مشايخ الحكومات والأنظمة .. براءة ونكير

 

مَشايِخُ الحُكوماتِ والأَنْظِمَةِ


براءةٌ ونكيرٌ



بقلم :


عمر بن عبدالله العمر


 


قال عبَّاد بن عبَّاد الخوَّاص -رحمه الله- في رسالته المشهورة في نصيحته لأهل العلم – وهي مذكورةٌ في مُقَدِّمَةِ سُنَنِ الدَّارميِّ – :


" و ناصحوا الله في أمَّتِكم إذ كنتم حَمَلَةَ الكتابِ والسنَّةِ ؛ فإنَّ الكتابَ لا يَنْطِقُ حتى يُنْطَقَ به ، وإن السنَّة لا تُعْلَمُ حتى يُعمَلَ بها ، فمتى يتعلَّم الجاهلُ إذا سكت العالم فلم ينكر ما ظهر ولم يأمر بما ترك ؟! .


وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، اتقوا الله فإنكم في زمان رقَّ فيه الورعُ ، وقلَّ فيه الخشوع ، وحَمَلَ العلمَ مفسدوه ، فأحبوا أن يُعرفوا بحمله ، وكرهوا أن يُعرفوا بإضاعته، فنطقوا فيه بالهوى لما أدخلوا فيه من الخطأ ، وحرفوا الكلم عما تركوا من الحق إلى ما عملوا به من باطل ، فذنوبهم ذنوبٌ لا يُستغفر منها ، وتقصيرهم تقصير لا يعترف به ، كيف يهتدي المستدل المسترشد إذا كان الدليل حائراً ؟! .


أحبوا الدنيا وكرهوا منزلة أهلها فشاركوهم في العيش وزايلوهم بالقول ، ودافعوا بالقول عن أنفسهم أن ينسبوا إلى عملهم فلم يتبرءوا مما انتفوا منه ، ولم يدخلوا فيما نسبوا إليه أنفسهم ؛ لأن العامل بالحق متكلم وإن سكت " .


 


بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ، أمَّا بعد :


 


يستغرب كثيرٌ من الإخوةِ ما صَدَرَ ويصدرُ عن مُفْتيي الحكوماتِ والأنظمةِ من تخذيلٍ سافر ، وافتراءٍ على الشَّريعةِ ظاهر ..!


وأمَّا أنا فلم أستغرب ذلك البتَّة ، لأنَّ العرب قالت قديماً : الشيءُ من مَعْدَنِهِ لا يُستغرب ..!


فمتى علمنا من هؤلاء نصرةً للإسلام وأهله ؟!


ومتى علمنا منهم غَيْرَةً على الدِّين وحزبِهِ ؟!


ما علمناهم إلا مُسَبِّحين بَحَمْدِ أسيادهم ، مُتَفانين في تطويع الدِّين لخدمة أوليائهم ، فلذا لا تُستغرب أمثالُ هذه الفتاوى الإبليسية منهم ، فهم أحقُّ بها وأهلُها ، والله حسب الجميع ووكيلهم .


وكتابتي لهذه الأسطر ليس ردًّا على زيغهم بقدر ماهي فضحٌ لعلماء السلاطين ، وارثي بلعام بن باعوراء .


فكم كُنَّا نُكَنِّي على الناس حالهم ونُوَرِّيها ، حتى تفسَّخت وبدت عاريةً عياناً كالشمس في رابعة النَّهار ، فنقول من غير تردُّدٍ ولا مُواربةٍ : نحن – والله – بريئون من هؤلاء العُمَلاءِ الخَوَنَةِ ، أذنابِ السلاطين ، وأعوانِ الظالمين .


لا نراهم على دَرْبِ الهُدى سائرين ، ولا عن عُراه الوُثقى مُنافحِين ، ولا بملَّة إبراهيم الخليل صادعين .


بل نراهم بِحَمْدِ أسيادهم مُسَبِّحين ، ولِفُتات موائدهم آكلين ، ولأيديهم لاعقين ، وإلى إفرادهم بالطَّاعة داعين .


عرضنا حالهم على حال السلف الصالح فوجدناهم : غَشَشَةً مَفتونين ، كَذَبَةً مخدوعين ، ما وجدنا لهم سلفاً إلا القساوسة والرُّهبان ومُلاَّك الإقطاعيَّات في عصور أوربَّا الوُسطى .


 فإن قالوا : نحن على منهج السلف ، قلنا : نعم صدقتم ، وسلفكم : ألئك المارقون ، أمَّا سلفنا الصالح : الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسانٍ فهم بَراءٌ منكم براءةَ الذئبِ من دم ابنِ يعقوب .


هل سمعتم أيُّها السَّادة بعالمٍ صادقٍ يكون أداةً في أيدي الظلمة يحرِّكونها كيف شاءوا ؟!


هل سمعتم بعالمٍ صادقٍ يكون سِلماً لأعداء الله حرباً على أولياء الله ؟!


هل سمعتم بعالمٍ صادقٍ يُقبِّلُ كتف السلطان وجبهته ، ويعيش على نوالِهِ ورِفدِه ؟!


ألم يَسْمَعْ هؤلاء ما وَرَدَ عن النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فيمن أتى السلاطين ولاذ ببابهم ؟!


أخرج أبو داود والتِّرمذيُّ وحسَّنَهُ والنَّسائيُّ والبيهقي في (شعب الإيمان) عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  مَنْ سَكَنَ البادية جفا، ومن اتَّبع الصَّيْدَ غَفَل ، ومن أتى أبواب السَّلاطين افتتن .


وأخرج أبوداود، والبيهقي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ بدا فقد جفا، ومن اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَل، ومن أتى أبوابَ السَّلاطين افتتن، وما ازداد عبدٌ من السُّلطان دُنُوًّا إلا ازْدادَ مِنَ اللهِ بُعْدًا ) .


وأخرج أحمد في (مسنده) ، والبيهقي بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ بدا جفا، ومن اتَّبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحدٌ من السُّلطانِ قُرْباً ، إلا ازداد من الله بعداً ).


وأخرج التِّرمِذِيُّ وصحَّحَهُ، والنَّسائيُّ، والحاكمُ وصحَّحَهُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدَّقَهُم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بواردٍ عليَّ الحوض ، ومن لم يدخلْ عليهم، ولم يُعِنْهُم على ظلمهم، ولم يصدِّقْهُم بكذبهم، فهو مني، وأنا منه، وهو واردٌ عليَّ الحوض ) .


وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( تكون أمراء تغشاهم غواشٍ وحواشٍ من النَّاس ).


وأخرج أحمد، والبزَّار، وابن حبان، في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سيكون أمراء، من دخل عليهم وأعانهم على ظلمهم، وصدَّقهم بكذبهم، فليس مني ولست منه، ولن يرد علي الحوض ، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسَيَرِدُ عليَّ الحوض ).


والمُتَأمِّلُ في منهج سلفنا الصالح يجدهم قد امتثلوا ما في هذه الأحاديث ، فكان منهجم التباعد عن السَّلاطين ، والامتناع عن حضور مجالسهم ومنتدياتهم .


وبنظرةٍ سريعةٍ في كتاب (جلال الدِّين السيوطي) : ( ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ) تجد الآثار المتوافرة المُطبقة المُجْمِعة على ما ذكرتُ ، وأقتبس من ذلك ما يلي :


[ قال سفيان الثوري: « إن دَعَوْكَ لِتَقْرَأَ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تَأْتِهم » رواه البيهقي .


وعن ميمون بن مهران: أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان قدم المدينة، فبعث حاجبَهُ إلى سعيد بن المسيّب فقال له: أجب أمير المؤمنين! قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدَّثَ مَعَهُ. فقال: لَسْتُ مِنْ حُدَّاثِهِ. فَرَجَعَ الحاجِبُ إليه فأخبره، قال: دَعْهُ .


قال البخاري في تاريخه: « سمعت آدم بن أبي إياس يقول: شَهِدْتُ حمَّادَ بنَ سَلَمَةَ ودعاهُ السُّلطانُ فقال: اذهبْ إلى هؤلاء! لا والله لا فعلت ».


وروى الخطيب ، عن حمَّاد بن سلمة: أن بعض الخلفاء أرسل إليه رسولاً يقول له: إنه قد عَرَضَتْ مَسْأَلَةٌ، فَأتِنا نسألك. فقال للرَّسول: قُلْ لَهُ: « إنَّا أدْرَكْنا أقواماً لا يأتون أحداً لِما بلغهم من الحديث فإن كانت لك مسألةٌ فَاكْتُبْها في رُقْعَةٍ نكتبْ لك جَوابَها ».


وأخرج أبو الحسن بن فهر في كتاب « فضائل مالك »، عن عبد الله بن رافع وغيره قال: قدم هارون الرشيد المدينة، فوجه البرمكي إلى مالك، وقال له: احمل إليّ الكتاب الذي صنفتَهُ حتى أَسْمَعَهُ مِنْك ». فقال للبرمكي: « أقرئه السلام وقل له: إن العلم يُزار ولا يزور » فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين! يبلغ أهلَ العراقِ أنَّك وجَّهْتَ إلى مالك في أمْرٍ فخالفك! أعزم عليه حتى يأتيك. فأرسل إليه فقال: قل له يا أمير المؤمنين لا تَكُنْ أوَّلَ من وَضَعَ العِلْمَ فيُضَيِّعُكَ الله.


وروى غنجار في تاريخه عن ابن منير: أن سلطان بخاري، بعث إلى محمد بن إسماعيل البخاري يقول: احمل إليّ كتاب « الجامع » و « التاريخ » لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله: « قل له أنا لا أذل العلم، ولا آتي أبواب السلاطين فإن كانت لك حاجة إلى شيء منه، فلتحضرني في مسجدي أو في داري ».


وقال نعيم بن الهيصم في جزئه المشهور: « أخبرنا خلف بن تميم عن أبي همام الكلاعي، عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين، فقال: أقرحتم جباهكم، وفرطحتم نعالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم؟! أما إنكم، لو جلستم في بيوتكم لكان خيراً لكم، تفرَّقوا فرَّق اللهُ بَيْنَ أعضائكم ».


ومرَّ الحسن البصري بباب عمر بن هبيرة وعليه القُرَّاء فسَلَّمَ، ثم قال: « ما لكم جلوس قد أحفيتم شواربكم وحلقتم رؤوسكم، وقصرتم أكمامكم، وفلطحتم نعالكم! أما والله! لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيما عندكم فضحتم القراء فضحكم الله ».


وأخرج ابن النجار، عن الحسن أنه قال: « إن سركم أن تسلموا ويسلم لكم دينكم، فكفوا أيديكم عن دماء المسلمين، وكفوا بطونكم عن أموالهم، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم ولا تجالسوا أهل البدع، ولا تأتوا الملوك فيلبسوا عليكم دينكم ».


وأخرج أبو نعيم، عن أبي صالح الأنطاكي، قال: سمعت ابن المبارك يقول: « من بخل بالعلم ابتلى بثلاث: إما بموت فيذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه.


وعن مالك بن أنس رحمه الله، قال: « أدركت بضعة عشر رجلا من التابعين يقولون لا تأتوهم، ولا تأمروهم، يعني السلطان ».


وعن عبيد الله بن محمد القرشي، قال: كنا مع سفيان الثوري بمكة، فجاءه كتاب من عياله من الكوفة: بلغت بنا الحاجة أنَّا نَقْلي النَّوى فنأكله فبكى سفيان. فقال له بعض أصحابه: يا أبا عبد الله! لو مررت إلى السلطان، صرت إلى ما تريد! فقال سفيان: « والله لا أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها ».


عن سفيان الثوري: إنه كان يقول: « تعززوا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم ».


حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، نبأنا ابن حسان، نبأنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان تخالف العلماء؟ فغضب وقال: « أرأيت عالماً يأتي باب السلطان فيأخذ دراهمهم ».


سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول: سمعت أحمد بن الصلت يقول: « جاء رجل إلى بشر بن الحارث، فقال له: يا سيدي! السلطان يطلب الصالحين، فترى لي أن أختبئ؟ فقال له بشر: « جز من بين يدي، لا يجوز حمار الشوك فيطرحك علينا ».


وعن صالح بن خليفة الكوفي، يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: « إن فجار القراء اتخذوا سلّماً إلى الدنيا فقالوا: ندخل على الأمراء نفرج عن مكروب ونكلم في محبوس ».


وعن عمار بن سيف، أنه سمع سفيان الثوري يقول: « النظر إلى السلطان خطيئة.


وأخرج ابن باكويه، عن الفضيل بن عياض، قال: « لو أن أهل العلم أكرموا على أنفسهم وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، واشتغلوا بما يعنيهم، وعز الإسلام وأهله لكنهم استذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم، إذا سلمت لهم دنياهم وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس ».


وأخرج الخطيب وابن عساكر، عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة، فبينا أنا عنده جالس، إذ دق داق الباب فقال: « يا صبية أخرجي فانظري من هذا! فقالت: هذا رسول محمد بن سليمان الهاشمي - وهو أمير البصرة والكوفة - قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وسلم فناوله كتابه، فقال: اقرأه فإذا فيه: « بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد: فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها » فقال: « يا صبية هلمي الدواة! » ثم قال: لي: « اقلب الكتاب وكتب: أما بعد فقد صبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك! وإن أتيتني، فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام » فبينما أنا عنده، إذ دق داق الباب فقال: « يا صبية أخرجي فانظري من هذا! » قالت: « هذا محمد بن سليمان، قال: « قولي له يدخل وحده » فدخل، فسلم ثم جلس بن يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا!؟ فقال حماد: « سمعت ثابت البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد به أن يكثر به الكنوز، هاب من كل شيء »


« وأخرج ابن النجار في تاريخه عن سفيان الثوري قال: « ما زال العلم عزيزا، حتى حمل إلى أبواب الملوك فأخذوا عليه أجرا، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم ومنعهم العلم به ».


وأخرج البيهقي في « شعب الإيمان » عن بشر الحافي قال: « ما أقبح أن يطلب العالم، فيقال: هو بباب الأمير ».


وأخرج أيضا عن الفضيل بن عياض، قال: إن آفة القراء العجب، واحذروا أبواب الملوك فإنها تزيل النعم فقيل: كيف؟ قال: الرجل يكون عليه من الله نعمة ليست له إلى خلق حاجة فإذا دخل إلى هؤلاء فرأى ما بسط لهم في الدور والخدم استصغر ما هو فيه من خير ثم تزول النعم ». ] انتهى النَّقْلُ عن كتاب (الأساطين) .


وهنا تنبيهٌ مهمٌّ : ما جاء في الأحاديث والآثار أعلاه وغيرها : هي في السلاطين المسلمين ، فكيف الحال إذا كان السلطان الذي يلوذ به علماءُ الضَّلالةِ شيطاناً مريداً وطاغوتاً عنيداً ، كرَّس سلطانه لإعزازِ الكفرِ وأهلِهِ ، وإذلال الإسلام وأهلِهِ ، وإذا كان الحالُ كذلك : فما وَرَدَ في الآثارِ مِنْ بَراءةٍ ونكيرٍ أهونُ بكثيرٍ مما يستحقُّ علماءُ الضَّلالةِ في هذا الوقت ..!


وأرجئُ تحرير حال هؤلاء الخونة إلى موطنٍ آخر ، أسأل الله التيسير والإعانة ، ولكن يكفينا الآن أن نعلم أنَّ هؤلاء (مشايخ الحكومات والأنظمة) : علماءُ ضلالةٍ ، نُكرم الحقَّ عن نسبتِهِم إليه ، فللحقِّ رجالٌ يقومون به ، يخسأ هؤلاء عن بلوغ درجاتهم .


وما دعاني إلى كتابة ما تقدَّم أنَّه بينما كان عُبَّاد الصَّليبِ وإخوانهم من من عساكر الرِّدة تحاصر المجاهدين في (فلُّوجة العزِّ) ، وبينما يُسَطِّرُ المجاهدون أرْوعَ البطولاتِ وأصدق التضحياتِ في رَدْعِ هؤلاء المعتدين ، يأبى بعض علماءِ الضَّلالةِ إلاَّ أن يُشارك مع المعتدين (حزب الصَّليب) ولو بِجُهْدِ المُقِلِّ .


فظهر علينا بِطَلَّتِهِ البئيسةِ في بعض وسائل الإعلام بتخبيطٍ وتخليطٍ يترفَّعُ عنه أدنى طالبِ علمٍ معه أدنى رصيدٍ من عزَّةٍ وكرامةٍ ..!


وأهمُّ ما في كلامِهِ :


أوَّلاً : الجهاد في العراق إلقاءٌ باليدِ إلى التَّهلكة ..!


ثانياً : عدم وجود الرَّاية ليقاتلوا تحتها .


ملبِّساً على النَّاس الحقائق الشرعيَّة التي جاءت في كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم - ، قال الإمام أبو داود حدَّثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح، ثنا ابنُ وهب، عن حيوة بن شريح وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلصِقُو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدوِّ فقال الناس: مَهْ، مَهْ، لا إله إلا اللّه، يلقي بيديه إلى النهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم وأظهر الإِسلام، قلنا: هلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل اللّه تعالى: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فالإِلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل اللّه حتى دفن بالقسطنطينية .


 


فانظر أخي الكريم إلى التَّهلكة التي عناها الله سبحانه وتعالى ، ثمَّ انظر إلى فتوى ( الهالك ) التي زعم فيها أن الجهاد في العراق هو إلقاءٌ باليد إلى التَّهلكة ..!


وَلَيْتَهُ يخبرنا ما هو الحلُّ في هذه النازلة ، هل الجلوس كالمُخدَّرات في بيوتهن وحمل المجامر والاصطباح والغبوق بما لذَّ وطاب هو الحلُّ ..؟!


هل ما يفعله المجاهدون في العراق من دفعٍ للمعتدي على الأديان والأعراض والأموال = إلقاءٌ باليد إلى التَّهلكة ..!؟


الفقهاء لمَّا أجمعوا على أنَّ دفع المعتدي فَرْضُ عَيْنٍ ، هل غشَّوا النَّاس وأرشدوهم إلى العطب والهلاك ..؟!


والله إنَّ الهلاك والعطب هو ما عليه هذا الهالك وأتباعه من حال وكيفيَّة .


وأجد من المناسب سَرْدَ أقوالِ الفقهاء وإجماعاتهم الواضحة في مثل حال هذه النازلة التي يسميها المفتي – إلقاء باليد إلى التهلكة - :


قال ابن حزم - رحمه الله - :


( واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة أهل الإسلام وقراهم وحصونهم وحريمهم إذا نزلوا على المسلمين فرض على الأحرار البالغين المطيقين ) . مراتب الإجماع (138) .


وقال القرطبيُّ -رحمه الله- في تفسيره : ( قد تكون حالةٌ يجب فيها نفيرُ الكُلِّ ..وذلك إذا تعيَّن الجهادُ بغلبة العدوِّ على قِطْرٍ من الأقطار أو بحلوله بالعقر فإذا كان ذلك ؛ وجب على جميع أهل تلك الدَّارِ أن ينفروا أو يخرجوا إليه خفافاً وثقالاً ، شباباً وشيوخاً ، كلٌّ على قدر طاقته ومن كان له أب بغير إذنه ، ومن لا أب له ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثّر فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ، ومدافعتهم وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو إليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين ..ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة ، وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ولا خلاف في هذا ) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/97) .


ويقول ابن تيمية: ( إذا دخل العدوُّ بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعُهُ على الأقرب فالأقرب ، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة ، وأنه يجب النفير اليه بلا إذن والد ولا غريم ، ونصوصأحمدصريحةبهذا)الفتاوىالكبرى(4/608)..
وقال أيضاً : مجموع الفتاوى (82/358) : ( فأمَّا إذا أراد العدوُّ الهجومَ على المسلمين فإنه يصير دفعُهُ واجباً على المقصودين كلِّهم وعلى غير المقصودين، كما قال تعالى " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) .


وقال أيضاً: ( وأما قتال الدَّفعِ فهو أشدُّ أنواعِ دفع الصائل عن الحُرْمةِ والدِّين واجبٌ إجماعاً ، فالعدوُّ الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يُشترط له شرطٌ بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نصَّ على ذلك العلماءُ أصحابنا وغيرهم ) ( الفتاوى الكبرى(4/520)


وقال الرمليُّ الشافعيُّ في نهاية المحتاج  : ( فإن دخلوا بلدةً لنا وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر فيلزم أهلَها الدفعُ حتى من لا جهاد عليهم، من فقير وولد وعبد ومدينٍ وامرأة ) نهاية المحتاج (8/58) .


قال الجصاص : ( ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم ، وأنفسهم ، وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم ) ( أحكام القرآن للجصاص 3/114) .


قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/954): ( وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل إذا تعين الجهاد على الأعيان بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو لحلوله بالعقر فيجب على كافة الخلق الجهاد والخروج فإن قصروا عصوا .... فإذا كان النفير عاما لغلبة العدو على الحوزة أو استيلائه على الأسارى كان النفير عاما ، ووجب الخروج خفافا وثقالا ركبانا ورجالا عبيدا وأحرارا .... من كان له أب من غير إذنه ، ومن لا أب له حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ويستنقذ الاسرى ولا خلاف في هذا- إلى أن قال - : فكيف يصنع الواحد إذا قعد الجميع ؟ يعمد إلى أسير واحد فيفديه ، ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا ) .


وأمَّا زعمه : عدم وجود رايةٍ يقاتلُ تحتها المسلمون ، فهذه الأغلوطة التي لا تُحتمل ، فبعد كلِّ هذا الذي يحدث من وضوحٍ في العدوان الصليبي ووضوحٍ في إسلاميَّةِ الجهود الدافعة للعدوان ، يأتي المفتي وبكلِّ سذاجةٍ ويقول : لا توجد رايةٌ يقاتلون تحتها ، ووضوح الرَّاية يغني عن إيضاحها ، ويكفي للتيقن من ذلك متابعة أخبار الجهاد في أرض الرَّافدين ، وهذا ما لا يجد كبار الإقطاعيِّين وقتاً له ، فالإقطاعيَّات شاسعةٌ وتحتاج إلى متابعةٍ ، ووقتهم لا يفي بمتابعة غيرها ولو كان : جهاداً للكافرين ، ورَدْعاً عن بَيْضَةِ الدِّين .


ما سَبَقَ كان على سبيل التَّنَزُّلِ مع الخصم ، وإلاَّ فما هو الدَّليل على اشتراط الرَّاية في جهاد الدَّفعِ ؟!


قرأنا كتاب الله وسنة نبيه وكلام أهل العلم فما وجدنا هذا الشَّرط لجهاد الدفع ، وما تقدم من كلام العلم ناطقٌ بعدم اشتراط أيِّ شرطٍ لجهاد الدَّفع ، والحمدلله على وضوح الطَّريق إليه ، وظهور بطلان المفترين عليه . 


 


وبهذا تحصل الكفاية ، وما أردت الرَّدَّ  ، وإنَّما التنبيه والإشارة إلى مسألةٍ مُهِمَّةٍ ، التبست على الكثير من أهل الفضل والصَّلاح ، فاغترُّوا بعلماء الحكومات ، ومشايخ الأنظمة ، فكان ما كتبت تطبيقاً لقواعد السلف اتجاههم ، وأرجو من الله القبول والسداد .


الكاتب: عمر بن عبدالله العمر
التاريخ: 01/01/2007