هكذا علموني الحساب

 

المختصر / عليّ في البداية أن أوضح ثلاث نقاط باختصار شديد:

1 ـ حين أصر على تعريفي بالفلاح، فذلك لتنبيه القيادات السياسية العربية، بأن الثورة التكنولوجية في عالم الاتصالات، قد نزلت بثروة معلوماتية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، إلى أضعف طبقات المجتمع، لتوسع إمكاناته المعرفية، ويرقى بفضل أدواتها وعيه بما يدور حوله في العالم.

2 ـ لست هنا بمعرض الدفاع عن حركات المقاومة الفلسطينية، لأنها من ناحية هي في غنى عني ومن ناحية أخرى أرى في ذلك شرفا لا يتأتى لأمثالي بلوغه.

3 ـ لست كذلك في موقع التهجم على السيد حسام زكي، الناطق باسم الخارجية المصرية، ولولا أنه كذلك لما ذكر اسمه في مقال لي ترفعا مني وتعففا، فواقع الحال الذي تعيشه الأمة، وخاصة قلبها الدامي فلسطين أرضا وشعبا، يفرض على كل عاقل منا إذا تناول شأنه، أن يرقى بجد وصدق إلى مستواه. وهنا أقرر بكل أسف أن انهار سقف منظومة القيم الأخلاقية لدى النظام الرسمي العربي، لا يعني بالضرورة أنه وقع على سائر الأمة.

في ليلة 6/1 استضاف برنامج البيت بيتك في قناة 'المصرية'، الناطق باسم الخارجية المصرية رفقة السفير محمد بسيوني رئيس لجنة الشؤون العربية والخارجية بمجلس الشورى، لن أرد على الأخير الذي أكد أن فتح معبر رفح بشكل دائم وطبيعي يعني إضفاء الشرعية على النظام القائم في قطاع غزة، يعني طبعا حماس، وهذا لن تقوم به مصر أبدا؛ وهذا الطرح لم يتفضل به في مقاله بـ'الأهرام' 30/12/2009، حيث اكتفى بتعليل بناء الجدار الفولاذي بأنه منعا لتسلل عناصر القاعدة من غزة ـ ولما لا إسرائيل!- حسب تعريفه، إلى مصر، وعليه يجب الحفاظ على الأمن القومي ؛ لن أرد لأنني سأشعر بسقوط شاقولي حر ومفزع، وإلا كيف يصدر كلام كهذا عن سفير كان معتمدا لدى نظام إرهابي مجرم لقيط (إسرائيل) محتل عنصري، لا يعرف حدودا ولا دولة له وآخر ما صدر فيه تقرير غولدستون الذي يجرم قياداته، ويزعم أنه لن يعترف بشرعية حماس المنتخبة، ألا يعد هذا تدخلا سافرا في شؤون شعب اختار بحرية من يمثله؟ ثم يدفعون بالقول أنهم أسقطوا الشرعية عن حماس بحجة ما يصفونه بالانقلاب، عليهم إذن أن يتبرأوا من الانقلاب الذي قام به جمال عبد الناصر، وليعتبروا نظامه وما ترتب عنه غير شرعي لذات السبب، وعليهم أن يغلقوا الحدود مع ليبيا لأن قائدها كذلك قام بانقلاب غير شرعي وكذلك السودان، إن وصف الانقلاب بغير الشرعي (مجاراة لهم) جريمته لن تسقط بالتقادم، وأولها النظام المصري بعينه. ثم بأي صفة يستضيفون ممثلي حركات المقاومة ويفاوضونهم،؟ بصفتهم مواطنين عاديين بسطاء! فليلقوا عليهم القبض وليزجوا بهم في السجون بحجة أنهم انقلابيون؟ أي سفه هذا وضحالة تفكير.

أعود للناطق باسم الخارجية، الذي كشف في هذا اللقاء أسرارا مذهلة وأرقاما تدعو أي عاقل للتأمل في مضامينها، بأسلوبه المتميز برائحة الكبر المصاحبة لمخارج الحروف، والأسارير المعبرة بدقة عن روح التعالي الأجوف، يعطي منشط اللقاء سرا غاية في الخطورة والأهمية، مستدلا على ذلك بأنه لأول مرة يعلن عليه في وسيلة إعلامية؛ يقول : لأول مرة أعلن عن هذا، خرج من قطاع غزة عام 2009 ما تعداده 75 ألف فلسطيني، وزد على ذلك دخلت القطاع 5000 طن من المساعدات الإنسانية في ذات العام مرت عبر 30 قافلة. هذا ملخص عرضه، جحظت أعين الحاضرين من هذه الأرقام الفلكية، وصيغ الكلام في قالب الترفع عن ذكر ما يقدمه النظام المصري لأشقائه في غزة حتى لا يعد منا وإنما هو الواجب القومي الذي نهض به النظام دون تغطيات إعلامية، ومع كل هذا يتحملون ما يكال لهم من الجهلة أمثالي، الذين يتصيدون أي شيء ولو كذبا وبهتانا سعيا للشهرة والأضواء على حساب مصر، كما فعل جورج غالاوي ورفاقه 'الصيع' على حد وصف السفير الأول. و بما أنني رجل فلاح سطحي التفكير، ولا يملك العلاقات إياها ليعرف من المصادر المعنية دلالات تلكم الأرقام الضخمة، وحتى أكون أكثر موضوعية وواقعية، لم أجد من سبيل إلا الذهاب إلى محطة الحافلات بقريتي الصغيرة، والتي تعداد سكانها 15 ألف (يعني 01' من عدد سكان غزة)، وأسأل مراقب المحطة عن حركة التنقل إلى المدينة المجاورة على بعد 14 كلم، فأعطاني معدل 500 يتنقلون يوميا، يزيد وينقص العدد قليلا، فعدت لأرقام سعادته، وقسمت 75 ألف على أيام السنة، فوقع أرضا عدد 205 أو شيئا من هذا القبيل، لا يحتاج الأمر هنا إلى تعليق.

بعد هذا يأتي الرقم الثاني 5000 طن من المساعدات، والتي ينضوي تحت عنوانها كل الاحتياجات من دواء ومواد غذائية، واعتبرته يشير إلى الدقيق فقط، يعني 5 ألاف طن دقيق، قسمت الرقم الهرم على عدد سكان القطاع، فانتهى الهرم إلى حصيلة تساوي 3 كلغ للفرد على امتداد العام، طبعا سيسارع العارفون إلى القول بأن الانروا تتكفل بـ 800 ألف لا تدخلها في هذا الحساب، طيب بقي 700 ألف، النتيجة7.1 كلغ، يعني ببساطة شديدة 20غ يوميا للفرد، ذهبت أحمل على كتفي هذا الرقم المصري الضخم إلى المدينة المجاورة - أتعبتموني يا أهل غزة- التي يقطنها 150 ألف نسمة، لأسأل أحد تجار الدقيق، وهو واحد من مجموع الخمسين الذي يمارسون تجارة الدقيق(الجملة)، فأحاطني علما بأنه يجلب بمفرده 2500 طن سنويا، يعني رقم سعادته لا يتجاوز رقم تاجرين اثنين في مدينتي التي تمثل عشر سكان غزة، عدت أدراجي إلى مزرعتي كسير الخاطر، وحان وقت الغداء الذي عادة أقدم فيه الأكل كذلك للدجاج، وما بلغت يميني المكيال حتى كاد يغمى عليّ، إن الكيل 200غ للدجاجة الواحدة يوميا، يعني عشرة أضعاف ما يسمح به نظام سعادته لأم في غزة أو أخت أو بنت أو أب أو أخ أو ابن أو جد أو جدة أو حفيد أو حفيدة أو.. أو.. وأوووه زفرة أرسلها حارقة إلى أن أقف بين يدي الله؛ لا وجود هنا للقياس طبعا، ولا داعي للي المعاني حتى تركب عوجا على الكلمات، وأترك للقارئ إن شاء أن يفترض الرقم يعني الدواء أو أي شيء آخر وله أن يقرأه كيفما يشاء أعترف لكم أنني تعبت حقا.

أخيرا، بالنسبة لي هذا جزء من الهم الذي يؤرقني، بل الجزء الأهم والأثقل، لكن في ثنايا هذه المسألة يتخفى استفهام مشروع وجاد: هل هؤلاء الدبلوماسيون المصريون يعون ما يقولون؟ يعني هل هم واعون حقا لما يقولونه على الفضائيات وكل العالم يراهم ويسمعهم؟ لا شك لدي أنهم من بني البشر هذا صحيح كما أنه لا شك لدي أنهم عقلاء، لكن ألا يستحون من الافتخار بتمرير 20 غ من الدقيق لكل فلسطيني يوميا؟ إن كانوا لا يفقهون ما يقولون فتلكم مصيبة مصر، وإن كانوا يعلمون، فلا شك لدي أن المصيبة أعظم.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.


الكاتب: أبو براءة
التاريخ: 10/01/2010