل ثقافتها من لغة ، ودين ، وتقاليد ، وقيم ، وأهداف. لا نعرف أن جائحة أتت على البابليين - مثلاً - فأهلكتهم جميعاً، بل ما زالوا في العراق يتناسلون. لكن أين البابليون اليوم؟

في القرن الماضي كان أكبر مشروعين ظهرا في الساحة العربية هما المشروع الإسلامي والمشروع القومي.

المشروع الإسلامي يعتمد العقيدة - وعلى رأسها الحاكمية - كأساس لإقامة دولة تطبق الشريعة الإسلامية، وصولاً إلى تحقيق حلم كبير بتكوين دولة عالمية من المحيط إلى المحيط. بينما المشروع القومي يعتمد العروبة كأساس لإقامة دولة قومية علمانية تستلهم الإسلام كروح - لا شريعة - تمتد من المحيط إلى الخليج.


ثمة مشروع آخر واكب المشروعين السابقين، هو المشروعي الإيراني، ظهر أولاً بثوب قومي في زمن الشاه، ثم تظاهر بثوب ديني بعد مجيء الخميني.

إذا نظرنا إلى هذا المشروع من الزاوية العقائدية نجده يصطدم بكلا المشروعين اصطداماً حاداً إلى درجة التناقض التام: فالقومية الفارسية هي النقيض النوعي للقومية العربية، وكانت الأساس في ظهور الحركة الشعوبية. كما أن التشيع الفارسي هو نقيض التسنن الإسلامي، بمعنى أن عقيدة الشيعة - بكل ما تستلزمه من أصول وفروع عبادية وسلوكية – هي النقيض المعاكس لعقيدة أهل السنة بكل لوازمها.
هل في ذلك شك؟

وإذا نظرنا إلى المشروع من الناحية السياسية وجدناه في أهدافه يرمي إلى إعادة الإمبراطورية الفارسية، ولكن على حساب المشروع الإسلامي والقومي. وتوضحت لدينا الصورة بجميع تناقضاتها، ووصلنا إلى نتيجة حاسمة هي أنه لا لقاء بين المشروع العربي بشقيه الديني والقومي، وبين المشروع الإيراني بشقيه الديني والقومي كذلك.

والآن نسأل السؤال الخطير التالي: ماذا يعني خضوع أحد المشروعين للآخر وتبعيته له، وذوبانه فيه؟
حين يذوب النقيض في النقيض فهذا يعني أن النقيض الذائب قد تبدلت هويته إلى الضد، وفقد مبررات وجوده ومشروعيته أشد ما يمكن أن يكون الذوبان والتبدل والفقدان، وأن المسألة باتت مسألة وقت لتتبين بالملموس حقيقة زواله واندثاره.

هذه هي القصة باختصار..
قصة أكبر الجماعات (الإسلامية) بجميع تفرعاتها، ومختلف أسمائها، وتنوع اختصاصاتها: مدنية كانت أم عسكرية. وقصة كثير من التجمعات العربية القومية، ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين! وإليكم أحد شواهد هذه القصة العجيبة:


الملتقى العربي لدعم المقاومة

في يوم الجمعة 15/1/2010 عقد في بيروت مؤتمر تحت اسم (الملتقى العربي لدعم المقاومة) بمشاركة شخصيات وتجمعات من شتى الأقطار العربية وإيران، استمر ثلاثة أيام.
تابعت بعض محاور الجلسات المباشرة، وتسمعت أخبارها وتقاريرها، وقلبت صفحات الشبكة المعلوماتية، واطلعت على البيان الختامي للمؤتمر، فوجدته – رغم تستره بالعروبة - مؤتمراً إيرانياً بامتياز، الغرض منه تمجيد إيران، على أنها الدولة القائدة والراعية للمقاومة في المنطقة، وإبراز "حزب الله" بقيادة حسن نصر الله على أنه الرمز العربي الوحيد لهذه المقاومة. وما الآخرون إلا ذيول وفروع لإيران وذراعها "حزب الله".

كثيرة هي الدلائل الخطيرة التي خرجت بها من متابعتي المؤتمر، أهمها ما يلي:

ضد الأمريكان ؟ أم مع إيران ؟

1.ظاهر الملتقى أنه جمع أهم القوى المقاومة للعدوان الأمريكي. لكن الحقيقة الشاخصة أنه شهد تغييباً يكاد يكون كاملاً للمقاومة الأولى التي تصدت لهذا العدوان وأجبرته على الركوع، وألجأته إلجاءً إلى تغيير تكتيكاته وأهدافه المعلنة، ألا وهي المقاومة العراقية! ولولا كلمة الشيخ حارث الضاري لربما لم نسمع عنها إلا همساً خجلاً وفحيحاً مختنقاً من قبل مؤتمرين باتت هذه المقاومة تشكل عليهم عبئاً ثقيلاً، وشبحاً مزعجاً، ينافسهم على سمعة طالما تبجحوا بها، ونعمة كثيراً ما تقلبوا بين أحضانها. لا عجب من نائب الرئيس الايراني محمد رضا مير تاج الذي حضر المؤتمر، وألقى كلمته نيابة عن الرئيس نجاد حين لم يتكلم إلا عن غزة و "حزب الله" (سمى الأولى باسمها، والثانية حجز لها اسم المقاومة كاملاً في محاولة لتجيير هذا الاسم لها وحدها بلا شريك على طريقة الوقاحة الفارسية الفارغة) فقال: "إن انتصارات المقاومة في تموز 2006 وحرب غزة أثبتت عجز إسرائيل عن الوقوف في وجه إرادة وعزم الشعوب المقاومة الحرة". لكنني أسأل القارئ عن أخينا العربي خالد مشعل: لماذا كرر المعنى نفسه متتبعاً خطى الإيراني الشعوبي محمد رضا ذاك حين قال: "هذا الملتقى ينعقد في ظلّ انتصارين كبيرين في لبنان وغزة، بقرار من لبنان وليس بقرار من خارج لبنان"؟!

أين المقاومة العراقية تاج رأس المقاومين في العالم من بالك يا خالد؟! ألم تسمع بها؟


تابعت القناتين الفضائيتين التابعتين لحماس (الأقصى والقدس) وهما يتناولان أخبار الملتقى المذكور في ذلك اليوم، فلم أجد ذكراً للمقاومة المغيبة قط: لا في الأخبار المسموعة ولا في الشريط المقروء. بل ولا مقطع من كلمة الشيخ الضاري، ولو من باب المجاملة على حضوره المؤتمر! بينما كانت مقاطع من كلمة نصر الله وغيرها من الكلمات لآخرين تعرض في الشريط وفي الأخبار!


لماذا؟
وكان هذا ديدن حماس في جميع مؤتمراتها السابقة، حتى إنه في إحدى هذه المؤتمرات اغتاظ الشيخ حارث لهذا التجاهل فبعث إلى الحمساوي محمد نزال وقال له غاضباً: ألم تسمع بشيء اسمه المقاومة العراقية؟! وفي مؤتمر آخر في تركيا بلغ به الغضب أن طلب الكلام مدة عشر دقائق فقال: إن الذي يقتل الفلسطيني في العراق لا يمكن أن يكون نصيره في فلسطين. وفي مؤتمر آخر منعت حماس توزيع كتاب (مساجد تحت النار) عن العدوان الشيعي على مساجد أهل السنة في العراق على المؤتمرين وأرجعته في صناديقه بحجة أن ابنة الخميني ضمن الحضور!!! ولا أدري ما العلاقة الظاهرة الرابطة لولا أن الفاعل يدرك الحبل السري الرابط بين الأمرين! علماً أن الجهة الموزعة لها علاقة ارتباط بحماس!


أضيف هنا أن المقاومة العراقية لا تفتأ تذكر المقاومة الفلسطينية - خصوصاً حماس - في بياناتها وعملياتها وأناشيدها، وتعمل حملات عسكرية باسمها، ووقفت هي والشعب العراقي رغم جراحه وقفة شرف في مأساة غزة، وقدموا لأهلها ما يستطيعون. لكن الملاحظ بكل وضوح أن هذه المواقف كلها لم تقابل ولو بنشيد من قبل حماس ولا غيرها من القوى الفلسطينية التي تتبنى المقاومة، في تجاهل لا يمكن أن يفهم إلا أنه متعمد للمقاومة والقضية العراقية.

فلماذا؟
ولمصلحة من؟
وبأمر من؟
وأين صلة الرحم؟
وأين الوشيجة العربية والإسلامية؟
مجرد أسئلة.

ملاحظة/ لفت نظري وصف (انتصار) غزة ولبنان على لسان مشعل بأنه "بقرار من لبنان". وما من يشك أنه لا يقصد الحكومة اللبنانية وإنما "حزب الله"؛ فأين القرار الفلسطيني من هذا (الانتصار)؟ أم إنه قرار واحد فقط؟ أو هي (زلة لسان)؟

ما علاقة إيران بمقاومة الأمريكان ؟

2.ما علاقة إيران بالمقاومة والتصدي لأمريكا؟! وهي التي أعلنت بكل صفاقة وقوفها معها في إسقاط دولتين وقفتا ضدها: أفغانستان والعراق؟ ولم تعترف بأكبر مقاومة تصدت لأمريكا، وحسن نصر الله يصف المقاومة العراقية بالإرهاب والتخريب والطائفية، ولم يعترف بها ولو ببيان واحد! وفي 2007 أصدر فصيل الكتائب بيانين تأييداً له ولحزبه، لم يتكرم عليهم ولو بسطر من رد، على الأقل من باب المجاملة! وحين هلك المقبور العميل المعلن بعمالته لأمريكا عبد العزيز الحكيم، والذي حارب المقاومة ووقف ضدها بكل ما يملك من قوة، ينبري نصر الله يمجده ويمتدحه ويصفه بالمجاهد!

هل يجهل المؤتمرون هذه الحقائق أم ماذا؟ وهل يفوتهم أن علاقة إيران وأمريكا هي علاقة تنافس، وليست علاقة عداوة؟
فعن أية مقاومة إيرانية لبنانية ضد أمريكا يتحدثون؟!

الحبل السري بين إيران وقوميي آخر زمان

3.سؤال أوجهه للقوميين المتأخرين من أمثال خالد السفياني ومعن بشور وخير الدين حسيب ووميض عمر نظمي وأمثالهم: ما الذي وحد بينكم أيها (القوميون العرب) وبين الشعوبيين الإيرانيين!ربما يجيب متأخرو (الإسلاميين) - وبئس الجواب! - بأن (الوحدة الإسلامية) تجمعهم بإيران، لكن أنتم بماذا تجيبون؟ ما الذي يجمع بين القومية العربية والشعوبية الفارسية؟!

هل من جواب؟


ضرورة المبادرة إلى مراجعة قواعد الصراع واصطفاف المواقف

4.الكلام عن دلائل هذا اللقاء المسخ كثير، ولكنني أختم بالتنبيه إلى ضرورة المبادرة إلى إعادة النظر في قواعد الصراع واصطفاف المواقف، وتحديث عناوينهما من جديد تبعاً للمتغيرات المستجدة؛ فإن الحاجة ماسة إلى مراجعة تلك القواعد وإعادة تشكيل تلك الاصطفافات بما يحافظ على إشارة البوصلة باتجاه الهدف الأصيل. فهناك مراكز قوى برزت إلى جنب المراكز القديمة، وقضايا حدثت ربما هي أكبر من القضايا السابقة. ثم إن أحلافاً تكونت لم تكن من قبل، ومبادئ طويت وأخرى استحدثت. كل هذا وغيره يستدعي منا مواكبة التغيير حفاظاً على الاستمرار المرن، وإلا سبَقنا الزمن، ولم نعد أكثر من هياكل فارغة في ساحة للخردة.

لا بد من بيان خطر المشروع الإيراني الفارسي إلى جنب المشروع الأمريكي في المنطقة، وأن من يتغافل عن خطر المشروع الأول لا يقل حمقاً عمن يتجاهل خطر المشروع الثاني على حساب الآخر. وإذا كان المتغافل الأول يعلن دون تردد عن عمالة من يتكلم ضد إيران لأمريكا، فإن هذا المتغافل الصفيق لا يخجل من عمالته لإيران وتلقيه المساعدات المالية واللوجستية منها! فكيف تكون العمالة؟ أم إن العميل هو من يتعامل مع أمريكا فقط؟

القضية العراقية والقضية الأحوازية، والخطر الشيعي في الجزيرة والخليج، وبقية القضايا والأزمات الإقليمية قضايا لا نسمح بتجاهلها، مع الاقتصار على القضية الفلسطينية قضية وحيدة دون بقية القضايا الساخنة في المنطقة.

علينا أن نعلن بوضوح ودون لبس أو تردد أن العروبة التي تلتقي بالشعوبية يجب التشكيك في صدق نوايا أصحابها، والإعلان الحاسم بانحرافهم عن مبادئها.

وأن المتحالف مع إيران كالمتحالف مع الأمريكان، بل هو أشد خطراً منه. إن أمريكا تبحث في أرضنا عن التين، لكن إيران تريد التين والطين والدين، الأرض ومن عليها وما عليها!

ولمن يجهل التشريع الإسلامي في الولاء أقول: إن الولاء نوعان: ولاء شعور وولاء موقف. ولاء الشعور أساسه الدين، لكن ولاء الموقف أساسه النصرة وليس الدين المجرد. فحتى يتحول ولاء الشعور إلى ولاء نصرة لا بد أن يكون للمقابل موقف يستحق به منك ذلك الموقف المكلف. وهذا كله منضبط بقيود الشرع التي تجعل من الولاء لعدو أي جماعة أو دولة أو شعب مسلم محرماً ما لم ينته ذلك العدو عن عدوانه عليه، وإلا تجزأت الأمة وتفرق أبناؤها. يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:72).

الفلسطيني اليوم يريد منا موقفاً لا لشيء إلا لدينه، مع أنه لا يرى نفسه مطالباً بموقف تجاهنا مقابل لديننا! ولو توقف الأمر عند هذا لهان الخطب؛ فالأمة كريمة. لكنه يريد منا أن نهمل قضايانا ونشطب عليها لصالح قضيته! ومع أننا نقف معه دوماً، ونمنحه الشعور المعنوي والموقف العملي، لكنه لا يجد نفسه مطالباً بموقف تجاهنا! ثم تجرأ فزاد أن صار يقف مع عدونا، وينكر كل يد سبقت منا، ويطالبنا بأن لا ننكر ولا نحارب هذا العدو الذي يذبحنا ويجتاح أرضنا، فإذا فعلنا شيئاً من ذلك اتهمنا بالعمالة لأمريكا!!!
أرأيتم الظلم؟
أرأيتم الطغيان؟!


تحذير ونصيحة لك أيها الفلسطيني !

أنت حر أيها الفلسطيني في أن تقف مع عدونا إيران، ولكن اعلم أن هذا يرتب عليك ثمنين باهضين أنت غير قادر على تحملها:

1.عليك من الآن أن تنتهي عن مطالبتنا بموقف نصرة لك بدعوى كونك مسلماً فحسب؛ ما دمت قد اخترت الوقوف مع عدونا.

2.أن تعلم أنه بعد حين سيقول لك الآخرون ممن شطبت على قضاياهم ووقفت مع عدوهم: من وقف مع عدونا فلن ينتظر منا إلا أن نحاسبه الحساب نفسه.

وإذا كنت تحرم على غيرك موالاة أمريكا بسبب عداوتها لك، فإننا وبالمنطق نفسه نحرم عليك موالاة إيران للعلة نفسها بالنسبة لنا. وإلا فمن الآن كل واحد منا يتحمل عبء قضيته، ويجتر آلام مصيبته بعيداً عن الآخر، بلا حساب ولا عتاب.


هذا وندعوك أيها الأخ بكل شفقة وشعور أخوي؛ فأنت - مع كل ما فعلت - ما زلت غير هين علينا، ولا فلسطين يمكن أن نقلعها من وجداننا، ولا القدس من عقيدتنا، ندعوك أن تتخلى عن هذه النرجسية اللاواعية التي أنت عليها؛ فليس دم العراقي أو الأحوازي أو الخليجي بأرخص من دم الفلسطيني.كما أنّ عليك - إن لم تكن تعلم من قبل - أن تعلم الآن ألف مرة أنني كعراقي أحب العراق حباً لا يقل عن حبك لفلسطين، بل حبي لبلدي أكثر وأكبر من حبي لأي بلد آخر وإن كان هو فلسطين. وهكذا هو شعور الآخرين تجاه بلدانهم، رضي من رضي، ومن أبى (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ).

بين الموت المعنوي والموت الحسي

أخيراً أقول: إن هذه الأحزاب (الإسلامية) و (القومية) باتت في حكم البائدة معنوياً؛ بسبب فقدانها المبادئ التي تأسست عليها، وتضييعها الأهداف التي أعلنت أنها تسعى إليها. وما بينها وبين الموت الحسي سوى الزمن اللازم لظهور هذا الحكم.
عزاؤنا أن هناك بقية باقية من كلا النوعين ما زالت تأبى الانحدار، وتمانع الاندثار.


الكاتب: أختاره أبو المعالي الكويتي
التاريخ: 02/02/2010