قال سفيان بن عيينة : إذا رأيت الناس اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأصحاب الثغورفإن الله تعالى يقول : { لنهدينهم }
أكتب هذه السطور بيانًا للحق ودفاعًا عن أهله وزجرًا للمثبطين ، كلمات أرجو ثوابها في الذب عن المهديين
خيار أهل الإسلام
خير الناس معاشًا
المُسطِـري المجدَ لأمتنا بالدماء
الحافظي ماءَ وجوهنا بإرخاص الجماجم و الأشلاء
تــلــوح فـي د ول الأيـا م قــريــتـكــم كـأنـهـا مـــلـة الإسـلام فـي المـــلـل
تعريف المثلة :
قال ابن منظور : والعرب تقول للعقوبة : مـَــثــُــلـَـة و مـُـثــْـلـَـة فمن قـال مـَـثــُـلـَـة جمعها على مـَـثــُـلات ومن قال مـُـثــْـلـَـة جمعها على : مـُـثــُـلات ومـُـثــْـلات
ثم قال : و مـثــَّـلـتُ بـالـقتيل إذا جدعت أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه [ لسان العرب،مثـل، (615/11)]
ومنه ما يطلق عليه ( الـسحـل )
قال ابن منظور: الـسـَّحل القشر و الكشط : أي تكشط ما عليها من اللحم
وقال : وسحله سحلا فانسحل : أي قشره ونحته
[ لسان العرب ، سحل ، (329/11) ]
أحاديث النهي عن المثلة :-
وردت عدة أحاديث في نهي النبي – صلى الله عليه و سلم –عن المثلة نقلها عنه جمع من أصحابه منهم بريدة و عمران بن حصين و ابن عمرو و أنس و سمرة بن جندب و المغيرة و يعلى بن مرة و جرير بن عبد الله و عبد الله بن يزيد و أسماء بنت أبي بكر. فمن ذلك :
- ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن يزيد أن النبي –صلى الله عليه و سلم – نهى عن النهبة و المثلة .
- ما أخرجه أحمد و مسلم و الأربعة عن بريدة مرفوعا : اغزوا باسم الله في سبيل الله و لا تغلوا و لا تغدروا و لا تمثلوا و لا تقتلوا وليدا .... الحديث
- ما أخرجه أحمد و أبو داود و النسائي و ابن حبان عن عمران بن حصين مرفوعا :إن رسول الله _صلى الله عليه و سلم _ كان يحثنا على الصدقة و ينهانا عن المثلة .و قد رواه البخاري عن قتادة إثر قصة العرنيين مرسلا .
- ما أخرجه أحمد عن المغيرة أنه قال : نهى رسول الله عن المثلة .
- ما أخرجه أحمد و البخاري و أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة قال : بعثنا رسول الله في بعث فقال : إن وجدتم فلانا و فلانا لرجلين فأحرقوهما بالنار ثم قال حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما ، و في بعض ألفاظ الحديث : وإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله .
و ثمة نصوص أخرى تفيد النهي عن التمثيل بالحيوان أيضا ليس هذا مجال ذكرها .
فيتحصل مما تقدم أن التمثيل من حيث الأصل منهي عنه في البشر و الحيوان ، لكن هل هذا النهي يفيد التحريم أم التنزيه ؟ و هل هو على إطلاقه أم يجوز التمثيل في القتل في بعض الأحوال ؟
قبل الإجابة على ذلك لابد من تقرير أمور :
· أولا : المثلة المنهي عنها ترد على العقوبات التي لم يأتي النص بخصوصها. قال ابن حزم رحمه الله : " المثلة ما كان ابتداءً فيما لا نص فيه و أما ما كان قصاصا أو حدا كالرجم للمحصن أو كالقطع أو الصلب للمحارب فليس مثلة " [ المحلى ( 288/12) ]
· ثانيًا : أن التحريق من المثلة بل هو من أشد أنواعها سواءً كان التحريق حال القتل أو بعد القتل و مما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه : " حدثنا و كيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : كان يكرهون أن يحرق العقرب بالنار و يقولون مثلة " [ حديث (33147)(468/6)]
· ثالثًا : إذا كان جدع الأنف أو قطع الأذن أو تسميل العين أو الخصاء من التمثيل ، فإن قطع الرأس من المثلة من باب
أولى . قال في منتهى الإرادات – وسيأتي - : " كره رميه الرأس بمنجنيق بلا مصلحة لأنه مثلة " (625/
1) " وكذا ترك الميت بلا دفن مثلة " [المحلى(239/3)]
·
رابعًا : أن المثلة بالكافر بعد قتله لها حكم المثلة بعد الظفر و قبل قتله ، بل هي أخف لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت .
· خامسًا : أن محل النزاع في المسألة و مناط البحث فيها إنما يرد على المثلة بعد الظفر بالكافر أي بعد التمكن منه أما قبل الظفر به فيجوز قتله على أي حال
قال في الاستذكار:" و المثلة محرمة في السنة المجمع عليها وهذا بعد الظفر و أما قبله فلنا قتله بأي مثلة أمكننا. نقلا عن مواهب الجليل " (355/3)
و قال ابن عابدين في حاشيته : " نهينا عن المثلة بعد الظفر أما قبله فلا بأس بها اختيار " ( 131/4 )
إلا أن البعض يقيد ذلك بألا يمكن قتلهم أي قبل الظفر إلا بالمثلة بهم و ذلك بتحريقهم و نحوه . [ انظر شرح مختصر خليل للخرشي (114/3) ]
اختلاف العلماء في حكم المثلة :
§ قال الشوكاني في نيل الأوطار : " و قد اختلف السلف في التحريق فكره ذلك عمر و ابن عباس و غيرهما مطلقا و أجازه علي و خالد بن الوليد و غيرهما ، و قال المهلب : ليس النهي على التحريم بل هو على سبيل التواضع " ( 271 /7 )
§ و نقل النووي عن القاضي عياض قوله:" و اختلف السلف في معنى حديث العرنيين و قال بعضهم :النهي عن المثلة نهي تنزيه" [ شرح النووي لصحيح مسلم (154 / 11) ]
و هذا الذي مال إليه النووي في شرحه حديث بريدة حيث قال :" و في هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها و هي تحريم الغدر و تحريم الغلول و تحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا و كراهة المثلة " ( 37 / 12 ) و انظر فقه الجهاد و القتال لمحمد هيكل (1306/2)
أقول و بالله التوفيق: بتأمل نصوص الشرع و مقاصده و أفعال الصحابة الكرام و أقوال أهل العلم رحمهم الله تعالى يظهر أن النهي عن المثلة ليس على إطلاقه بل هو مشروع في أحوال حتى عند من قال أن النهي عن المثلة على التحريم .
الأحوال التي تجوز فيها المثلة :-
· الحالة الأولى : أن يكون التمثيل معاملة بالمثل
و يستدل لذلك بما يلي :
_ أولا :- قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين}
قال الشعبي و ابن جريج : "نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك" [ ابن كثير (653 /2 ) ]
و قال القرطبي :أطبق جمهور أهل التفسير إن هذه الآية مدنية ، نزلت في شأن التمثيل بحمزة يوم أحد ووقع ذلك في صحيح البخاري في كتاب السير و ذهب النحاس أنها مكية و المعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى و يوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله، لكن ما روى الجمهور أثبت، روى الدارقطني عن ابن عباس قال :لما انصرف المشركون عن قتلى أحد لانصرف رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فرأى منظرًََا ساءه ، رأى حمزة قد ُشق بطنه،و اصُطِلم أنفه ، وجُدعت أذناه ، فقال : " لولا أن يحزن النساء أو أن تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع و الطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا " ، ثم دعا ببردة و غطى بها وجهه فخرجت رجلاه فغطى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجهه وجعل على رجليه الإذخر ، ثم قدمه فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع و حمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة ،و كان القتلى سبعين ،فلما دفنوا و فرغ منهم نزلت هذه الآية { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة (إلى قوله ) و اصبر و ما صبرك إلا بالله } فصبر و لم يمثل بأحد" [ تفسير القرطبي (132 /10 ) ] وكذا أخرجه عبدالله بن أحمد في مسند أبيه بإسناده عن أبي بن كعب بنحو هذه القصة [ تفسير ابن كثير (653/2)]
قال شيخ الإسلام : " أما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص و قد قال عمران بن حصين ما خطبنا رسول الله خطبة إلا أمرنا بالصدقة و نهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم و لا نجدع آذانهم و لا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم ما فعلوا و الترك أفضل كما قال تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به 0000} قيل أنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة و غيره من شهداء أحد فقال : لئن ظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا فأنزل الله هذه الآية و إن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة 000 ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي بل نصبر " [ مجموع الفتاوى ( 314 /28 ) ]
و نقل صاحب الفروع عن الإمام أحمد أنه إن مثلوا مُثل بهم ذكره أبو بكر .
و قال شيخنا – شيخ الإسلام - :" المثلة حق لهم ، فلهم فعلها للاستيفاء و أخذ الثأر و لهم تركها و الصبر أفضل و هذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد ولا يكون نكالاً لهم عن نظيرها فأما إن كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان أو زجر لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود و الجهاد المشروع و لم تكن القضية في أحد كذلك فلهذا كان الصبر أفضل فأما إن كانت المثلة حق لله تعالى فالصبر هناك واجب كما يجب حيث لا يمكن الانتصار و يحرم الجزع "
[الفروع(219 /6)–الفتاوى الكبرى(545/5) ]
ثانيا : ما جاء في الصحيحين عن أنس أن قوما عكل وعرينه اجتووا المدينة فأمرهم النبي بلقاح و أن يشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود فبعث النبي - صلى الله عليه و سلم - في طلبهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم" [البخاري حديث(1430)(546/2)/ مسلم حديث (1671)(1296/3)
قال الباجي رحمه الله تعالى :" أما ما روى عن أن النبي – صلى الله عليه وسلم- أمر بالعرنيين الذين قتلوا رعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - واستاقوا نعمه فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم فإنه روى سليمان التيمي عن أنس أنهم كانوا فعلوا بالرعاء مثل ذلك ، و مثل هذا يجوز من مثل بمسلم أن يُُمثل به على سبيل القصاص " [ المنتقى شرح الموطأ ( 172/3) ]
يشير رحمه الله تعالى إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه بإسناده عن سليمان التيمي عن أنس قال : إنما سمل النبي أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة كما أخرجه الترمذي والبيهقي عنه أيضا
إلا أن الرواية اقتصرت على تسميل العين ولم يرد فيها قطع أيدي وأرجل الرعاة و هو تمثيل زائد عن القصاص إنما جاء ذلك عند بعض أهل المغازي على ما نقله القاضي عياض وابن حجر وسيأتي ، وجميع الروايات الواردة في القصة والتي أخرجها الشيخان وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وعامة أصحاب السنن والمسانيد لم تأت فيها رواية واحدة تفيد قطع أيدي وأرجل الرعاة بل جميعها تقتصرعلى ذكر قتلهم للرعاة وعليه فإن ما رواه بعض أصحاب المغازي لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحاح الثابتة عن أهل الحديث رحمهم الله جميعا كما ورد عند النسائي في المجتبى عن أنس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- صلبهم [ حديث (4028) ] و قد ضعفه الألباني
وقال القاضي عياض:" اختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا، فقال بعض السلف كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ ، وقيل ليس منسوخاً وفيهم نزلت آية المحاربة وإنما فعل بهم النبي ما فعل قصاصاً لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك وقد رواه مسلم في بعض طرقه ورواه ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأهل السير والترمذي وقال بعضهم النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام " [شرح صحيح مسلم (154/11)]
و قال ابن حجر في الفتح :" و مال جماعة منهم ابن الجوزي على أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص لما عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس إنما سمل النبي أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة 0000 إلى قوله وتعقبه بن دقيق العيد أن المثلة وقعت من جهات وليس في الحديث إلا السمل ، قلت – أي ابن حجر – كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي إنهم مثلوا بالراعي .
وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة في هذا الحديث ينسخ كل مثلة و تعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ قلت يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بعد الأذن فيه و قصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة و قد حضر الاذن ثم النهي و روى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود ، و لموسى بن عقبة في المغازي ذكروا أن النبي –صلى الله عليه و سلم- نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة و إلى هذا مال البخاري وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي 0000 إلى أن قال في فوائد الحديث : و فيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة إن قلنا أن قتلهم كان قصاصاًَ و فيه المماثلة في القصاص و ليس ذلك من المثلة المنهي عنها" [ فتح الباري (1/341)]
قال ابن كثير : " قد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم فقال بعضهم هو منسوخ و زعموا إن فيها عتابا للنبي –صلى الله عليه و سلم- كما قال الله تعالى { عفا الله عنك لم أذنت لهم} . و منهم من قال هو منسوخ بنهي الرسول – صلى الله عليه و سلم- و هذا القول فيه نظر ثم صاحبه مطالب ببيان الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ و قال بعضهم كان هذا قبل أن تنزل الحدود ، قاله محمد بن سيرين و في هذا نظر فإن قصتهم متأخرة و في رواية جرير بن عبدالله لقصتهم ما يدل على تأخرها فإنه أسلم بعد نزول المائدة ، و منهم من قال لم يسمل النبي –صلى الله عليه و سلم - أعينهم إنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين و هذا القول أيضاً فيه نظر فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل و في رواية سمر " [ ابن كثير (57/2)]
قال أبو حاتم :" المثلة المنهي عنها ليس القود الذي أمر به لأن أخبار العرنيين المراد منها كان القود لا المثلة"
[ صحيح ابن حبان ،حديث(4473) (324/10)
وقال البخاري في صحيحه باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق ؟
وقال ابن حجر : كأنه أشار بذلك إلى تخصيص النهي في قوله "لا يعذب بعذاب الله " إذا لم يكن ذلك على سبيل القصاص [ فتح الباري (1447/2)]
ومما تقدم نخلُص إلى ما يأتي :
1. أن التمثيل يشرع من جهة المعاملة بالمثل لسمل النبي –صلى الله عليه وسلم – أعين العرنيين و لما جاء في سبب نزول قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به 000}
2. أن ادعاء النسخ لحديث العرنيين مردود من جهتين :
ـ أولا ًَََ:- افتقاره إلى التاريخ و قد مر قول ابن كثير أن رواية جرير للحادثة تدل على تأخرها إذ كان إسلامه بعد نزول سورة المائدة و التي فيها قوله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض }
ـ ثانيا :- أنه لا يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ، فإن قلنا أن النهي عن المثلة للتنزيه فلا تعارض أصلاَََ ًوإن قلنا النهي للتحريم فإنه عام مخصص بكون التمثيل معاقبة بالمثل .
3. أن النبي جمع للعرنيين بين حد الحرابة قطع أيديهم وأرجلهم والقصاص بسمل أعينهم.
4. أن حد الحرابة لا يختص بالمسلمين و قد نص ابن عباس أن آية {إنما جزاء الذين00} نزلت في المشركين فيما رواه عنه أبو داود و النسائي من طريق عكرمة و هو قول طائفة من السلف . و قد روى البخاري عن أبي قلابة صاحب ابن عباس وهو راوي حديث العرنيين أنه قال في العرنيين : فهؤلاء سرقوا و قتلوا و كفروا بعد إيمانهم و حاربوا الله و رسوله . و عليه يتبين أن حد الحرابة لا يختص بالمسلمين بل يقام على الكفار إن فعلوا فعلهم ، و لكن ينبغي التنبه إلى أن مجرد محاربة الكفار للمسلمين و استباحتهم دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم ليس هو الموجب بحد ذاته لإقامة حد الحرابة عليهم ،إذ كان هذا متحققا ً فيمن حاربهم النبي – صلى الله عليه و سلم- و نهى عن المثلة بمقاتليهم ، لكن ثمة معنى آخر مراد لتحقق ذلك فيهم ،والمسألة بحاجة لزيادة تحريروالله تعالى أعلم .
5. أن التمثيل بالكفار إن مثلوا بالمسلمين يندب و يتأكد إن كان فيه زيادة في الجهاد أو نكالا ً أو دعاءاً لهم إلى الإيمان أو زجرًا لهم عن العدوان كما أفاده شيخ الإسلام رحمه الله
6. أن تحريم المثلة من حيث الإطلاق ليس محل إجماع بل إن القول بكراهة المثلة من حيث الإطلاق قول قوي متوجَه طائفة من السلف و قد مال إليه النووي رحمه الله ،وهذا القول قد يُفهم من أمره –صلى الله عليه و سلم- ابتداءً بتحريق رجلين ثم رجوعه عنه وقوله :" لا ينبغي لبشرأن يعذب بعذاب الله " .[ حديث(4018)(4230/1)]
لاسيما إذا أضيف إلى ذلك نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الاكتواء بالنار ،وقد كوى به معاذ وسئل عنه فرخص فيه وهو كاره .
والجامع بين التحريق بالنار والكي ظاهر إذ كلٌ منهما فيه تعذيب بعذاب الله وهو النار ،ويفترقان في كون التحريق لمصلحة التنكيل بالكفار والكي يكون لمصلحة العلاج . ولعل هذا ما فهمه من صح عنه التمثيل في القتل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – (كما سيأتي ) والله تعالى أعلم .
· الحالة الثانية: إن كان التمثيل مظنة تحقق المصلحة المعتبرة شرعا :-
و ذلك نحو التنكيل و الموعظة و إلقاء الرعب في نفوسهم و زجرهم عن العدوان و كسر شوكتهم كما لو كان المقتول من صناديدهم أو قوادهم و طمأنينة نفوس المؤمنين و ما أشبه ذلك
قال المجد بن تيميه في المنتقى في" كتاب الجهاد " باب الكف عن المثلة و التحريق و قطع الشجر و هدم العمران إلا لحاجة و مصلحة " [المنتقى(3/321)]
قال السرخسي في الشرح الكبير : " أكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه إذا كان في ذلك كبت و غيظ للمشركين أو فراغ قلب للمسلمين بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك " ( 137/1)
قال في المغني : " في رمي رأس الكافر بالمنجنيق بعد قطعه: يكره رميها بالمنجنيق نص عليه أحمد و إن فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا لأن عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظُفِر برجل من المسلمين فأخذوا رأسه فجاء قومه عمرًا مغضبين ، فقال لهم عمرو خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم بالمنجنيق ففعلوا ذلك فرد أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه [ المغني(262/20) ]
قال في الفروع : "يكره نقل رأس و رميه بمنجنيق بلا مصلحة و نقل ابن هانئ لا يفعل و لا يحرقه قال أحمد لا ينبغي أن يعذبوه و عنه إن مثلوا مُثل بهم ذكره أبو بكر (219/6)
قال في شرح منتهى الإرادات : " وكره لنا نقل رأس كافر من بلد إلى بلد آخر بلا مصلحة لما روى عقبة بن عامر أنه قدم على أبي بكر برأس بنان البطريق فأنكر ذلك ، فقال يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا فقال إذن بفارس و الروم لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب و الخبر.
و كره رمي الرأس بمنجنيق بلا مصلحة لأنه تمثيل قال أحمد و لا ينبغي أن يعذبوه فإن كان فيه مصلحة كزيادة في الجهاد أو نكال لهم أو زجر عن العدوان جاز لأنه من إقامة الحدود والجهاد المشروع قاله تقي الدين(625/1)
قال ابن عابدين في حاشيته : " و قيد جوازها ( يعني المثلة ) قبله ( أي قبل الظفر ) في الفتح ( فتح القدير ) بما إذا وقعت قتالاً كمبارز ضرب فقطع أذنه ثم ضرب ففقأ عينه ثم ضرب فقطع يده و أنفه و نحو ذلك وهو ظاهر في أنه لو تمكن من كافر حال قيام الحرب ليس له التمثيل به بل يقتله و مقتضى ما في الاعتبار أن له ذلك كيف و قد عُلل بأنها أبلغ في كبتهم و أضر بهم .(131/4)
و فيما تقدم من أقوال أهل العلم رحمهم الله دلالة ظاهرة في اعتبار المصلحة مخصصًا للنهي عن المثلة
و يمكن أن يستدل لذلك بما يلي :
- أولاً : فعل ابن مسعود – رضي الله عنه - و إقرار النبي – صلى الله عليه و سلم – له حين احتز رأس أبي جهل ، قال ابن حجر في الفتح : " جاء في حديث ابن عباس عند ابن إسحاق و الحاكم قال ابن مسعود : فوجدته بآخر رمق 000 ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – [انظر الفتح شرح حديث (4437)]
قال النووي : ابن مسعود هو الذي أجهز عليه و احتز رأسه [شرح مسلم(160/
12)] و أخرج أبو داود بإسناده قول ابن مسعود نفلني رسول الله – صلى الله عليه و سلم - سيف أبي جهل _كان قتله _ قال في عون المعبود يعني حز رأسه و به رمق [حديث(2722) ] و كأن فعله هذا لطمأنة قلوب المؤمنين بقتل رأس الكفر .
- ثانيًا : ما ثبت عن علي – رضي الله عنه في مواطن عدة من تحريق المرتدين . قال شيخ الإسلام : " روي عنه –أي علي- تحريق الزنادقة بأسانيد جيدة " [ مجموع الفتاوى (474/8) ]
v وإليك طائفة من الأحاديث الواردة عنها :
- ما رواه البخاري أن أناسًا ارتدوا على عهد علي ، فأحرقهم بالنار ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله –صلى الله عليه و سلم- لا تعذبوا بعذاب الله و لقتلتهم [حديث (6524) (2537/6) ] و لما بلغ علي –رضي الله عنه – إنكار ابن عباس لم يعول عليه بل استمر في تحريق الكفار حتى قبل موته فإنه أمر به كما سيأتي .
وقد استنكر علي –رضي الله عنه – قول ابن عباس حين بلغه بقوله : " ويح ابن عباس هذا ثابت صحيح " [ رواه الدارقطني (90) (3/108) ] و قال أيضًا : " ويح ابن أم ابن عباس " [ أخرجه أحمد في المسند ،حديث (2552) (282/1) و عبد الرزاق في المصنف حديث (9413)(213/5)]
- ما رواه البيهقي بإسناد صحيح من طريق ابن عيينة نا سليمان عن أبي عمر الشيباني أن عليًا أتي بالمستورد العجلي و قد ارتد فقتله ، فأعطاه النصارى بجيفته ثلاثين ألفا فأبى أن يبيعهم إياه و أحرقه . و رواه بإسناد آخر عن شريك عن سماك عن ابن عبيد بن الأبرص : بنفس القصة و فيه : فقال علي اقتلوه ، فتواطأه القوم حتى مات فجاء أهل الحيرة فأعطوا – يعني بجيفته- اثني عشر ألفا فأبى عليهم علي و أمر بها فأحرقت بالنار [ السنن الكبرى ،ح (12241)(254/6) و انظر المهذب في اختصار السنن للذهبي ، ح(10014)(2411/5)]
- ما أخرجه أحمد و الدارقطني أنه : لما ضرب ابن ملجم عليًا ، قال علي افعلوا به كما أراد رسول الله أن يفعل برجل أراد قتله فقال اقتلوه ثم احرقوه [مسند علي ح(675) ، الدارقطني ح(713)(92/
1)] و قد روى الطبراني في الكبير بإسناده أن الحسن قدّم ابن ملجم فقتله ثم أخذه الناس في بواري ثم أحرقوه بالنار [ ح( 168) (97/1) ]
- ثالثا : ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه " أن خالدًا أحرق المرتدين و في ذلك قال عمر لأبي بكر: أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله ، فقال أبو بكر : لا أشيح سيفاً سله الله على الكفار .
- رابعاً : ما رواه الطبراني بإسناد حسن قال : "حدثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن نمير ثنا طلحة بن يحيى ثنا أبو بردة عن أبي موسى أن معاذاً قدم عليه اليمن فرأى رجلاً موثقاً 0000 فأخبره أبو موسى أنه ارتد بعد إسلامه ، فقال : و الذي بعث محمداً بالحق لا أبرح حتى أحرقه بالنار فأتى بحطب فألهبت فيه النار فأحرقه [باب (66) (43/20) ]
- خامساً : القياس على تحريق اللوطية بجامع أن كلتا العقوبتين مثلة جازت لمصلحة التنكيل . ذكره ابن القيم في الطرق الحكمية : " أن أبي بكر حرق اللوطية و خالد بن الوليد و ابن الزبير ثم حرقهم هشام بن عبد الملك (ص 21)
و قد أخرج البيهقي في حد اللواط حديثاً مرسلاً : "أنه اجتمع رأي أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – على أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد يأمره بذلك" [ ح (16805 ) ] و قد ضعفه ابن حجر .
و قال ابن القيم : " قال أصحاب أحمد إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك " [ بدائع الفوائد ( 694 /3 ) ]
- سادسا : لما جاز التحريق في أرض العدو و قطع الشجر و الثمر بقصد النكاية و هي أموال محترمة شرعا و قد يكون مآلها إلى غنيمة المسلمين جازمن باب أولى التمثيل بقتلى الكفار حيث لا حرمة لهم و لا كرامة. قال الترمذي في السنن :" باب في التحريق و التخريب : النكاية بالعدو مقصد شرعي لذا قال الشافعي لا بأس بالتحريق في أرض العدو و قطع الأشجار و الثمار ، و قال أحمد : قد تكون في مواضع لا يجدون منه بدًا فأما العبث فلا تحرق . و قال إسحاق : التحريق سنة إذا كان أنكى فيهم "
و مما تقدم نخلص لما يأتي :
1. أن التنكيل بالأعداء وكسر شوكتهم وإلقاء الرعب في نفوسهم و طمأنينة قلوب المؤمنين مقاصد شرعية معتبرة إن كان التمثيل في القتل مظنة لتحقيق واحد منها فهو جائز شرعًا .
2. ثبوت التمثيل عن الصحابة لاسيما عن اثنين من أبرز قواده – صلى الله عليه و سلم - : صاحب الراية الذي يحبه الله و رسوله ، و سيف الله المسلول مع ما كان عليه نبينا – صلى الله عليه و سلم – من تعاهد لقواده بالإرشاد و حرص على تعليمهم ما يتعلق بأمور الجهاد ، وفي هذا قال البخاري : باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث و وصيته إياهم بآداب الغزو و غيرها .
أقول ثبوت ذلك من خالد و علي فيه دلالة قوية على مشروعيته إن اقتضت المصلحة .
3. ينبغي حمل النصوص الثابتة عن أصحاب النبي – صلى اله عليه و سلم – في التمثيل بالقتل حيث لا يكون معادلة بالمثل على أنهم فعلوه باعتبار مصلحة شرعية إذ هم – رضي الله عنهم – أبعد الناس و أنزههم عن العبث و العدوان
4. إنكار عمر على خالد فعله و إن كان ظاهره إن عمر يرى التحريم إلا انه لا دلالة قاطعة في ذلك إذ قد يكون إنكارا لفعله
5. تحريق اللوطية عقوبة لا نص فيها فيكون داخل من عموم النهي عن المثلة فالقول بجوازه دليل ظاهر على جواز المثلة لمصلحة التنكيل .
6. قياس التمثيل بالكفار على تحريق الثمار و الأشجار قياس أولوي حيث لا حرمة للكافر المحارب و لا كرامة .
** خلاصة القول :
· أولاً- يجوز التمثيل بالكفار من جهتين :-
- ـ الجهة الأولى : إذا كان معاملة بالمثل و هذا يتحقق باستخدام العدو الأسلحة غير التقليدية المحرمة دوليا و التي من شأنها التمثيل بالأحياء و الأموات و أعظم من هذا جرمًا تشويه الأجنة في أرحام أمهاتهم و أي مثلة أعظم من هذه و أي إفسادٍ في الأرض أكبر منه و لا حول و لا قوة إلا بالله .
ـ الجهة الثانية : إذا كان التمثيل بقتلى الكفار لمصلحة شرعية معتبرة بأن كان وسيلة للضغط في تحقيق مصالح أو دفع مفاسد أو كان أداة للمخالفة بين صفوف العدو أو إلقاء الرعب في قلوبهم أو شفاءً و طمأنينة لقلوب المجاهدين كما لو كان المقتول من صناديدهم أو قادتهم .
· ثانيًا : أن تقدير المصلحة الشرعية و اعتبارها في التمثيل بقتلى الكفار إنما يكون لأصحاب الشأن من قادة المجاهدين و ليس لأفرادهم .
· ثالثًا : ينبغي على المجاهدين التنزه عن التمثيل في القتل حيث يكون عبثًا وعدوانا وكذا في حال انتفاء المصلحة بمعاملتهم بالمثل و الأمر كما تقدم راجع إلى تقدير قادة الجهاد – حفظهم الله - .
· رابعًا : إذا كان التمثيل بالعدو وسيلة فعالة تصب في مصلحة المجاهدين ، فينبغي على قادة المجاهدين عدم التورع أو التردد في استخدامها لاسيما في ظل التغطية الفضائية و الحضور الإعلامي و الذي يجب استغلاله بكل الامكانات المتاحة إلا أن هذا كله ينبغي أن يكون في نطاق الحكمة .
و سبحان ربك رب العزة عما يصفون
و سلام على المرسلين
و الحمد لله رب العالمينالكاتب: عمر الشهابي التاريخ: 01/01/2007