دماء المسلمين في سوريا والسقوط الأخلاقي للعالم

 

دماء المسلمين في سوريا والسقوط الأخلاقي للعالم

الحمد لله الذي اصطفى من عباده شهداء حقق بهم الإيمان فأقام بهم الحجة على خلقه، وأبان بهم عن صراطه المستقيم، وزلزل بهم عروش الطغاة، وأزال بهم دولة الظالمين، قال الله تعالى: (إن يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) ، والصلاة والسلام على رسوله الكريم أسوة المجاهدين وإمام المتقين، القائل صلوات ربي وسلامه عليه:"اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" ، والقائل صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره" ، والقائل صلى الله عليه وسلم:"لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" وفي رواية:"وهم بالشام"، وبعد؛
فإن دماء المسلمين كل المسلمين غالية غالية، وإنا حين نتكلم عن دماء المسلمين في سوريا اليوم فليس تفضيلاً لدماء بعض المسلمين على بعض، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلمون تتكافأ دماؤهم" ، وإنما نتكلم عن تجلي حزمة من ممارسات السقوط الأخلاقي على مستوى العالم أجمع حيث جعلوا من الدماء المعصومة سلعةً تساوم بها شتى أنواع الدعارات العقدية والفكرية والسياسية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، ولو أن ما يصيب الدماء المعصومة في سوريا اليوم أصاب جزءٌ منه بعض الحيوانات لأقامت منظمات حقوق الحيوان والدول الديمقراطية الدنيا لأجلها، أما وأن الدماء مسلمة، أما وأن الدماء يستبيحها زمرة من الباطنية الحشاشين، أما وأن الدماء تسفك على عتبات جبل صهيون، أما وأن نصرة هذه الدماء قد يقض مضاجع بني صهيون، فلا قامت الدنيا ولا قعدت، إذ هي – والحال كذلك – دماءٌ رخيصةٌ...
وليس مستغرباً من دول العالم في الشرق والغرب اليوم أن تتخذ مواقفها من هذه الدماء وفق منظومة الأمن الصهيونية، كما أنه ليس مستغرباً أن تتصرف هذه الدول "الديمقراطية" بأسلوبها البراغماتي الرخيص محاكيةً منظومة القيم الديمقراطية التي عبرت عنها المجرمة الصهيونية تسيبي ليفني – رئيسة الوزراء السابقة للكيان الصهيوني الغاصب- وهي تُنَظِّر للثورات العربية وتوجه آليات صنع القرار الغربي في سعيه الدؤوب لاستثمار حالة الحراك الشعبي العربي- حيث تؤكد على أن: الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم انتخابي بل هي منظومة مبادئ ديمقراطية تقوم على نبذ العنف وتبني العيش المشترك والحرية والمساواة وإتاحة الفرص، وإن إهمال هذه القيم الديمقراطية سيؤدي إلى ارتهان العملية الديمقراطية في يد جماعات تستغل نظام الحكم الانتخابي لترويج مبادئ غير ديمقراطية. وتؤكد قائلة:"إن إسرائيل ليست مجرد مراقب لهذه التطورات،وإن اتجاه هذه التطورات سيؤثر بشكل مباشر على إمكانية عيش إسرائيل في المنطقة بأمان" . نعم، ليس من المستغرب إذاً أن نجد في تعامل العالم عموماً وعملاء الغرب الصهيوني في الشرق الأوسط خصوصاً هذا التباين الصارخ بين موقفهم تجاه بعض الثورات العربية من جهة، وموقفهم من الحالة السورية من جهةٍ أخرى، ذلك أن منظومة القيم الديمقراطية التي يروج لها المحور الصهيوصليبي ونظام الحكم "الديمقراطي" الذي يطمح إليه الحراك الشعبي العربي هما في الحقيقة متناقضان لا يجتمعان في الواقع السوري؛ فمنظومة تسيبي ليفني هي منظومة الأمن الإسرائيلي التي يقض مضجعها زوال الحراسة الباطنية النصيرية مدعومة بالإمبراطورية الفارسية المجوسية الجديدة، ويقض مضجعها قيام نظام حكم "ديمقراطي" يفضي -رغم منطلقاته العلمانية- إلى نهضة إسلامية شاملة تعني بالضرورة زوال إسرائيل وزوال كل الطفيليات والفئران التي تقتات من زبالات إسرائيل.
وفي الوقت الذي تتفطر فيه قلوبنا ألماً لمصاب إخواننا في الشام المحروسة بإذن الله، لنوقن أن شدة التمحيص هذه ما هي إلا مؤشر غلاء الثمرة وسمو الغاية، ذلك أن العبد إذا وفى شروط بيعته مع الله عز وجل وأرخص الدم والمال في سبيل الله تعالى فقد ربح البيع ما سلمت النية، وقد ربحت التجارة ما لم تشب العمل محبطاتٌ ندعو الله السلامة منها، وإن حسن الظن بالله تعالى ألا تضيع هذه الدماء الزكية هدراً، ووالله لو أن ثمن هذه الدماء الزكية لم يكن سوى تجلية الحقائق وتبديد الأباطيل والشبهات لكان البيع رابحاً والتجارة موفقة، وأنا أختصر جملةً مهمة من هذه الأرباح فيما يلي:
أولاً: انهيار المشروع المجوسي الصفوي في عمقه الاستراتيجي في بلاد الشام: إن من رأى استفحال الخطر المجوسي الصفوي في سوريا خصوصاً بعد حرب تموز 2006 ثم رأى شعب سوريا اليوم وقد كشف الله تعالى عن بصيرته وأدرك حجم الخديعة والكذب والتضليل الذي لعبته المنظومة المجوسية – النصيرية – الرافضية عبر محور إيران – سوريا – لبنان ليدرك أن رايات حزب اللات التي ارتفعت فوق كل بيت في سوريا منذ سنوات ما كانت لتستقر – بإذن الله - تحت أقدام الموحدين المؤمنين في سوريا اليوم لولا هذه الثورة المباركة، وإن حقيقة انهيار المشروع المجوسي الصفوي لا تحكيه إلا حالة الهلع والتخبط التي تعيشها دوائر القرار الفارسي وأذرعه الممتدة في بلاد الشام.
ثانياً: تعرية المشروع الأمريكي الجديد في المنطقة: لقد كشفت الثورة السورية زيف وبطلان دعوى تصدير الديمقراطية الأمريكية محبةً للخير ورغبةً في أن ينعم الشرق الأوسط وغيره برغد العيش في ظل الديمقراطية المصدرة أمريكياً والمعلبة في قرارات الأمم المتحدة تارة، والمتسترة بقرارات الجامعة العربية تارة، والمدعومة من حلف الناتو تارة أخرى؛ نعم لقد انكشف ذلك كله حين وجدت كل دواعي نصرة هذه الثورة مرةً واحدة وتخلفت عنها كل وسائل الدعم التي تقدمت فيما سلف من الثورات مرةً واحدة! لقد اجتمع في الحالة السورية نظام حكم استبدادي فاسد كما الحالة التونسية والمصرية، وافتلات جيش همجي على دماء الناس وأعراضها وأموالها كما في الحالة الليبية، وتحريك الذراع الفارسية المجوسية كما في الحالة البحرينية، والتهديدات "الإرهابية الإسلامية" بهجمات انتحارية في المدن الغربية على لسان مفتي الهوى الهاوي بدر الدين حسون لا أحسن الله عاقبته، ومع اجتماع هذه الدواعي كلها لم تقم أمريكا بشيء يذكر – ولله الحمد – حتى يفتضح الله أمرها، وحتى يدرك المخدوعون أن تصدير أمريكا للنظم الديمقراطية الحديثة ليس إلا مناورةً تكتيكيةً جديدةً لإستراتيجية أمريكا الأصيلة في قمع المد الحضاري الإسلامي في مهده الجغرافي التاريخي، ولا يخفى أن هذه المنظومة الجديدة نتيجة حتمية لفشل الأسلوب القديم القائم على تسليط أنظمة حكم استبدادية قمعية على الشعوب المسلمة وتعزيز ذلك بحلقات متكررة من الغزو العسكري الصريح كما حدث في الجزيرة العربية وأفغانستان والعراق، والمقصود أن يتعلم المسلمون أن الدعم الأمريكي الظاهر للثورات الديمقراطية ليس حباً فيها ولا إرادةً لحقيقتها وإنما هو دعم لمنظومة اختراق تكتيكية أمريكية جديدة تدور حول نفس المنظومة القديمة للمصالح الصهيوصليبية في المنطقة، فليأخذ المسلمون حذرهم وليدركوا أن تفاوت التصرفات وردود الأفعال مع اتحاد الدواعي المحركة لا بد له من مرجح ما وهو المقصود الحقيقي للدعم الأمريكي لهذه التحركات الشعبية، وإن دور الثورة السورية في كشف هذه المنظومة كبير جداً بسبب تلازم المصلحة العليا للصهاينة مع سلامة نظام الحراسة الباطني للثغور الإسرائيلية بل وتلازم هذه المصلحة مع الأدوار المنوطة بدول المنطقة لا سيما الجزيرة العربية التي أظهرت في الحالة الليبية درجةً غير مسبوقة من الحراك السياسي العسكري نصرة للحق والمظلومين زعموا، ولقد أظهرت الثورة السورية أن لهذه الدول ممثلة في مجلس التعاون الخليجي خصوصاً والجامعة العربية عموماً أكبر نصيب من قوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) كما سنبين في الدرس الثالث من دروس الثورة السورية وهو:
ثالثاً: هتك ستر الأنظمة العربية المنافقة في المنطقة: قال الله تعالى حاكياً عن بني إسرائيل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم تَظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تُفادوهم وهو محرَّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما الله بغافلٍ عما تعملون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنصرون) ؛ هكذا أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على حقن الدماء المحرَّمة فأبوا إلا أن ينقضوا الميثاق، ويستحلوا الدم الحرام، ويظاهروا الأعداء من الكفار على أبناء ملتهم فيتعاونوا معهم على قتل مؤمني بني إسرائيل وتهجيرهم من ديارهم، ثم يحاولون ستر سوآتهم بمناوراتٍ باهتةٍ رخيصة بعدما تضع الحرب أوزارها فيسعون في فكاك أسراهم بدعوى أنهم يقيمون الدين، في حين أنهم الذين كانوا يسعون في نقض عراه وانتهاك حرماته والتعاون مع العدو الكافر على ذلك كله، فكان تحقيق الأمر لديهم أن تحريمهم الحرام وتحليلهم الحلال إنما يقوم على منهجية الهوى، فكان عنوان منهجهم هذا كما فضحهم القرآن الكريم (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وكان الجزاء الوفاق من الله عز وجل الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
وإن تكشف هذا الدور مهم جداً في المرحلة القادمة لأن هذه الدول -وأعني خصوصاً دول الخليج العربي- تمثل اليوم الأنموذج الناجح لامتصاص تيارات الغضب الإسلامي وتجفيف جذور الجهاد الإسلامي العالمي من خلال إغراق الشعوب في حالةٍ ماديةٍ رخيصة من ترف العيش وسطحية الاهتمامات مع تمييع منهجي لكل مفاهيم الدين من خلال صهرها في بوتقة تعايش وعمران حضاري مدني مادي تقام فيه أغلى مواخير العالم ويكتب على بابها "هذا من فضل ربي" تعبيراً عن المزواجة البراغماتية الموهومة ما بين مواكبة التقدم الحضاري والحفاظ على التراث الإسلامي، أما شرائح المجتمع التي لا يزال يقض مضجعها واجب إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلقد تم التعامل معها من خلال التدجين المنهجي الذي يقوم على أساس تفويض هذه المسائل إلى ولاة الأمور! وإن المتأمل في حال الشعوب المسلمة في الجزيرة العربية ليدرك أبعاد الخطر الحقيقية للتكتيك الأمريكي الجديد في العالم الإسلامي، وليدرك أن الجزيرة العربية هي المؤهلة – بعد نجاح الثورة السورية إن شاء الله – إلى احتضان ثورة إسلامية تنفجر فيها كل طاقات الأمة الإسلامية لتضيء عالماً مظلماً يعطل الكتاب والسنة، ويعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعطل جهاد الدفع وجهاد الطلب، ولكن هذه الثورة مرهونة بوعي شعبي يتنبه فيه من الشهوات الملهيات وتحرك فعال للعلماء الربانيين تزال به الشبهات وتطابق فيه أسماء الدين وأحكامه مع مسمياتها الصحيحة، وهي ثورة آتية آتية لا محالة.
رابعاً: سقوط المنظومة الحضارية للنظام العالمي الجديد وحاجة العالم إلى مشروع إنقاذ إسلامي عالمي: وهذه هي الفائدة الكبرى بل هي اليوم حجة الله تعالى على عباده المسلمين في الأرض قاطبة، حيث أظهر لهم بالوقائع العملية أن منظومة القيم الحضارية الغربية الرأسمالية التي يلهث وراءها العالم الإسلامي وغيره من أجل تحقيق العيش الرغيد والحياة الإنسانية الكريمة هي منظومة رخيصة ساقطة أخلاقياً لا تملك مقومات البقاء فضلاً عن أن تملك مقومات تحولها إلى دعوةٍ عالمية. إن العالم اليوم قد سقط أخلاقياً وها هو ينهار حضارياً مع تداعي أركان النظام الربوي الاقتصادي العالمي، ومع تحول العالم بأسره إلى مكان بغيض نكد يعج بالضنك والاضطراب النفسي الروحي، ونحن نقول بكل عز وافتخار وثقة إننا نملك الحل من خلال دعوةٍ إسلامية عالمية، وإن مضي الثورة السورية في طريقها بإذن الله كفيلٌ بانتشارها في بلاد الشام أجمع وإني أرى تحرير القدس وزوال دولة إسرائيل قد اقترب واقترب معه دق الإسفين الأخير في جسد الإمبراطورية الصهيوصليبية، فاتحاً الباب على مصراعيه لدعوةٍ إسلامية عالمية تملأ العالم عدلاً وإحساناً بعد أن امتلأ ظلماً وطغياناً إلى الحد الذي وجد فيه من يقول في القرن الواحد والعشرين للميلاد : أنا ربكم الأعلى، فوالله ثم والله ليأخذنه الله نكال الآخرة والأولى...
من أجل هذا ومن أجل المزيد القادم نقف اليوم بإجلال وإكبار شديدين أمام سيل الدماء الزكية في سوريا ونحن نتضرع إلى الله تعالى أن يوفقهم إلى أحسن النوايا كما وفقهم إلى أحسن الأفعال، نقف لنقول لهم: شكراً لكم، شكراً لكل طفلٍ علمنا معنى الرجولة، وشكراً لكل أمٍ علمتنا معنى التربية، وشكراً لكل رجلٍ علمنا معنى التضحية، وشكراً لكل شيخٍ علمنا معنى الثبات، وشكراً لكل عالمٍ قال كلمة حق فعلمنا معنى العلم، شكراً لكم جميعاً فلقد أديتم الشهادة على وجهها، ولم يبق إلا أن يصدر حكم الجبار بين المظلوم والظالم فينتصر لخيرهما ويقصم ظهر شرهما؛ اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم...
وكتب/
وسيم فتح الله


الكاتب: د.وسيم فتح الله
التاريخ: 12/12/2011