الحسبة على الحاكم ووسائلها في الشريعة الإسلامية

 


هذا مختصر لورقة الشيخ حامد العلي االتي بعنوان: الحسبة على الحاكم ووسائلها في الشريعة الإسلامية
نفع الله بها وجزى الشيخ عليها خير الجزاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمــة الرسالة

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وشرع لنا اتباع قدوة الأنام محمد، عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم أتم الصلاة والسلام،
وبعـد :

البحث كان ورقة مقدمة في ندوة عن الحسبة ودورها في وقاية وحماية المجتمع الآمن؛ ضمن فعاليات أسبوع الشريعة الإسلامية الذي تقيمه جمعية الإصلاح الاجتماعي سنويا.

ينقسم البحث إلى ثلاثة جوانب:
الجانب الأول : حسبة الدولة على الرعية.
الجانب الثاني : حسبة الرعية على الدولة.
الجانب الثالث : حسبة الرعية على الرعية.

قد يثير كثراً من الجدال والقيل والقال، بسبب ما يروجه أولئك الذين يزعمون أن الحاكم في الفقه الإسلامي ليس عليه حسبة ولا رقابة من الأمة، فله أن يفعل ما يشاء، ويحكم بالحكم المطلق من كل قيد، فشابهوا دعوة القائلين بنظرية (الحق الإلهي)، وهو اصطلاح سياسي أطلق على تلك النظرية التي سادت في أوروبا في القرون الوسطى، إذ كانت الكنيسة تُعطي هذا الحق، حق الطاعة المطلقة والتصرف المطلق في الرعية لبعض الملوك، وينزلونهم منزلة الأرباب، كما وصف الله تعالى شأن ضلال النصارى في القرآن: (اْتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانْهُمْ أَرْبَاباً مِن دُون اللهِ).

تمـهيـد

في بيان أن تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة من أصل الدين وأساس عقيدة التوحيد:
في أواخر عهد الخلافة العثمانية صدر قانون التجارة عام 1850 م، نقلاً عن القانون الفرنسي، فكانت أول نقطة تَراجع للشريعة الإسلامية في عقر دار الإسلام!
وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشــر الهجري، ثم ما بعده انفرط العقد فتناثرت حباته، ونقضت عروة الحكم في بلاد الإسلام، وهي أول عرى الإسلام تنقض، كما صح في الحديث المرفــوع، ( تنقض عرى الإسلام عروة عروة فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة).
والحكم بما أنزل الله تعالى من مقتضى الشهادتين اللتين هما عنوان هذا الدين، ومن أصل التوحيد الذي يقوم عليه كل دين الإسلام، ولهذا جعل الله تعالى التحاكم إلى غيره عبادة للطاغوت، كما قال الحق سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إلى اْلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ومَاَ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلى اْلطَّاغُوتِ وَقَدْ أْمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ اْلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلال بَعِيداً) وجعل الإشراك به في حكمه من الشرك بالله تعالى، قال تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) وقرئ (ولا تُشْرِك في حُكْمِهِ أحداً)، وجعل الصدود عن حكم الله من أخص صفات المنافقين كما قال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى اْلرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُونَ عَنكَ صُدُوداً)، ونفي الإيمان عمن لا يحكم ما جاء به الرسول في كل شيء كما قال: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكَّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُـمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) وسمى الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كافراً وظالماً وفاسِقاً، قال تعالى: (وَمَن لَمْ يَحْكُـم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وإذا كان الله تعالى قد جعل تغيير حكمه في الأشهر الحرم زيادة في الكفر كما قال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِئُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) وقد كان في إرجاء أهل الجاهلية الشهر الحرام وإبداله بالحل ليقاتلوا عدوهم فيه، إذ كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم تعظيماً لها، فسمّى الله فعلهم هذا في تغيير وإرجاء حكم الله تعالى في الشهر الحرام، زيادة في الكفر، فكيف بمن أرجأ الشريعة كُلها أو جُلها، وأحل محلها قوانين الكفرة الملاحدة أعداء الرسل والدين، فإلى أي مدى تبلغ زيادة كفره إذن .

العودة إلى الشريعة الإسلامية تقوم على أمرين:
ولا بد إذا أردنا عودة صادقة للشريعة الإسلامية أن نقيم هذا المشروع على أمرين:
الأمر الأول: تقريب الفقه الإسلامي، بحيث يحتوي المسائل العصرية ويستوعب أحكامها، بصورة واضحة التفاصيل، حتى لا يكون القانون الوضعي الذي يتميز بالتفصيل والوضوح أدنى إلى المهتمين بهذا المجال من أحكام الشريعة الإسلامية من جهة الفهم والدراسة النظرية والتطبيق العملي.
والسبب في كون أحكام الشريعة لم توضع في مثل صورة القانون الوضعي، أعني من جهة وضوح التفاصيـــل المناسبة للمستجدات العصرية وبلغتها، هو تعطيلها بل محاربتها، فتباطأت عملية تطوير وسائل تيسير تداولها نظرياً وعملياً، ولهذا تجدها في كثير من النواحي، قد بقيت في صنعتها وصيغها ومصطلحاتها الخاصة، وقد تتطلب جهداً لفهمها.
الأمر الثاني : الذي يقوم عليه مشروع إعادة تحكيم الشريعة هو: إيمان الحكام بضرورة الشريعة الإسلامية، وأنها ضرورة عُظمى، وأنها هي رمز الاعتزاز بهوية الأمة وتميزها، وأن تركها ليس معه فلاح لهذه الأمة أبداً، بل ستبقى في التخلف وراء الأمم كما قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاْتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ اْلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

الحسبة بمعناها العام تجسيد لمبدأ رقابة الأمة على الحكام:
الحسبة هي الاسم الشرعي لإشراك الأمة في مبدأ الرقابة والمحاسبة، ومن المعلوم أن هذا المبدأ هو أحد ركائز ما يُسمى في هذا العصر بالنظام الديمقراطي، الذي يقوم في الأصل على مبدأ إشراك الأمة، غير أن هذا النظام باصطلاحه الأصلي يتجاوز بالأمة أيضاً حدوداً لا يجوز تجاوزها عندما يعطيها حق التشريع المطلق ولو خالف حكم الله.
أما الفقه الإسلامي قد سبق ما يسمى بالنظام الديمقراطي في محاسنه، وسَلِمَ من مساوِئِه، فقد احتوى الفقه الإسلامي على إشراك الأمة في القرار وهو نظام الشورى الذي ورد في القرآن، وعلى تكليفها بالرقابة على الدولـــــة، ومتابعة التزامها بـ ( الدستـور ) الذي هو الشريعة الإسلامية، وتقويمها إذا انحرفت عنه، كما احتوى على تحميـل الأمة مهمة النهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع لحمايته من انتشار عوامل ضعفه أو تفككه أو فقدانه هويته بذوبانه في هويـة ثقافات أجنبية أخرى، وقيد كل هذه المهام بأن تكون وفق هداية الله تعالى والتزام شريعته.

منـزلية الحسبة في نظام الحكم الإسلامي:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (جميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك الحرب الكبرى: مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية).
والدليل على أهمية مكانة الحسبة بمعناها العام، قوله تعالى: (اْلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُواْ اْلصَّلاةَ وَءَاتَوُاْ اْلزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةِ اْلأُمُورِ).
ومعلوم أن الصلاة والزكاة من المعروف الذي يأمر به، فقد جعل الله تعالى في هذه الآية الغاية النهائيــة من التمكين في الأرض الذي أمر الله به المؤمنين، وأمر باتخاذ وسائله من الجهاد ونصب الإمام وإقامة الولاية، هو تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا فإن المقصود بالإمامة في الشريعة إقامة الدين، والدين هو فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه، كما قال شيخ الإسلام أيضاً: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيــا إلا بها).
ومعلوم أن الدولة في الإسلام أصل وجودها لتحقيق الحسبة بمعناها العام، وهي أيضاً أعني الحسبة أمانة في عنق الأمة، كما قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنكَرِ).
والدولة إذا عطلت هذا الأمر فقدت أصل مشروعيتها، بل سبب وجودها الشرعي، ولهذا جاء في الحديث: (رأس الأمر الإسـلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، فـ ( الأمر ) هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بآية (اْلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي اْلأرْضِ . . . ) الآية، ووليه هو القائم عليه الذي يرعاه ويقيمه، فإن لم يرعه ولم يقمه لم يصلح ولياً له.
والعجب ممن يجعل كل متولٍ على المسلمين بأي شريعة يحكمهم ولي أمر شرعي! فأي (أمر) تولاه الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى، حتى يستحق هذا الاسم؟ أهو أمر (دين الإسلام) أمر الله ورسوله؟ أم أمر المناهج الوضعية والنظم الطاغوتية؟ ويا للعجب فبأي شريعة يصـح أن يكون متول إقامة الطاغوت حاكماً بين العباد من دون الله تعالى، ولي أمر المسلمين، وأي أمر للمسلمين غير دينهم الذي قال الله تعالى عنه مُمتناً عليهم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اْلإِسْلاَمَ دِينًا).

أنواع الحسبة بمفهومها العام:
يمكن تقسيم الحسبة إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: حسبة الدولة على الرعية:
ومقتضاها أن يكون ضمن مؤسسات الدولة ما يكون اختصاصه حفظ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة، ومراقبة حالة المجتمع ومدى تمثل مبادئ الإسلام فيه.

النوع الثاني: حسبة الرعية على الدولة:
لقد أقامت الشريعة الإسلامية مبدأ الحسبة على الدولة منطلقاً من الأمة، وحملتها مسؤولية تقييد السلطة بقيد هو احترام الدستور (الشريعة الإسلامية) وتقويم الدولة إذا انحرفت عنه.

تقييد السلطة ضرورة اجتماعية وفريضة شرعية:
وتقييد السلطة في الإسلام ضرورة اجتماعية، وذلك انطلاقاً من حقيقتين اثنتين:
الأولـى: أن تولي السلطة واحتكار أدوات القوة والقدرة على استعمال العنف مدعاة إلى الاستبداد فضلاً عن أن باب ارتكاب المحظورات بالتأويل مفتاحه الاستبداد بالرأي لهذا فتقييـد السلطة والحسبة بمعنى الرقابة والمحاسبة الشعبية للسلطة ضرورة اجتماعية.

الثانيـة: أن تضخم أجهزة الدولة في العصر الحديث وتشعبها إلى مختلف أنشطة الحياة وتملكها إلى جانب استعمال أدوات العنف (الشرطة، الأمن، الجيش، أجهزة الاستخبارات . . إلخ )، أدوات تمكنها من تشكيل العقول وصياغتها وخداعها (الإعلام، التعليم . . إلخ) وأدوات التحكم في الإنتاج والاقتصاد ومستوى حياة الأفراد المعيشيــة وقدرتها على زيادة هامش التحكم في المجتمع وزيادة توسيع صلاحياته المركزة وإخضاعه من فوقه بشتى أنواع الإخضاع، كل هذا يقتضي بالضرورة العقلية والواقعية عدم ترك السلطة التي هذا شأنها بلا قيود وبلا محاسبة شعبية لها.
ومن يستقرأ تاريخ الأمم يلحظ بوضوح تلك النقطة البارزة التي كانت وراء الدمار الهائل الذي أصابها في كثير من الأحيان، وهي نقطة استبداد الدولة،
ومعلوم أن الإسلام قد جاء بتحصيل المنافع والمصالح، منافع ومصالح الناس في دينهم ودنياهم بحسب الاستطاعة، وإلغاء وتفويت المضار والمفاسد في الدين والدنيا بحسب الاستطاعة، فلا يمكن أن يكون هناك شأن من الشؤون، الناس معــه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، في حال تفردهم واجتماعهم، وإلا ويأتي في الإسلام الأمر به والحث عليه، ولهذا فقـــد سبق الفقه الإسلامي جميع النظم الوضعية في تقرير هذا المبدأ، مبدأ تقييد السلطة، ورقابة الشعب للدولة، هو حسبة الرعية على الدولة.
وفي هذا الإطار، نجد جميع الآلات والوسائل التي تستخدمها النظم الحديثة لتحقيق هذا الأمر المهم، وضمان عدم انحراف الدولة عن مقصودها الأساسي نجدها منصوص عليها أو مدلول عليها بالأدلة العامة أو القواعد الكلية أو القياس المطرد الصحيح في الشريعة الإسلاميـــة، وقد مارسها علماء الإسلام قبل النظم الوضعية بقرون
.
وسائل تقييد السلطة في الفقه الإسلامي على أساس مبدأ الحسبة:
وسأذكر على سبيل المثال أربع وسائل :
الوسيلة الأولى : وسيلة محاسبة أهل العقد والحل للحاكم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (ولهذا كان أولوا الأمر هم العلماء والأمراء إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، ولما سألت الأحمسية أبا بكر الصديق ما بقاؤنا على هذه الأمر، قال: ما استقامت لكم أئمتكم). وإنما تعني بـ (الأمر) استقامة الحال وصلاح الأحوال واجتماع الشمل وانتشار العدل خلاف ما كانوا عليه في الجاهلية، فبين لها أن ذلك مرهون باستقامة ولاة الأمر.
إن الإخلال بالمبادئ من قبل الحاكم سيؤدي إلى إخلال الرعية بالطاعة وهذه قاعدة لا تتخلف قدراً أيضاً،
وكما قال ذلك الصحابي الجليل لعمر رضي الله عنه لما تعجب من تبليغ المسلمين الأموال العظيمة القدر من الغنائم غير منقوصة بريئة من الخيانة، فقال له تقريراً للقاعدة السالفة: (عففت يا أمير المؤمنين فعفت الرعية).
ومن الخطأ الشائع الظن أن فساد السلطة نتيجة لفساد الرعية، والعكس أولى بالصواب، غير أن الرعية تعاقب على سكوتها عن ظلم السلطان، ورضاها به، باستدامة ذلك الظلم عليهم جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً.
ذلك أن السكوت على ظلم الظالم من أعظم أسباب عقوبة الله تعالى، وقد ورد فيه حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).
ولهذا ورد في السنة كما في صحيح مسلم أن من الخِلال الحسنة في الروم كونهم أمنع الناس لظلم الملوك، ولما كانت هذه الخُلة الجميلة فيهم، لا يكاد يسلط عليهم ظالم من أنفسهم يستبيحهم كما يحدث عند غيرهم.
وإذا كان المأمومون يختاروا لإمامتهم أقومهم بأمر الصلاة كما صح في الأحاديث، فكذلك الأمة تختار للإمامة العظمى أقومها بها بصيرة في الدين وقوة في سياسة الدنيا به، كما قال تعالى: (أُوْلِى الأَيْدِي وَالأَبْصَار).
ثم الإمام مقيد بأداء الصلاة كما في الشرع، ليس له أن يتجاوز ذلك، وكذلك الإمام في النظام السياسي مقيد بممارسة مهامه وفق الشريعة ليس له أن يتجاوز ذلك، فإذا بدر من الإمام خطأ في الصلاة نُبِّه على ذلك – علناً لا سراً – ممن يليه وهو مقصود اختيارهم لهذا الموضع، وذلك لأن الخطأ هنا يتعدى لغيره وليس قاصراً على نفسه حتى يسر إليه بالنصيحة، وكذلك في النظام السياسي، يوضع أهل الحل والعقد وراء الإمام لينبهوه إذا أخطأ، فإن فعل ما يقتضي بطلان الصلاة عامداً فارقه المصلون إذ قد بطلت صلاته، وكذلك في النظام السياسي إن أبطل الشريعة (دستور الدولة الإسلامية). فهذا بإزاء هذا، وذاك بإزاء ذلك، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، فتدير عظمة هذا الدين والله الموفق.

الوسيلة الثانية : حرية الكلمة والتعبير عن الرأي:
ومن صورها العصرية حرية الصحافة، وكالحصانة التي يعطيها المجلس النيابي لأشخاص ينتخبهم الشعب، ولهم الحق في النقد العلني والمحاسبة والانتقاد لكبح جماح السلطة.
وأصل ذلك في الفقه الإسلامي ضمان بذل النصيحة وبقاؤها حقاً عاماً للرعية لا يجوز مصادرته من قبل السلطة ما دام في دائرة الكلمة الحرة، كما صح في الحديث عن تميم الداري رضي الله عنه مرفوعاً: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
ولهذا وجدنا في الأحاديث أعلى درجات الحض على العمل بهذا المبدأ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أفضل المسلمين عملاً من ينتقد السلطة إذا جارت كما روى النسائي عن طارق بن شهاب البجلي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز .. أي الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر)، وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
وليس في هذا ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد، بل هو إلى الحض على إعلانها أقرب، لأن ما جعلت أفضل الجهاد إلا من أجل أن في الإعلان التعرض لبطش الظالم وفي ذلك أعظم البذل للجهد وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها.
وقال الإمام عبدالرحمن بن أبي بكر الحنبلي في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإقامة حق الله سبحانه على بقائهم واختيارهم لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجهم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم).
ومعلوم أن قيام العلماء بواجب الإنكار العلني على السلطة مع أمن وقوع مفسدة أكبر مستفيض استفاضة تغني عن التفتيش عن إسناد كل خبر على حدة، والنماذج من تاريخنا كثيرة جداً.

الوسيلة الثالثة : الاستفادة من أثر الرأي العام للرقابة على السلطة:
ومن الأمثلة في التاريخ ما رواه ابن الجوزي بإسناده أن المأمون قال: (لولا يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يُتقى؟ قال ويحك، إني أخاف أن يرد علي، فيختلف الناس وتكون فتنة).
وفي الجملة فالأمثلة كثيرة، وعلماء الإسلام لم يغفلوا عن أي وسيلة تمكنهم من منع السلطة من التعسف في استعمال أدواتها للالتفاف على الشريعة الإسلامية التي تمثل ثوابت الأمة التي لا تقبل الالتفاف عليها بوجه من الوجوه، لأن كيان الأمة أصلاً مبني على إقامة الشريعة الإسلامية وبدونها تضيع هويتها وتسلب مكانتها وتتهاوى هيبتها.

الوسيلة الرابعة: وسيلة استعمال جماعات الضغط في المجتمع:
والمقصود بهذه الوسيلة أن تستغل جماعات الضغط (وهي التكتلات التي تخشى السلطة من ردة فعلها إذا تعدت السلطة صلاحياتها أو قصرت في واجبها، ويكون لهذه التكتلات التي توجد في كل مجتمع قدرة على التأثير في السلطة، وربما كانت هـذه التكتلات أحزاباً فكرية أو جبهة من العلماء الذين لهم ما يسمى هذه الأيام (سلطة روحية) على الشعب وقد تكون منافسة لسلطة الدولة، وربما كانت أقوى من سلطة الدولة في بعض الأحيان، أو طوائف مهنية أو مذهبية .. الخ) تستغل جماعات الضغط موقعها للرقابة وتقييد السلطة.


وأما المسلك الثاني: فالتاريخ الإسلامي حافل منذ العصور الأولى بشواهد القيام الجماعي لإنكار المنكر، والعجب كــل العجب ممن ينكر هذا مع استفاضته، ويَدَّعِى أن السلف لم يفعلوا شيئاً منه، ومن ذلك:
أن الإمام أحمد رحمه الله كان يفتي بأن يجتمع الناس لإنكار المنكر للتهويل والتشهير بالمنكر وأهله، فقــد روى الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن أبي حرب قال : سألت أبا عبدالله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره, قلت: فإن لم يقبل؟ قال: تجمع عليه الجيران وتهول عليه.
وروي عن جعفر بن محمد النسائي قال : سمعت أبا عبدالله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون؟ قال: إذا ظهر له، هــم داخل، قلت: لكن يسمع الصوت يسمع في الطريق، قال: هذا ظهر عليه أن ينهاهم، ورأى أن ينكر الطبل يعني إذا سمع حسه، قيل: مررنا بقوم وقد أشرفوا من علية لهم، وهم يغنون فجئنا إلى صاحب الخبر فأخبرناه، فقال: (لم تكلموا في الموضع الذي سمعتم؟ فقيل: لا، قال: كان يعجبني أن تكلموا، لعل الناس كانوا يجتمعون وكانوا يشهرون).
وأما ما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية فكثير جداً، فمن ذلك:
ما ذكره خادم الشيخ إبراهيم الغياني قال: (فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل ( الباب الصغير ) الذي عند ( درب النافدانيين ) فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبدالله بن تيمية قال: فخرجنا لكسره, فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق، فاجتمع معنا خلق كثير).
وشواهد التاريخ لا تحصى كثرة، والعاقل يعلم أن مثل هذه الوسائل السلمية للاحتجاج الجماعي إنما تتولد مــن النظام الاجتماعي نفسه، ومن كون الإنسان اجتماعياً بطبعه، يجتمع مع بني جنسه فيما يتفقون عليه فهو أمر لا يخلو منه عصر، ولا يحتاج إلى فكر، وإنما تدفع إليه الحاجة، والناس إذا توافقوا تعاونوا، فالعجب ممن يظن أن هذه الوسائل حادثة، ومن طرائف الأخبار أن شاباً ممن اعتاد على إلغاء عقله بتقليد حزبه، ذكر له أن جماعة من الدعاة أقاموا تجمهراً حشد له الناس في خيمة كبيرة بهدف إظهار النكير لإضعاف المنكر، وسئل هل يجيز هذا الأمر حزبه الذي يحرم التجمهر لأنه في زعمهم تشبه بالكفار ولم يفعله السلف، قال هذا يجوز لأنه تحت الخيمة فقيل له أرأيت لو أزلنا الخيمة وكان ذلك كله في العراء، قال لا يجوز حينئذ لأنه مظاهرة، وعش تر ما لم تر!!!

الطريقة الثالثة التي سلكها المانعون لوسائل الاحتجاج السلمي هي:
وهي قاعدة سد الذرائع، وقالوا إن هذه الوسائل غالباً ما تفضي إلى مفاسد أرجح من المصالح التي تبتغي بها، وقد علم من دلائل الشريعة الكثيرة حظر ما يفضي إلى المفسدة، ويكتفى في اعتبار ذلك بغالب الأحوال إذ هي مثار غالب الظن الذي تنبني عليه الأحكام.
وهذا الطريق أسلم حجة استدل بها على المنع، غير أن المعلوم أن الذرائع تقدر بقدرها لا أكثر من قدرهـا، ويجب عند العمل بهذه القاعدة، أن يتوفر أمران:
الأول: العلم بأن الوسيلة هي حقاً ذريعة إلى مفسدة تربو على المصلحة، لا أن يكون ذلك بناء على الوهم أو ضرب من الوسوسة أو بدافع الخوف النفساني المجرد أو بناء على أحوال يختلف فيها القياس والتمثيل.
الثاني : أن لا يتجاوز بالذريعة قدرها فيؤدي إلى تحريم المباح أو تفويت مصالح شرعية محققة.
وعليه، وبناء على ما سبق، فإن حكم ما يسمى وسائل الاحتجاج الجماعي من مظاهرات واعتصامـــات وإضرابات ومهرجانات خطابية ومسيرات .....الخ، أنها تنقسم إلى ثلاثــة أقسام:
القسم الأول: محرمة، وذلك فيما لو كانت بقصد العنف المحرم، أو كانت سلمية لكن يخشى إفضاؤها إلى عنف لعدم القدرة على السيطرة عليها، أو كانت سلمية أيضاً لكنها متضمنة لما يمنع شرعاً كاختلاط محرم بين الرجال والنساء، أو أدت إلى وقوع منكر أكبر، أو ضرر يصيب المسلمين أو شعائر دينهم كما يفعل الملحدون الروافض في الحرم، أو ضرر يلحق بالدعوة الإسلامية يربو علــى ما يتحقق بهذه الوسيلة من مصالح، وغالباً ما تكون كذلك في الأنظمة التي لا تنص قوانينها على حق المواطنين في التعبير عن الاحتجاج بهذه الوسائل العصرية، وهي في بلادنا الشرقية والعربية خاصة أكثر من غيرها.
القسم الثاني: مباحة، وهي فيما إذا كانت السلطة تسمح بهذه الوسائل وتنظيمها للاتحادات والنقابات ونحوها فتستعمل للوصول إلى غرض مباح، مثل زيادة الأجور أو تخفيف ساعات العمل أو الحصول على الحقوق المادية ونحو ذلك، أو تأمــر بها الدولة لاستحثاث وسائل الإعلام لحماية مصالح مواطنيها في دولة أخرى أو إثارة قضية تخصها مثل الأسرى ونحو ذلك، فهذه كلها مباحة ما لم تؤد إلى الوقوع في محظور كما في القسم الأول فتمنع.
القسم الثاني: مستحبة – أو واجبة بحسب الحال وما يراد تحقيقه بها - وذلك فيما إذا كان مقصدها مستحباً أو واجباً، ومن أمثلة هذا النوع أن تكون في أرض العدو للضغط عليه للوصول إلى مصلحة شرعية للمسلمين، كما كان فيما سمي (مظاهرات الحجارة) التي قصد بها الشعب الفلسطيني إثارة الرأي العالمي ضد جرائم اليهود بالمسلمين، بغية تحريك القضيــة وفضح مكائد اليهود، ولم يبلغنا أن أحداً من علماء المسلمين حرم تلك المظاهرات، أو تكون للضغط على المحتل الكافر لإخراجه من البلاد كما كان يفعل المسلمون إبّان الاستعمار الذي عم البلاد الإسلامية، أو كانت وسيلة للخروج على حاكم يجب الخروج عليه مع القدرة لظهور الكفر البواح، وهذه فيما يخص مظاهرات العنف، ويجب أن يراعى فيها أن لا تتعدى إلى الاعتداء على المسلمين أو تؤدي إلى ضرر عليهم راجح على مصالحها.
وأما السلمية فتدخل في هذا القسم إذا كانت في أنظمة تسمح بها وتجعلها حقاً للأفراد عبر منظمات لهم تسمى نقابات أو اتحادات، فيسمح لهم القانون أن ينظموا إضراباً أو اعتصاماً أو مسيرة سلمية للحصول على مطالبهم فإذا كانت تلك المطالــب شرعية دعوية، كان لهذه الوسيلة حكم مقصدها، وهذا – أعني السماح بهذه الوسائل – قد يكون عرفاً سائداً لا قانوناً منصوصاً عليه، فهذه كلها إذا خلت من محاذير أخرى فهي مستحبة – أو واجبة إذا لم يتم الواجب إلا بها وبحسب مقصدها –، ولا مانع شرعاً البتة أن تستعمل لتحقيق بعض أهداف الدعوة أو إنكار المنكر، وكل ذلك ما لم تُفْضِ إلى الوقوع في منكر أكبر.
هذا، وتحقيق هذه الفتوى على الواقع، يجتهد فيه أهل كل بلد ممن له أهلية ذلك لأنهم أعرف بأحوالهـم، ولا عجب أن يفتي بتحريم هذه الوسائل مطلقاً من ينكر وجود سلطة في العالم تسمح لموطنيها بالاحتجاج العلني عليها، ويقول حتى لو وجدت فلا تلبث أن تبطش بهم، غير أنه لم يعد خافياً أن وجود مثل هذه القوانين التي تعطي الشعب حق الاعتراض والنقد العلني كحرية الصحافة وتنظيم وسائل الاحتجاج الجماعية ونحوها، إنما يتحقق في الأنظمة التي تقوم علي فصل السلطات، وفيها تكون السلطـة التنفيذية ما هي إلا سلطة واحدة من الدولة والشعب يشارك فيها بقوة القانون أيضاً، وتشاركهم في اتخــاذ القرارات – بل هي المخولة أصلاً ـ ولها حق مراقبة الحكومة وتفرض عليها الخضوع للقوانين التي منها حقوق الرعيـــة بالتعبير عن رأيهم، فحتى لو كرهت السلطة التنفيذية الإنكار عليها فإنها لا تستطيع أن تمنع ذلك وتتجاوز صلاحياتهـا، حتى ربما استطاع الشعب عبر ممثليه أن يغير السلطة التنفيذية، ويأتي بغيرها، وكل ذلك يكثـــر وجوده في حكومات العالم الغربي حيث يعيش المسلمون هناك وربما احتاجوا إلى تلك الوسائل لحماية أنفسهم ودينهم، وتوجد في بعض البلاد الإسلامية كذلك، هذا والواجب أن يتعرف المفتي على هذا الواقع حتى يعلم تحقق قاعدة سد الذرائع في البلاد التي أفتى لأهلها بالمنع المطلق أم لا.
هذا، وإنه لمن المقرر في أحكام الفتوى وآدابها أن لا يقصر المفتي نظره على البلاد التي يعيش فيها فحسـب، ويرى العالم كله من خلالها، ويبني الفتوى على ما يراه حوله فقط، فإن هذا من شأنه أن يجعل الفتوى تأتي بضد مقصودها، وقد حكيت لبعض أفاضل أهل العلم ما تسمح به البيئة الكويتية – على سبيل المثال – من وسائل لإنكار المنكرات علنية تطال أعلى السلطات وتعد في الكويت كالأعراف المعتادة لكل الناس، ما صار بهم إلى الدهشة وكأنهم لم يسمعوا بذلك قط، وقد نبهت إلى وجوب اطلاعهم على أحوال العالم الإسلامي، قبل تصدير الفتوى لما في ذلك من الأهمية العظمى.
وقلت لهم إننا نعلم أن نظام الحكم الإسلامي قد كفل من وسائل تحقيق العدل ومنع الظلم وكفاية الرعية وحفظ الحقوق، وإلزام السلطة بواجباتها عبر قنوات شرعية، ما يجعله نظاماً مميزاً، وأنه لا يجوز استبداله بالأنظمة الغربية، غـير أن هذا الأصـل لا يعني أن لا ينظر المفتي إلى واقع الحال وحاجة الناس إلى تخفيف الشر وتحصيل الخير ما أمكن في غياب الإمامة الإسلامية العادلة، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والزمان والمكان.
كما ننبه هنا أنه لا يجوز أن نغفل سد ذرائع المنكر، عندما ننظر إلى سد ذرائع الأضرار التي تترتب على إنكار المنكر، فقد يكون المنكر منكراً إلى درجة يهون معها وقوع الأذى الجزئي في إعلان النكير على فاعليه حتى لو كانت السلطة، فلا شيء يبيـد النعم كظلم السلطة، وقد ورد في الحديث (أخوف ما أخاف عليكم حيف الأئمة) وفيه (أخاف على أمتي الأئمة المضلين) ولهـذا صار أعظم الجهاد الإنكار على جور السلطان، لأن في استمراره على جوره وقوع الفساد العام، وإنما تحـل العقوبة الإلهية عند السكوت عنه كما صح في الحديث، كما أن في ترك إظهار الإنكار بالكلية خشية حصول مفاسد جزئية، اختلاط الحـق بالباطل، وانقلاب المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وخفاء الدين على الناس، واندراس معالمه، ولعمــري، إن هذه المفاسد لا تضاهيها مفسدة، فينبغي أن ينظر في سد هذه الذريعة أيضاً عند الترجيح، وقد وجدنا بعض المفتين لا يعير لهذا الجانب، اهتماماً وإنما يتوجه نظره فحسب إلى منع الدعاة من إعلان النكير على شيء خوفاً عليهم، حتى عمت المنكرات وطمت، وصار ما كان يحذر منه، قد وقع في أعظم منه، فهذا باب مهم جداً.

النوع الثالث من الحسبة: حسبة الرعية على الرعية:
هذا وقد كانت مسألة (حكم المظاهرات) استطراداً جرنا إليه الحديث عن الوسيلة الرابعة من وسائل حسبة الرعية على السلطة، وقد مضى فيما سبق من هذا البحث الحديث عن حسبة السلطة على الرعية، ثم حسبة الرعية على السلطة.
وأما النوع الثالث من أنواع الحسبة، فهي حسبة الرعية على الرعية والمقصود بها نهوض الأمة بهذا الواجب، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اعتنى العلماء بأحكام هذا الفرض العظيم حتى عده بعضهم سادس أركـان الإسلام، وذكروا في آدابه وأحكامه جملاً كثيرة مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة، ولا ريب أن تكليف الأمة كلهــا لتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على اختصاصها بأنها أمة حيّة متحركة تسعى لتغير الواقع حولها ليخضع لتعاليم الإسلام.
وأول من يكلف بهذا الفرض أولو الأمر وهم العلماء والأمراء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمــه الله (ولذلك كان أولو العلم هم الأمراء والعلماء إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس)، وهذا النوع من الحسبة لا يسقطه شيء فلا يسقط بعدم وجود الدولة الحاكمــة بالشريعة ولا بعدم قيامها بالحسبة، أو قيامها به على وجه لا يوافق الشرع، بل هو حق عام مكفول لأفراد الأمة جميعاً كـل بحسب استطاعته.
قال الإمام النووي رحمه الله: (ومما يتعلق بهذا الأمر أن الرجل والمرأة والعبد والفاسق والصبي المميز يشتركــون في جواز الإقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ، ولكن إنما تجب إزالته على المكلف القـادر، قال الغزالي في الإحياء: وليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات، كما ليس له منــع البالغ، فإن الصبي وإن يكن مكلفاً، فهو من أهل القرب وليس هذا من الولايات، ولهذا يجوز للعبد والمرأة وآحاد الرعيـــة).
قال الإمام ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين: (واشترط قوم كون المنكر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي, ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة، وهذا فاسد، لأن الآيات والأخبار عامة تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنــه عصى، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم).
ومن المهم أن ننبه هنا أن باب الحسبة في الفقه الإسلامي، بني على قاعدة تحصيل المصالح بحسب الإمكان ودفـع المفاسد بحسب الإمكان وتقديم أرجح الأمرين عند التعارض، وتفويت المصلحة الأدنى لفعل الأعلى عند التزاحــم، وارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى عند التزاحم .
كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات والمستحبات فلا بد أن تكون المصلحة فيه راجحة على المفسدة إذ بهذا بعث الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به).
هذا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من أراد المزيد عن المظاهرات والاعتصامات وما حولها فليرجع لأصل البحث فقد استطرد فيه الشيخ كثيرا ثم ختم ذلك بقوله متسائلا:
ولهذا لا يسلــــم من يحرم الوسائل العصرية للاحتجاج الجماعي بحجة أنها محدثة من تناقض أيضاً، فتجده يجيز ما لا يحصى من وسائل الدعوة وتحصيل العلم والجهاد وغيرها مما لم يكن في العصر الأول فإذا جاء إلى هذه الوسيلة حرمها لأنها لم تكن في العصر الأول فيا للعجب!

ـــــــــــــــــــــــــــ
لتحميل الرسالة كاملة:
http://www.h-alali.net/b_open.php?id...1-0010dc91cf69






الكاتب: أم عزام
التاريخ: 11/04/2011