وجعلته بينكم محرما |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
" وجعلته بينكم محرّما "
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد ,,
من سنن الله تعالى في هذه الأرض الصراع بين الحق والباطل والمتمثلة بين التوحيد والشرك , واقتضت حكمة الله أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الأرض ومن عليها .
وكان من أسباب إرسال الرسل للبشرية هو إخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام , ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة , ومن الظلمات إلى النور , ومن الضلال إلى الهدى ..
ومن السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد سنّة الله في الظلم والظالمين , فالظلم كما جاء في الحديث عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الظلم ثلاثة ، فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره ، وظلم لا يتركه ، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، قال الله : ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدبر لبعضهم من بعض " حسّنه الألباني في صحيح الجامع وانظر السلسلة الصحيحة رقم ( 1927 )
والمتأمل في حال البشرية على مرّ العصور وتصرّم الدهور وما عجّت به من الظلم بشتّى صوره ومقاييسه ومجالاته ليدرك أن زماننا هذا وما نعيشه اليوم ليُعد من أشد الأزمنة التي مرّت على البشرية ظلماً وعدواناً .
فجـانب الظلم لا تسلك مسالكه عواقب الظلم تُخشى وهي تَنتظر
وكل نفس ستـجزى بالذي عملت وليس للخـلق من دنيـاهم وطر
وقال الشاعر :
لا تظلمـنّ إذا ما كنت مقتدراً فالظلـم آخـره يفضي إلى النـدم
تنـام عينـاك والمظلوم منتبـه يدعـو عليـك وعين الله لم تنـم
فإذا كان العمران يحتاج إلى زمن طويل وعمل دؤوب لكي يؤتي ثماره فإن للخراب سبب واحد وإن تشعبت أشكاله وتعددت طرقه , إنه الظلم , والظلم عكس العدل لا يحتاج إلى زمن طويل لكي يؤدي رسالته التي هي الخراب , لأن الخراب يكون بدافع الهدم والهدم سهل سريع .
وسأسرد بعض الآيات والأحاديث والشواهد الدالّة على شناعة الظلم وبؤسه وشقائه وعنائه على أهله في الدنيا ووبالاً عليه في الآخرة :
أولاً : الآيات الواردة في ذم الظلم وأهله وأمر الله بالعدل والقسط كثيرة جداً ومتنوعة فمنها :
قوله تعالى ﴿ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ (آل عمران 182) وقوله تعالى ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾ (غافر 31)
وهنا يقول الشوكاني – رحمه الله - : " ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب " ويقول " وأيضاً مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء " ( فتح القدير : 1/657 و 4/644 )
قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ﴾ ( النساء 58 )
وفي هذه الآية يقول ابن عثيمين – رحمه الله - : " ولا حكم أعدل من حكم الله , وعلى هذا فالحكم بالعدل أن تحكم بينهم بشريعة الله , هذا هو الحكم العدل , لأننا نعلم أنه لا أحد أحسن من الله حكماً ولا أحد أعدل من الله فصلاً " ( سورة النساء لابن عثيمين: 1/440 )
قوله تعالى ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ ( الأنعام 21 )
يقول صاحب الظلال : " والله - سبحانه - يقرر الحقيقة الكلية ؛ ويصف الحصيلة النهائية للشرك والمشركين - أو للظلم والظالمين - فلا عبرة بما تراه العيون القصيرة النظر ، في الأمد القريب ، فلاحاً ونجاحاً . . فهذا هو الاستدراج المؤدي إلى الخسار والبوار . . ومن أصدق من الله حديثاً ؟ " ( في ظلال القرآن لسيد قطب : 2/1063 )
ثانياً : الأحاديث الواردة في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين , وأقتصر على بعضٍ منها :
عن أبي ذر – رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال " يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .. " جزء من حديث رواه مسلم .
كان أبو إدريس الخولاني إذا حدّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه , ويقول ابن تيمية – رحمه الله – في هذا الحديث : " ولهذا كان العدل أمراً واجباً في كل شيء ، وعلى كل أحد , والظلم محرماً في كل شيء , ولكل أحد , فلا يحل ظلم أحد أصلاً سواء كان مسلماً أو كافراً أو كان ظالماً , قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ المائدة 8 " ( مجموع الفتاوى : 18/166 )
عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة .. " جزء من حديث رواه مسلم .
عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته . قال : ثم قرأ : ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ " متفق عليه
ثالثاً : أورد لك أخي الكريم بعض النماذج لسلفنا الصالح – رحمهم الله – ومواقفهم من الظلم وخوفهم الشديد من سوء عاقبته في الدنيا والآخرة :
• قال الليث بن سعد وغيره : كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إليّ بالعلم كله . فكتب إليه : إن العلم كثير ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس ، خميص البطن من أموالهم ، كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازماً لأمر جماعتهم ، فافعل . ( سير أعلام النبلاء للذهبي : 3/222 )
• قال ميمون بن مهران – رحمه الله - : الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء . ( مساوئ الأخلاق للخرائطي : ص 279 )
• قال عمر بن ذر : حدثني عطاء بن أبي رباح ، قال : حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه ، فإذا هو في مصلاه يده على خده ، سائلة دموعه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! ألشيء حدث ؟ قال يا فاطمة ! إني تقلدت أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، والمظلوم المقهور ، والغريب المأسور ، والكبير ، وذي العيال في أقطار الأرض ، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم ، وأن خصمهم دونهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته ، فرحمت نفسي فبكيت . ( السير للذهبي : 5/131 )
• قال الشافعي – رحمه الله - : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد . ( السير للذهبي : 10/41 )
والقصص الواقعية , والعبر التاريخية طافحة بمثل هذا , ولذلك يقول ابن الأثير – رحمه الله – في الكامل : وليعلم الظلمة أن أخبارهم تُنقل , وتبقى على وجه الدهر , فربما تركوا الظلم لهذا , إن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى .
ويقول ابن تيمية – رحمه الله - : وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم ، ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة , ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ، ولا تدوم مع الظلم والإسلام . ( الفتاوى : 28/146 )
وقد ابتليت الأمة في هذا الزمان بأناس – والله المستعان – غيروا الشريعة وطمسوا معالمها وحرّفوا معاني النصوص الظاهرة إلى غير ما أراد الله سبحانه , فنجد الساحة الإسلامية والعربية قد امتلأت بالقصص المفجعة والوقائع الفظيعة والأخبار الأليمة عن الظلمة والظالمين .
ويُرسّخ هذا الظلم جملة من المنتفعين الانتهازيين الظالمين المقربين من دواليب السلطة , وتسهم هذه الطغمة الفاسدة على صعيد الدولة في أن يستأسد القوي على الضعيف ويبغي الوجهاء والكبراء على عامّة الناس , وتستمرئ الأمة – بمرور الوقت – الذلّة والمهانة بسبب تسلط حكّامها عليها وإذلالهم لها .
علاوةً على أنّ من أمثال هذا الضرب يوقد الفتن والثورات بين أفراد المجتمع فيُضعف عزائم الأمة ويوهنها إلى حد بعيد . ( بتصرف , السنن الاجتماعية لمحمد أمحزون : 1/497 )
والله تعالى يقول ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ ( الأنعام 12 ) ويا ليت قومي يعلمون ويفقهون ويتدبرون .
فعلى الجماعة المسلمة أن تبين للناس أن أمور الحياة تجري وفق سنن الله العامّة , فهم ليسوا بأحسن حالاً من رسول الله وصاحبته الكرام , وعليهم أن يعلموا أنهم إذا أرادوا إزاحة الطواغيت والحكّام الظلمة فلن يكون بالتأفف أو التضجر – لأن الله سيأخذ الظالم وإن كان في بروج مشيدة – بل إذا أرادوا الخلاص من الحاكم الظالم أو الكافر فعليهم سلوك منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله على بصيرة تظلّها الحكمة , وكما طبّق ذلك خاتم الرسل محمد – صلى الله عليه وسلم - ﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ ( يوسف 108 ) , وكما قال إمام دار الهجرة الإمام مالك – رحمه الله – " ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " , كل ذلك إذا شئنا أن نتمثل شهادة أن محمداً رسول الله سواء في العبادات أو المعاملات لتحقيق أعلى مقامات الاقتداء به وبدعوته ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ ( الأحزاب 21 ) .
وإنّ من أُولى الخطوات وحدة الكلمة ووضع الكف على الكف والقلب على القلب وضم الجهود بعضها إلى بعض وإتباع الكتاب والسنّة والالتفاف حول العلماء الصادقين والدعاة المخلصين .
والله تعالى أجل وأعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أحمد بن عبد الله الأحيدب .
الخبر – الشرقية
ربيع ثاني 1432هـ