التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2005 |
|
التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2005
الملخص التنفيذي
للتقرير الاستراتيجي الفلسطيني
لسنة 2005
إصدار:
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
بيروت – لبنان
الملخص التنفيذي لـ:
التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2005
الصادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
معلومات النشر :
العنوان: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2005
تحرير: د. محسن محمد صالح، ود. بشير موسى نافع
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات - بيروت
توزيع: الدار العربية للعلوم - بيروت، نيل وفرات دوت كوم.
تاريخ الصدور: حزيران/ يونيو 2006
مقدمة:
يصدر التقرير الاستراتيجي الفلسطيني سنوياً عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات – بيروت؛ وهو مركز دراسات مستقل، يهتم بالدراسات الإستراتيجية والمستقبلية، ويولي تركيزاً خاصاً على الشأن الفلسطيني. وللمركز هيئة استشارية من كبار الباحثين والخبراء أمثال أ.د. أنيس الصايغ، و أ.د. بيان الحوت، وأ.د.عبد الوهاب المسيري، وأ.د. محمد عيسى صالحية، والأستاذ منير شفيق ... وغيرهم .
ويعالج التقرير الاستراتيجي، الذي قام بتحريره د. محسن محمد صالح (أستاذ مشارك في الدراسات الفلسطينية والمدير العام للمركز)، ود. بشير موسى نافع (الأستاذ بجامعة لندن)، القضية الفلسطينية خلال سنة 2005 بالرصد والاستقراء والتحليل. ويدرس الأوضاع الفلسطينية الداخلية، والمؤشرات السكانية والاقتصادية والتعليمية الفلسطينية، ويناقش العلاقات الفلسطينية العربية والإسلامية والدولية، كما يناقش الوضع الاسرائيلي، وعمليات المقاومة، ومسار التسوية. والتقرير موثق علمياً، ومدعّم بعشرات الجداول والإحصائيات والرسوم التوضيحية. وقد جاء تقرير هذا العام في 282 صفحة.
وقد شارك في كتابة التقرير ثمانية متخصصين هم: د. بشير نافع، ود. محسن صالح، ود. أحمد سعيد نوفل، ود. عمرو سعداوي، ود. رائد نعيرات، ود. سلمان أبو ستة، ود. محمد مقداد، ود. إبراهيم أبو جابر، وقد شارك في مراجعة التقرير أ.د. أنيس الصايغ وأ.د. عبد الوهاب المسيري، والأستاذ منير شفيق.
الوضع الداخلي الفلسطيني: التغيير والبحث عن الإجماع
يناقش الفصل الأول الوضع الداخلي الفلسطيني، ويرى أن السمة الرئيسية للوضع الفلسطيني الداخلي، خلال سنة 2005، هي التوجه نحو استكشاف خيارات جديدة للعمل الوطني، والبحث المطّرد عن الوحدة والإجماع. وأنه سينظر إلى سنة 2005 باعتبارها سنة التحديات الكبرى لقيادة حركة فتح سواء على الصعيد التنظيمي الداخلي أو على الصعيد الوطني. وليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها فتح بهذه التحديات، ولكن أياً من هذه التحديات لم يكن بهذا الثقل ولا بهذا الحجم، ولا كانت فتح ذاتها بهذه الدرجة من الانقسام. ويرى أن أزمة فتح تعود في جانب منها إلى تعاطيها مع اتفاق أوسلو، وعدم تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض، والآثار الفادحة التي تركتها مؤسسة سلطة الحكم الذاتي على بنية التنظيم الفلسطيني الحاكم، فضلاً على انعكاسات وفاة ياسر عرفات (رحمه الله) على فتح التي قادها منذ نشأتها.
انتقلت رئاسة منظمة التحرير ورئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية بشكل سلس إلى محمود عباس (أبو مازن). وقد فاز أبو مازن في انتخابات رئاسة السلطة التي جرت في 9 كانون الثاني/ يناير 2006 بنحو 62% من أصوات الناخبين الذين لم يتجاوزوا 65% ممن يحق لهم الاقتراع. وقد أعلن الرئيس الفلسطيني التزامه بمسيرة التسوية السلمية، وفي اجتماع في شرم الشيخ مع شارون في 9 شباط/ فبراير أعلن وقف "أعمال العنف"، سعياً منه لإيجاد أجواء مناسبة للمفاوضات مع "اسرائيل".
مثَّل إعلان القاهرة الذي شاركت فيه التنظيمات الفلسطينية في 17 آذار/ مارس 2005 البرنامج السياسي الفلسطيني لسنة 2005، وحصل فيه أبو مازن على أبرز مطالبه؛ وهو إعلان هدنة تستمر حتى نهاية العام. وقد جرى الاتفاق على إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية في موعدها، واستمرار عملية الإصلاح في أجهزة السلطة، وعلى إعادة تنظيم وتفعيل م.ت.ف وفق أسس يتمّ التراضي عليها. وقد دلّ ذلك على أن القوى الوطنية والإسلامية قررت تسهيل مهمة أبي مازن، وإعطائه فرصة جديدة لإحراز تقدم ملموس على صعيدي الإصلاح الداخلي وتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية.
لم ينجح أبو مازن في الحصول على تهدئة من الطرف الاسرائيلي الذي اغتال 56 فلسطينياً خلال سنة 2005، كما لم يتمكن أبو مازن من الدخول في أي مفاوضات جادة مع الاسرائيليين الذين فضلوا استخدام نغمة "غياب الشريك الفلسطيني"، وفرض الإملاءات على محمود عباس واتهامه بالعجز وعدم القدرة على ضبط الشارع الفلسطيني، وبالتالي أصرّ الاسرائيليون على تطبيق خطط الانسحاب من قطاع غزة من جانب واحد دونما تنسيق مع الطرف الفلسطيني.
السيرُ في عملية إصلاح السلطة الفلسطينية سار أيضاً ببطء، وقد ارتأت الأطراف الأوروبية والأمريكية والاسرائيلية أن أولوية إصلاح السلطة تكمن في نزع أسلحة المقاومة، بينما كان معظم الفلسطينيين ينظرون بقلق إلى الفساد المالي المستشري، وضعف الهيئات القضائية، وهيمنة طرف فلسطيني واحد على معظم المناصب والسلطات.
ولم يحدث أي تقدم يذكر في تفعيل أو إعادة بناء م.ت.ف، وأظهرت قيادة السلطة قدراً قليلاً من الجدية، ولم يقم أبو مازن بدعوة رؤساء والأمناء العامين للفصائل الفلسطينية للاجتماع لمتابعة الأمر حسب اتفاق القاهرة. وحتى نهاية 2005 كانت قيادة السلطة ما تزال تعمل على أساس أن م.ت.ف تمثل عبئاً عليها، أكثر منها أداة قوةٍ بيدها. وتابعت السلطة سياسة سلب الصلاحيات من م.ت.ف فجعلت تبعية السفارات الفلسطينية لوزارة خارجية السلطة الفلسطينية، وليس للدائرة السياسية في م.ت.ف.
كان الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة انتصاراً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، ولم تصدق التوقعات بانفجار حرب أهلية أو بتحول القطاع إلى ساحة صراع دموي بين فتح وحماس. ورغم وجود حالات توتر واحتكاك بين الطرفين، ورغم وجود عملاء يسعون في إذكاء نار الفتنة، إلا أنه كان يجري في العادة تطويق الصدامات بسرعة. وقد توافق الانسحاب الاسرائيلي مع حملة من الضغوط الاسرائيلية والأمريكية والأوروبية ومن بعض قيادات السلطة في الضغط على نزع أسلحة المقاومة. ولكن هذه المحاولات لم تنجح بسبب إصرار الفصائل على الاحتفاظ بأسلحتها.
وفي أجواء التهدئة انشغل الشارع الفلسطيني بالانتخابات البلدية وبالإعداد للانتخابات التشريعية. وكانت أبرز مؤشرات الانتخابات البلدية أن حماس أخذت تتقدم لتتقاسم النفوذ الشعبي مع حركة فتح. ورغم أن فتح حصلت بشكل عام على بلديات أكثر وعدد مقاعد أكبر، إلا أن المؤشرات في المقابل أكدت تفوق حماس في المدن والبلديات الكبيرة، وعلى حصولها على أعداد كبيرة من الأصوات. وقد صَعَّب نزول أعداد كبيرة من المرشحين بصفة مستقلين عملية احتساب مقاعد هؤلاء سواء لجانب فتح أم لحماس.
أثارت النتائج المتقدمة التي حصلت عليها حماس في البلديات مخاوف قيادة السلطة الفلسطينية التي قامت بتأجيل موعد الانتخابات التشريعية من تمّوز/ يوليو 2005 إلى كانون الثاني/ يناير 2006 أملاً في أن تقوم فتح بترتيب صفوفها. لكن النصف الثاني من سنة 2005 أظهر خلافات حادة تمثلت في الانتخابات الداخلية التي رافقتها صراعات ومشاكل مؤسفة، كما تمثلت في تشكُّل قائمتين لفتح، حيث ظهرت قائمة المستقبل (دحلان، البرغوثي) في مواجهة قائمة فتح الرسمية المعلنة. ولم يتمّ تسوية الأمر وتوحيد القائمتين إلا في 27 كانون الأول/ ديسمبر.
المشهد الفلسطيني - الاسرائيلي: بدء الرحلة باتجاه الخطّ الأخضر
من الناحية الإستراتيجية كان أبرز حدثين في سنة 2005 هما: بدء التراجع الاسرائيلي باتجاه الخطّ الأخضر من خلال الانسحاب من قطاع غزة، وإنشاء حزب كاديما بقيادة شارون والذي مثّل انقلاباً في الساحة الحزبية الاسرائيلية.
كانت سنة 2005 اسرائيلياً "سنة شارون" بامتياز، إذ تمكن من فرض أجندته، ومن إعادة تشكيل الخارطة السياسية الاسرائيلية. لكن انشقاقه عن الليكود وإنشاءه حزب كاديما ،لم يكن المرة الأولى التي ينشق فيها قادة كبار عن أحزابهم، وينشئون أحزاباً جديدة فقد سبق إلى ذلك ديفيد بن جوريون وغيره، لكنها المرة الأولى التي يقود فيها حزب منشق أو جديد الحياة السياسية الاسرائيلية.
شهدت السنوات الأخيرة تضاؤلاً في الفروق السياسية بين العمل والليكود، وظهر العمل في السنتين الماضيتين ظلاً شاحباً لليكود الذي تحالف معه في الحكومة (آذار/ مارس 2003- تشرين الثاني/ نوفمبر 2005). وقد حاول العمل من خلال انتخابه لعمير بيرتس تمييز نفسه وتجديد شبابه، لكن إنشاء حزب كاديما وانتقال عدد من قادة حزب العمل (وعلى رأسهم بيريز) إليه، كان ضربة قوية للعمل.
في نهاية سنة 2005 بلغ عدد سكان "اسرائيل" ستة ملايين و988 ألفاً بينهم خمسة ملايين و309 آلاف يهودي، وكان ما يزال نحو 452 ألف مستوطن يهودي يقيمون في الضفة الغربية. وقد هاجر إلى "اسرائيل" سنة 2005 ما مجموعه 22818 يهودي. وحققت اسرائيل نمواً اقتصادياً مقداره 5.2%، مقارنة بـ 4.4% سنة 2004، و1.7% سنة 2003، بينما كان النمو الاقتصادي سالباً في سنتي 2001-2002 بسبب الانتفاضة. وارتفع "الدخل القومي الاسرائيلي" من 116 مليار و879 مليون دولار سنة 2004 إلى 123 مليار و674 مليون دولار سنة 2005. وبلغ دخل الفرد الاسرائيلي نحو 20 ألف دولار، مقابل نحو 1300 للفرد الفلسطيني في الضفة والقطاع. وهذا يعني باختصار أن "اسرائيل" أخذت تتجاوز الأزمة الاقتصادية التي أحدثتها انتفاضة الأقصى.
واصلت "اسرائيل" اعتداءاتها على الفلسطينيين وأرضهم طوال سنة 2005، وبلغ عدد الانتهاكات الاسرائيلية التي أعقبت إعلان وقف إطلاق النار في 8 شباط/ فبراير 2005 وحتى 2 كانون الثاني/ يناير 2005 ما مجموعه 23427 انتهاكاً، منها 2366 عملية إطلاق نار. واستشهد 286 فلسطينياً خلال سنة 2005 منهم 68 طفلاً، وجرح 1700. ونفذت فصائل المقاومة 2990 عملية أدت إلى مقتل 45 اسرائيلياً وجرح 406 آخرين، وكان منها سبع عمليات استشهادية. وبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال في نهاية السنة 9200 أسيراً. وقد تمّ اعتقال 3495 فلسطينياً خلال 2005 ظلّ منهم 1600 خلف القضبان. وهكذا، فلم تكن سنة 2005 سنة تهدئة حقيقية، وإن كانت قد أعلنت عن انتهاء انتفاضة الأقصى، ودخول القضية الفلسطينية في دور جديد.
شهدت السنة تسارعاً في الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية؛ فتمّت مصادرة 38800 دونماً. وقد تمّ ذلك بالتناغم مع بناء الجدار العازل، وهو جدار اتخذ أبعاداً أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية. ومن المخطط أن يبلغ طوله 832 كيلومتراً، نُفِّذ منه 275 كم وهناك 150 كيلومتراً في مراحل متقدمة من الإنشاء. وسيُلحق الجدار أضراراً مباشرة بـ 680 ألف فلسطيني، وستفقد محافظة القدس نحو 90% من أراضيها. ومن الواضح أن "اسرائيل" ستواصل سياسة فرض الحقائق على الأرض في ظلّ أجواء الدعم الأمريكي والضعف العربي.
كان من المفترض أن تصل خطة "خريطة الطريق" إلى نهايتها ويصل الفلسطينيون والاسرائيليون إلى اتفاق نهائي قبل نهاية 2005، ولكن سنة 2005 انتهت قبل أن يبدأ تنفيذ "خريطة الطريق". لم يكن الاسرائيليون في عجلة من أمرهم في ظلّ أجواء تعمل لصالحهم، وفي ظلّ وجود شريك فلسطيني يستعجل الوصول إلى النتائج في الوقت الذي يفتقر فيه على أوراق الضغط، مما يسمح للاسرائيليين بفرض شروطهم وخفض سقف التوقعات الفلسطينية. كان من الواضح أن "اسرائيل" نجحت خلال سنة 2005 من تهميش خريطة الطريق رغم ما تتضمنه من انحياز شديد لها، كما نجحت في جرّ الأجواء المحلية والإقليمية والدولية إلى أجندتها الخاصة المتمثلة في الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة.
لم ينفع لقاءا أبي مازن مع شارون في 8 شباط/ فبراير، و21 حزيران/ يونيو في دفع عملية التسوية، كما لم ينفع لقاءا أبي مازن مع بوش في 26-28 أيار/ مايو، و20 تشرين الأول/ أكتوبر في إقناع الإدارة الأمريكية بالضغط على "اسرائيل". وأصبح من الواضح أن حجة غياب الشريك الفلسطيني تعني اسرائيلياً عدم وجود طرف فلسطيني يقبل الإملاءات والتصورات الاسرائيلية، وليس عدم وجود شريك فلسطيني يعترف بها، ويقبل بقرارات الشرعية الدولية، "وينبذ الإرهاب" (حسبما تُطالَب به حماس هذه الأيام).
سعت "اسرائيل" إلى توظيف انسحابها من قطاع غزة في تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والمادية. وقد تضمن ذلك التخلص من العبء السكاني الهائل للقطاع، وتخفيف الأعباء المالية والأمنية، وإعادة انتشار الجيش الاسرائيلي بما يكفل إنهاء الاحتكاك الفعلي بسكان القطاع، وتخفيض احتمال تعرضه للهجمات، وإفقاد المقاومة في القطاع مبرر عملياتها العسكرية، على الأقل في نظر المجتمع الدولي. كما سعت على الالتفاف على مشروع خريطة الطريق والاستفراد بالضفة وتنفيذ مخططات تهويد القدس. كما سعت إلى تحسين صورتها الخارجية كطرف محبّ للسلام، ويقدم تنازلات "مؤلمة" في سبيله.
وبين منتصف آب/ أغسطس و11 أيلول/ سبتمبر أتمّ الاسرائيليون الانسحاب من قطاع غزة، وتمّ تعويض كل عائلة يهودية مستوطنة ما بين 250-400 ألف دولار. وظلّت "اسرائيل" تتحكم في حدود قطاع غزة مع مصر إلى أن تمّ التوصل على اتفاق مع السلطة الفلسطينية في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر. لكن، من الناحية العملية تحول القطاع إلى سجن كبير إذ ظلّت "اسرائيل" تتحكم في حدوده البحرية وتسيطر على أجوائه، وتشرف على صادراته ووارداته، كما تملك حقّ الاعتراض على دخول الأفراد إليه وخروجهم منه.
عبَّرت التغيرات الحزبية الاسرائيلية، وتبنّي أغلبية اسرائيلية كبيرة لفكرة الفصل أحادي الجانب، والانسحاب من قطاع غزة عن أزمة يعيشها المشروع الصهيوني، وعن فشل استراتيجية الإخضاع التي يمارسها في مواجهة الشعب الفلسطيني، وهي أزمة مرشحة للتصاعد إذا ما استمر الطرف الفلسطيني في الإصرار على حقوقه، مع تفعيل الأدوار العربية والإسلامية والإنسانية. غير أن تصاعد الأزمة الصهيونية سيظلّ بطيئاً ومتعرجاً في المدى القريب، طالما لم يتّحد الفلسطينيون على برنامج وطني، وطالما استمر الضعف العربي والإسلامي، وطالما استمر الدعم الغربي والأمريكي لـ"اسرائيل".
القضية الفلسطينية والعالم العربي
لم تختلف سنة 2005 بالنسبة للموقف العربي من القضية الفلسطينية كثيراً عن السنوات السابقة، وظلّت حالة العجز والتشتت، والانغلاق نحو الخصوصية المحلية هي الحالة الغالبة عربياً. واستمرت الدول العربية في تبني السياسات المعتادة بشأن تحقيق تسوية سلمية مع "اسرائيل" وفق المبادرة السعودية. وتمكن الاسرائيليون من تطوير علاقاتهم السياسية والاقتصادية مع مصر والأردن، كما حققوا بعض الاختراقات التطبيعية. غير أن المواقف الشعبية العربية ما تزال تشكل داعماً قوياً للصمود الفلسطيني، وليس ثمة آمال كبيرة في إحداث تحولات سريعة في المواقف العربية في المستقبل القريب، غير أن حالة الحراك الشعبي، والاندفاع تجاه إقامة أوضاع سياسية أكثر شفافية وديمقراطية، قد يوفّران بارقة أملٍ في دفع الأنظمة العربية لتحمّل مسؤولياتها تجاه فلسطين بشكلٍ أكثر فاعلية.
انعقد المؤتمر العربي الـ 25 في الجزائر في 22-23 آذار/ مارس 2005 في ظروف دعوة الأردن إلى طرح مشروع من أجل تعديل مبادرة السلام العربية (المبادرة السعودية) التي أقرت في بيروت سنة 2002. لكن الزعماء أعلنوا التزامهم بالمبادرة كما هي. وكان قد فُهم من المشروع الأردني أنه سيحذف الإشارة إلى قرار 194 حول حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والذي أشير إليه في المبادرة العربية.
وتلعب مصر الدور الرئيس عربياً في التأثير على القيادة الفلسطينية والتنظيمات الفلسطينية، ومارست على مدار العام دوراً كبيراً في التخفيف من حدّة الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية، واستضافت حوار القاهرة في منتصف آذار/ مارس الذي أدى إلى إعلان الهدنة، كما استضافت قمة عباس – شارون – مبارك – عبد الله (ملك الأردن) في شباط/ فبراير 2005، وأسهمت في المفاوضات لتسهيل الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة، وأعادت سفيرها إلى "اسرائيل" في 17 آذار/ مارس، كما طوّرت علاقاتها الاقتصادية مع "اسرائيل" من خلال اتفاقية "الكويز" (اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة) والتي تنص على دخول المنسوجات المصرية إلى الأسواق الأمريكية دون رسوم شرط ألا يقل المكوّن الاسرائيلي فيها عن 11.7% ،ولذلك احتاجت مصر لأن تستورد لأول مرة 2500 طن من القطن من "اسرائيل". واستوردت مصر من "اسرائيل" خلال سنة 2005 منتجات بقيمة 93.2 مليون دولار مقابل 29.4 مليون دولار للعام الذي سبقه. وصدّرت مصر لـ"اسرائيل" سنة 2005 ما قيمته 49.1 مليون دولار مقابل 29 مليون دولار لسنة 2004.
زار وزير الخارجية الأردني "اسرائيل" والتقى شارون، وفي سنة 2005 أخذ الدفء يعود إلى العلاقات الرسمية الأردنية - الاسرائيلية، فعاد السفير الأردني إلى "اسرائيل" بعد انقطاع دام أربعة سنوات، كما وبلغت الواردات الأردنية من "اسرائيل" سنة 2005 ما مجموعه 116.2 مليون دولار مقابل 132.9 في السنة السابقة، أما الصادرات الأردنية إلى "اسرائيل" فبلغت 60.9 مليون دولار سنة 2005 مقابل 51.4 مليون دولار سنة 2004. وخلال سنة 2005 جرت ترتيبات مبدئية لنقل قوات بدر التابعة لجيش التحرير الفلسطيني (5 آلاف عنصر) من الأردن إلى الضفة الغربية.
ولم يتغير الموقف السوري عن السنوات السابقة، فقد ظلّت سوريا تحتضن فصائل المقاومة الفلسطينية، وتتبنى المبادرة السعودية، وتعارض اتفاق أوسلو؛ ولكن العلاقات السورية مع قيادة م.ت.ف والسلطة شهدت تطورات إيجابية وخصوصاً مع زيارة محمود عباس إلى دمشق في تموز/ يوليو 2005. كما لم تؤثر الضغوط الأمريكية، خصوصاً تلك التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في دفعها لتقديم تنازلات تجاه "اسرائيل".
أما الموقف اللبناني فقد دخل في تعقيدات كبيرة إثر اغتيال المرحوم رفيق الحريري، وحاول البعض توظيف قرار مجلس الأمن الدولي 1559 في ترتيب الوضع الفلسطيني في لبنان، وإخلاء المواقع الفلسطينية المسلحة خصوصاً خارج المخيمات، لكن موقف حزب الله المتبني والداعم لمشروع المقاومة، وإصرار المنظمات الفلسطينية على التمسك بسلاحها في الظروف الراهنة، أدى إلى تأجيل المشروع. وقرر وزير العمل اللبناني تخفيف الضغوط عن الفلسطينيين بالسماح لهم بالعمل في مجالات مختلفة، كما قام رئيس الوزراء اللبناني بإجراء مباحثات مع المنظمات الفلسطينية في تشرين الأول/ أكتوبر 2005 من أجل فتح صفة جديدة بين الطرفين، وهو ما أدى لتشكيل لجنة متابعة للبحث في القضايا التي تهمّ الجانبين.
القضية الفلسطينية والعالم الإسلامي
يعالج التقرير الاستراتيجي موقف منظمة المؤتمر الإسلامي ومواقف ثلاث دول هي تركيا وإيران وباكستان.
ولاحظ التقرير أن حزب العدالة والتنمية الحاكم وجد نفسه في حالة شدّ كبيرة باتجاهين متعاكسين. إذ تميل قاعدته الانتخابية بشكل قوي لدعم القضية الفلسطينية، وإلى معاداة "اسرائيل"، بينما تشعر قيادة الحزب بضرورة استمرار العلاقة مع "اسرائيل" بسبب النفوذ القوي للمؤسسة العسكرية التركية، ورغبة الحزب في علاقات متميزة مع أوروبا وعدم إغضاب أمريكا، ثم إن التكوين العلماني الصارم للدولة، والنفوذ الإعلامي القوي للتيارات الأخرى يعوق تبني سياسات إسلامية أكثر انفتاحاً.
وبناء على الحسابات التركية فقد تعددت زيارات المسؤولين الأتراك لـ"اسرائيل" وللسلطة الفلسطينية، وخصوصاً زيارة وزير الخارجية (عبد الله جول) في كانون الثاني/ يناير 2005، وزيارة رئيس الوزراء (أردوجان) في أيار/ مايو مع وفد كبير، وهو ما فسره البعض بأن ذلك تمّ بناءً على إدراك القيادة التركية أن الرضا الأمريكي يأتي من البوابة الاسرائيلية. وخففت تركيا من لهجتها الناقدة للممارسات الاسرائيلية، وحاولت أن تظهر بمظهر الوسيط. وتُعدُّ تركيا الشريك التجاري الأول في العالم الإسلامي مع "اسرائيل" إذ بلغت إيراداتها من "اسرائيل" 919 مليون دولار سنة 2005 مقارنة بـ 813.5 مليون دولار في السنة السابقة. وبلغت الصادرات التركية إلى "اسرائيل" 1221 مليون دولار سنة 2005 مقارنة بـ 1166.9 مليون دولار سنة 2004.
وشهدت إيران في سنة 2005 تزايد مظاهر الدعم للقضية الفلسطينية خصوصاً بعد فوز المرشح المحافظ أحمدي نجاد برئاسة الجمهورية. وهو ما زاد من قيمة الاعتبارات الأيديولوجية التي قامت على أساسها الثورة الإيرانية.وتعطي إيران اهتماماً كبيراً بفلسطين، وترفض اتفاقيات أوسلو، وتدعم تيارات المقاومة، وخصوصاً الجهاد وحماس. وقد دعا الرئيس نجاد إلى شطب "اسرائيل" من الخريطة السياسية، واعتبارها العدو التاريخي للأمة الإسلامية، كما أشار إلى المبالغة في استخدام اليهود لما حدث في الحرب العالمية الثانية (الهولوكوست)، وطالب بنقل الكيان الاسرائيلي إلى أوروبا. ويدرك الإيرانيون الدور الاسرائيلي القوي في الضغط الأمريكي - الغربي على إيران بشأن ملفها النووي، كما يدركون المخاطر التي يمثلها المشروع الصهيوني على الثورة الإسلامية في إيران.
وقد شهدت سنة 2005 بدء الاتصالات الرسمية العلنية بين باكستان و"اسرائيل". وهي اتصالات تظهر الشواهد أنها كانت تجري في الخفاء قبل ذلك. وقد التقى وزيرا الخارجية باكستان و"اسرائيل" في اسطنبول في 1 أيلول/ سبتمبر 2005. وحاول المسؤولون الباكستانيون تبرير اتصالاتهم بأنهم ليسوا أكثر وطنية من الفلسطينيين أنفسهم، وبأن إقامة علاقة دبلوماسية مع "اسرائيل" ستؤدي إلى كسب رضا أمريكا، وإلى تحييد "اسرائيل" فيما يتعلق بالتنافس الهندي الباكستاني. وهكذا، "اكتشفت" حكومة مشرف أن تحالفها مع الولايات المتحدة في الحرب على "الإرهاب" لم يكن كافياً، وأن عليها أن تتجاوز "المحرمات" الوطنية بالاعتراف بـ"اسرائيل"، قبل أن تأمل بعلاقات مماثلة لعلاقات الولايات المتحدة مع الهند، أو حتى في المرتبة التالية لها.
وهكذا، تجد الدول الإسلامية نفسها أمام حقيقة كبيرة، وهي أنه لا بدّ من وضع اعتبار استراتيجي للعامل الاسرائيلي عند صناعة سياستها الخارجية. وعليها أن تجيب على سؤال ما إذ كانت تصرّ على الالتزام المبدئي بقضية فلسطين والتوافق مع شعوبها في ذلك، أم أنها ستقدم مصالحها التكتيكية المرتبطة باستمرار النظام أو الحزب في الحكم، وبالمكاسب السياسية والاقتصادية العاجلة، ولو كانت ضدّ رغبة التيارات الشعبية العامة في بلدانها.
القضية الفلسطينية والوضع الدولي
لم يختلف المشهد الدولي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في سنة 2005 عن السنوات التي تلت اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000 وأحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. إذ استمرت أجواء الهيمنة الأمريكية، وحملات ما يُسمّى "بمكافحة الإرهاب"، وسياسات العولمة، ومحاولات ترتيب خريطة المنطقة وفق المصالح والمعايير الأمريكية والاسرائيلية. وقد نجح شارون والحكومة الاسرائيلية في جرّ المجتمع الدولي إلى الانشغال بالفصل أحادي الجانب والانسحاب من قطاع غزة، وتعطيل مشروع خريطة الطريق الذي تبنّته اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة). وأبدت الولايات المتحدة دعمها للفصل أحادي الجانب، وأكّدت على يهودية الكيان الاسرائيلي، كما أنّ بُعداً جديداً أخذ يظهر في سياستها وهو تبنّي سيطرة "اسرائيل" على الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، وهو ما يخالف قرارات "الشرعية الدولية".
لقد فقدت الولايات المتحدة دور "الوسيط النـزيه" منذ سنوات طويلة، وليس من المؤمل في الوقت القريب أن تتغير السياسة الأمريكية على نحو جادّ، لتتعامل بشكلٍ أكثر عدلاً مع الحالة الفلسطينية، خصوصاً وأن اليمين الديني والمحافظين الجدد واللوبي الصهيوني ما زالوا يتمتعون بدور عظيم في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية.
إنّ وقوع الولايات المتحدة الأمريكية في المستنقع العراقي، وفشل أو تضعضع حربها على "الإرهاب"، وتشوُّه صورتها الخارجية، شجّع العديد من الأطراف على اتّباع سياسات أكثر استقلالاً أو أقلّ تبعية لأمريكا. وقد أخذ ذلك يظهر في السلوك الروسي الذي يتطلع لاستعادة مكانته في المنطقة. كما أثّرت نتائج الانتخابات البرلمانية في عدد من الدول على سلوكها السياسي، وبدا ذلك في ابتعادٍ نسبي إسباني واقترابٍ ألماني من السياسة الأمريكية. وانعكس التحالف البريطاني الأمريكي سلباً على التصويت لحزب العمال الحاكم في بريطانيا. فضلاً عن تزايد دول أمريكا الجنوبية التي تنأى بنفسها عن السياسات الأمريكية أو تتخذ منها مواقف معادية.
غير أن الخطّ العام للدول الكبرى وتلك التي تحمل ثقلاً سياسياً أو اقتصادياً عالمياً، استمر في ممارسة سياسات براغماتية وفق المصالح الخاصة بكلّ دولة. وقد حاول الأوروبيون لعب دورٍ أكبر في مشروع التسوية، وتعاملوا بشكلٍ أكثر انفتاحاً مع حماس، وقدّموا دعماً اقتصادياً كبيراً للسلطة، وتمّ اختيارهم طرفاً ثالثاً في الإشراف على المعابر الحدودية لقطاع غزة. غير أن الاسرائيليين أصرُّوا على حصر الدور الأوروبي، ونجحوا في "تقزيم" أو إضعاف تأثير مؤتمر لندن بشأن القضية الفلسطينية. ويظهر أن الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية والأمنية، وتزايد التبادل التجاري بين الصين والهند من جهة وبين "اسرائيل" من جهة أخرى، سوف يؤثر في قدرة هذين البلدين الكبيرين على ممارسة دور إيجابي أكبر في دعمهما التقليدي للفلسطينيين.
إن إحداث اختراقات حقيقية في المواقف الدولية، ليس من السهل تحصيلها في المدى القريب، وتحتاج إلى موقف فلسطيني فعّال وموحّد، وإلى تغيير جذري في طريقة تناول العالم العربي والإسلامي لقضية فلسطينالكاتب:
التاريخ: 01/01/2007