96 عاما على ميلاد إمام المحققين العرب محمود محمد شاكر
القاهرة - العرب اونلاين - وكالات: بين أول فبراير 1909، و7 أغسطس عام 1997، عاش إمام المحققين محمود محمد شاكر "أبو فهر" عمرا حافلا بالعمل والعلم، بالثقافة والفن، فى سياج عربى أصيل ومبادئ راسخة لم يحد عنها أبدا، لدرجة أن خلافه مع أستاذه طه حسين دفعه لهجر الجامعة، كما أن معركته مع لويس عوض حول عقيدة أبى العلاء المعرى قادته إلى السجن، وفى كل الأحوال فقد أوقف حياته على الدفاع عن اللغة العربية والثقافة العربية ضد دعاة التغريب والكارهين للعروبة.
عند موت مصطفى صادق الرافعى عام 1938 قال إمام المحققين محمود محمد شاكر: فرغ الرافعى - رحمه الله - من أمر الناس إلى خاصة نفسه، ولكن الناس لا يفرغون من أمر موتاهم، ولو فرغوا لكان التاريخ أكفانا تطوى على الرمم، لا أثوابا تلقى على الميت، لتنشره مرة أخرى حديثا يؤثر، وخبرا يروي، وعملا يتمثل .
خطوات البداية
ولد الشيخ محمود محمد شاكر بالإسكندرية فى الأول من فبراير عام 1909 "ليلة العاشر من المحرم 1327هـ" وكان والده الشيخ محمد شاكر من أسرة ابى علياء من أشراف جرجا بصعيد مصر، وينتهى نسبه إلى الإمام الحسين بن علي، وتتلمذ والده على يد الشيخ محمد عبده، وعمل بعد تخرجه فى الأزهر الشريف قاضيا فى السودان، ثم شيخا لعلماء الإسكندرية، ثم وكيلا للجامع الأزهر، وقد أثر فى شخصية ولديه أحمد ومحمود، إلى أن توفى وابنه الأصغر محمود فى العشرين من العمر، فكان تأثير الأخ الأكبر على شيخنا أكثر وضوحا، خاصة أن أحمد شاكر من المحدثين الكبار، وله أكثر من ثلاثين كتابا بين مؤلف ومحقق أهمها تيسيره لمسند الإمام أحمد، بإخراج أحاديثه وترقيمها وعمل فهارس متكاملة لها، وقد قال عنه شقيقه محمود محمد شاكر: أبليت شبابى وصدرا من كهولتي، وأخى يومئذ ركن من العلم باذخ، آوى إليه إذا حزبنى أمر، أوضاق عليّ مسلك .
فى هذا الجو ولد ونشأ محمود محمد شاكر، فنهل من العلم الكثير، وقبل أن يدخل الجامعة، قرأ كتاب الأغانى للأصفهانى كاملا، كما قرأ لسان العرب كله، وتفسير الطبرى وتاريخه، ودلائل الإعجاز للجرجاني، وأتيح له - أيضا أن يدرس اللغة العربية على يدى الشيخ سيد بن على المرصفي، أستاذ طه حسين، وصاحب كتاب "رغبة الآمل من كتاب الكامل" الذى يشرح كتاب الكامل للمبرد، وكتاب "أسرار الحماسة" وهو فى شرح ديوان الحماسة لأبى تمام.
أولى المواجهات
كان محمود شاكر فى السابعة عشرة من عمره، حينما اشتبك للمرة الأولى مع د. طه حسين، فقد فوجئ بعميد الأدب العربى يلقى محاضرته التى كونت فيما بعد كتاب "فى الشعر الجاهلي" على طلاب السنة الأولى بكلية الآداب، وكان من بينهم، فما كان من الفتى العاشق للشعر الجاهلى إلا أن واجه أستاذه بأن ما يقوله عن "المنهج" وعن "الشكل" شيء غامض، وأنه مخالف لما يقوله ديكارت، فما كان من طه حسين إلا أن أسكت تلميذه الذى لم يستطع مكاشفته بخواطره التى تتهم الأستاذ بالسطو على أفكار مرجليوث، ولم يغير رأيه، حتى بعدما اعترف مرجليوث بأن طه حسين توصل لنفس الآراء فى الشعر الجاهلى فى وقت واحد معه ولم يسط أى منهما على الآخر.
ومع رفض محمود شاكر لمنهج طه حسين فى النقد والبحث الأدبى اضطر إلى ترك الجامعة، بل وغادر مصر إلى الحجاز حيث أنشأ فى جدة مدرسة إبتدائية كان لها شأن فى التعليم السعودى الجديد وبعد عام واحد عاد إلى القاهرة مواصلا عزلته بعد الصدمة الأولي.
بعد ذلك كثر الكلام حول قراره باعتزال الجامعة والسفر، فلنستمع إلى كلامه هو: لم أجد لنفسى خلاصا إلا أن أرفض أكثر المناهج الأدبية والسياسية والإجتماعية والدينية التى كانت يومئند تطغى كالسيل الجارف يهدم السدود، ويقوض كل قائم فى نفسي، وفى فطرتي.. يومئذ طويت كل نفسى على عزيمة ماضية أن أبدأ وحيدا منفردا رحلة طويلة جدا وبعيدة جدا وشاقة جدا، رحلة بدأت بإعادة قراءة الشعر العربى كله، أو على الأصح ما وقع تحت يدى منه، واكتسبت بعض القدرات بلغة الشعر وبفن الشعر، ثم تدرجت وقرأت ما يقع تحت يدى من كتب أسلافنا، وما شئت بعد ذلك من أبواب العلم .
إذا تصورنا هذه الحالة الثقافية الخاصة جدا، فإننا لن نندهش لكلام الراحل شكرى عياد الذى كتب واصفا حادثة ترك محمود شاكر للجامعة بأنها كانت نقطة تحول فى تاريخنا الثقافى فقد قادته هذه الحادثة إلى منهجه فى التذوق والذى أثمر كتبا عديدة تزدان بها المكتبة العربية.
لم تكن تلك الحادثة هى المعركة الفكرية الوحيدة لمحمود شاكر، فقد كتب مجموعة مقالات للرد على كتاب طه حسين "مع المتنبي" اتهم فيها طه بالسطو على بلاشيد وهو نفس الإتهام الذى وجهه إلى عبد الوهاب عزام بعدما أصدر كتابه "ذكرى أبى الطيب المتنبى بعد ألف عام" وخاص معارك أخرى مع سلامة موسى ولويس عوض ودفعته هذه المعارك إلى مهاجمة سياسات قائمة فى الواقع المصرى فدخل السجن لمدة تسعة أشهر خلال عام 1959، ثم دخله عام 1965 ومكث هناك سنتين وأربعة أشهر، والغريب أنه دخل السجن مع الإخوان المسلمين برغم خلافه الشديد معهم، فقد كان متحمسا للثورة ولإنجازاتها، وكان موقفه من قضية الإصلاح الزراعى من أهم الخلافات مع الإخوان المسلمين الذين رأوا فى الاصلاح الزراعى اعتداءً على حق الملكية ومخالفة للشرع وبعد خروجه من السجن راح يواصل طريقه الذى اختاره قبل ثلاثين عاما، وظل قابضا على أفكاره مخلصا لرسالته حتى توفاه الله.
منهج التذوق
توصل الشيخ محمود شاكر إلى منهج خاص به أسماه "منهج التذوق"، وقد توصل له بعد مجاهدة ثلاثة عشر عاما فى القراءة والتحصيل، وقد وصفه د. شكرى عياد بأنه ليس نوعا من الإعجاب أو النفور بلا هدى أو دليل، بل هو قمة العلم كما رآه علماء البلاغة، وعلماء الحديث، فالتذوق وفق هذا المفهوم هو لب المنهج العربى الإسلامي، وقد طبق محمود شاكر هذا المنهج فى مؤلفاته ابتداء من كتابه عن المتنبي، أو فى تحقيقه لكتب التراث وأيضا فى معاركه الفكرية، وقد قاده هذا المنهج إلى نتائج خطيرة تخالف ما شاع أو أتفق عليه، فمثلا شاع عن المتنبى أنه لقب بذلك لإدعائه النبوة، لكن منهج محمود شاكر يثبت خطأ ذلك وأرجع اللقب إلى أن المتنبى فى صدر شبابه كان يكثر من ذكر الأنبياء فى شعره ويشبه حال غربته بحالهم. أما فى الجانب الفكرى فإن تطبيق منهج التذوق يتضح فى معركته مع لويس عوض، فقد رمى د. لويس عوض أبا العلاء المعرى فى دينه اعتمادا على رواية لأحد المؤرخين ملخصها أن أبا العلاء لقى راهبا بدير الفاروس باللاذقية، وكان الراهب ملما بالفلسفة فقال لأبى العلاء ما شككه فى دينه. وفى منهجه للرد على لويس عوض اتبع محمود محمد شاكر ما يلي:
1- أورد قائمة مختصرة عمن تتوفر تراجمهم لأبى العلاء المعرى بين أيدينا، وبعضهم عاصر المعرى مثل الثعالبى والخطيب البغدادى ولم يذكروا هذه الرواية فى تراجمهم له، كما أن آخرين أساءوا للمعرى مثل ابن الجوزى ولم يذكروا تلك الحادثة.
2- تتبع محمود محمد شاكر هذه القصة فأثبت أن أول من قال بها هو القفطي، الذى ولد بعد وفاة المعرى بمئة وعشرين عاما، وقال: إن أكثر الأخبار فى ترجمته للمعرى مسندة إلى راوٍ إلا هذه القصة وقارن بين القفطى وبين ياقوت الحموي، فذكر أن ياقوتا أورد فى ترجمته لأبى العلاء أخبارا كثيرة وياقوت والمعرى شابان كما أن ياقوت أعلم من القفطى بأخبار أهل الشام وكان يتتبع أخبار أبى العلاء وينقدها لكنه لم يذكر قصة دير الفاروس.
3- فى تذوقه لشعر أبى العلاء فى صدر شبابه "سقط الزند" وجد شاكر أن أبا العلاء قد اعتذر عما فيه من مدح لنفسه، وتاب مما فيه من إسناد صفات إلى الناس هى لله تعالى وحده، ولم يعتذر عن شكوك أثارها راهب دير الفاروس.
4- فى قراءته لمرثيتى أبى العلاء لوالديه تبين أن إصابة أبى العلاء بالعمى منذ طفولته جعلته موضع عطف واهتمام أبويه، فلا يمكن أن يتركاه يسافر صغيرا وحده، أومع صديق ليذهب إلى اللاذقية وخاصة أن بيت أبى العلاء بيت علم وفقه.
5- كانت اللاذقية بأيدى الروم وقت أبى العلاء وكتب رحالة نصرانى أنها كانت مكانا للمفاسد الخلقية، فلا يعقل أن يجهل أهل أبى العلاء ذلك.
6- فى تحليله للغة القفطى بين أن لغة الكتاب كله تختلف عن لغة هذه القصة مما يدل على أنها مدسوسة عليه.
وهكذا يتضح منهج العلامة المحقق الذى لم يكن يبغى إلا الحقيقة فاستحق احترام طلابها حتى وإن إختلفوا معه فى الرأي.
قالوا عنه
قال تلامذته ومعاصروه: إنه أعظم المحققين فى العصر الحديث، وإنه مجموعة من القيم النادرة والأصول الراسخة. موضحين أن قراءته كانت تتسم بصفة الموسوعية وإن اكتسب علمه العزيز بصبر ودأب وزهد فى الألقاب والرسميات.. كان محمود محمد شاكر فى نظرهم هو الأستاذ والمعلم والأخ والصديق.. ونحن فى السطور التالية نرصد ما قيل عن محمود شاكر فى مجموعة شهادات سجلها من سبقوا شاكر إلى الموت أو قالها من بقى من تلامذته ومريديه حتى الآن على قيد الحياة.
مجموعة قيم
محمود محمد شاكر كانت لديه مجموعة من القيم تجعلنا نعتز بالانتماء إليه، وهى معرفته المذهلة بالتراث حتى أننا لم نر رجلا يمتلك ناصية التراث مثله .. وهذا الأمر كان أحد أسباب الخلاف بينه وبين عميد الأدب العربى طه حسين، ومع معرفته الدقيقة بالتراث فلم يكن منغلقا، بل كان يعرف الجديد ويتابعه بقدر حبه للشعر القديم، ولم يكن يبخل بمحبته على الشعر الجديد وشعرائه أمثال صلاح عبد الصبور وغيره من المجيدين.
وقد امتاز الراحل محمود محمد شاكر بالشفافية التى وصلت إلى درجة عالية من الغوص فى النص لاستخراج ما لم يكن منطوقا من قبل.. وقد فعل ذلك مع المتنبى حينما قرأ قصائده وخرج بقصة الحب الفريدة التى جمعت المتنبى وخولة ومع كل هذه الصفات كان محمود شاكر جادا لايعرف المهادنة أو اللون الرمادي، فالإنسان فى حضرته إما من العلماء أو من الجهلاء وترتبط هذه القيمة عنده بالشجاعة فى صراحة العبارة التى لا تعرف الكنابة أو التورية، أى التى لا تعرف اللف أو الدوران.
جابر عصفور: أعظم المحققين
محمود محمد شاكر هو أعظم المحققين فى القرن العشرين، وأعماله هى النماذج الأكثر حجة فى مجال تحقيق التراث. وقد كان موقفه من آراء لويس عوض حول المعرى ناشئا عن وعى وفهم لأصول الثقافة والتراث العربي، ويمكن قول نفس الشيء عن موقفه من طه حسين ومعركته معه التى أدت إلى خروجه من الجامعة، وأعتقد أن المشكلة الأساسية لمحمود شاكر تكمن فى انسحابه من الجامعة، وعدم استمراره فى النضال والدفاع عن وجهة نظره، ولعل ذلك يرجع لمكانة عميد الأدب العربى وقتها، لذلك انسحب من الجامعة ليتفرغ للبحث فى عيون الثقافة العربية وتحقيق أهم آثارها وأعتقد أن منهجه فى التحقيق سوف يستمر العمل به والسير على نهجه لفترة طويلة، لأنه أخلص لهذا المجال وأنفق فيه الجهد والعمر غير منتظر لمكافأة، أو عرفان من أحد، فقد كان دافعه الوحيد هو عشقه للتراث العربى واللغة العربية.
جمال الغيطاني: قراءة موسوعية
اصطحبنى صديق إلى بيت الأستاذ محمود محمد شاكر فى مطلع صيف 1962 وكانت دهشتى كبيرة عندما دلفت إلى الشقة الكبيرة الوضيئة التى تشغل دورا بأكمله فى إحدى العمارات الواسعة، كانت مثل "دار العلم" التى قرأت عنها فى بغداد القديمة، تغطى الكتب جدرانها تماما منذ المدخل حتى باب الحمام، أيقنت أنى قد جئت إلى المكان المناسب.
كنت قد زرت كثيرا من أساتذتى الكبار فلم أجد أحدا منهم قد حول بيته إلى دار الكتب مثل هذا الأستاذ المتوقد المحاط بالهيبة وبعض الأسرار، فهو محقق شهير لكنه معتزل للحياة العامة. أخذت أدور بين الرفوف، هالنى هذا التنوع المذهل فى الكتب، كنت أعرف أنه سلفى محافظ، لكن أحدث دواوين الشعر الحر كما كنا نسميه حينئذ كانت هناك، روايات جديدة، ومطبوعات بيروتية وعراقية.
هل يعرف بوجود كل هذا الإنتاج ويقتنيه ويظل مع ذلك ما هو..؟ ألقيت نظره على المنضدة فوجدت جميع الصحف والمجلات الثقيلة والخفيفة، ليس عيبا إذن أن يقرأ الشيوخ الكواكب ويطالعوا أخبار الفن؟ لكن الحقيقة لم يكن شيخا أبدا، كان يلبس القميص والبنطلون مثلنا ويتحرك برشاقة ابن العشرين، وقد تجاوز الخمسين من عمره، لكن أبرز ما لفت نظرى فيه حينئذ كانت طريقته فى الكلام، شديد الثقة والاطمئنان واليقين بما يقول، نموذج العالم المحيط بكل شيء.
وأخذت بالتدريج أكتشف "دار العلم" هذه، تبينت أنها دار عربية أكثر منها مصرية، عرفت أن كثيرا من الأعمال الأكاديمية الباهرة قد تمت فى مطبخها وأن بعض الكشوف المهمة قد انبلجت فى أركانها وسرعان ما أدركت أنه ليس هناك كبير عند الأستاذ سوى العلم والحقيقة .. أخذت أتدرب على ممارسة التعامل فى المصادر الموسوعية الكبيرة والمتخصصة الصغيرة على يديه، أعمل "صبى محقق" ينبطح على الأرض أو يقفز على السلم إلى السطح لإحضار كتاب وتقليب صفحاته للتأكد من اسم أو تاريخ ضاق صدرى بسرعة من هذا الدور فتجاسرت على سؤال المعلم :
- هل تفنى عمرك فى خدمة المؤلفين القدماء، وأنت قادر على أن تكون مثلهم، تكتب أعمالك التى توقعها باسمك؟ فرد عليّ:
- اسكت، هذا ذنب من علموك فى الجامعة.
وكنت أدرك الثأر المتطرف المخلص الذى ينطلق منه الأستاذ، يظلم كثيرا من المستشرقين الذين حققوا أهم النصوص العربية قبل أن نعرفها، وأن التعميم مزلقة للخطأ الشديد وأن المنهج العلمى لا بد أن يصبح الفاصل بين الصحيح والخطأ، وأن تاريخ العلم هو تصويب مستمر للأخطاء.. لم أستطع يومها أن أقول للأستاذ كل هذا الكلام لكن يظل فى رقبتى دين له، فقد تعلمت من الاختلاف معه أن أصبح أقل يقينا وأخف حدة وأشد ثقة بحركة المعرفة الإنسانية فى نموها المبدع الخلاق.
صلاح فضل: معالم هادية
عرفت عالمنا الراحل الجليل قبل وفاته بما يقرب من نصف قرن، وقد ولدت هذه المعرفة إعجابا مكينا، وتقديرا وثيقا بالرغم من أننى لم أره شخصيا عبر هذه السنين غير مرة واحدة فى داره، ومرتين فى جامعة القاهرة فى مناسبتين علميتين، لكن قبل ذلك كانت هناك المعرفة الوثيقة بقلم وأدب الرجل عبر صفحات مجلة الرسالة.
وأعتقد أن سيرة الرجل ملأى بالمعالم الهادية المعبرة عن الخطوط البارزة فى حياته، وهذه المعالم هى ما سيبقى منه للأجيال، وقد سبق لى أن أجملتها فى سبعة معالم هادية هى باختصار:
- المعلم الأول يتمثل فى أن الطريق إلى تحديث الأدب العربى نصا ونقدا ينطلق من استيعابه فى موروثه، وتطويع المستحدث لخدمة هذا الموروث، لأن الجديد والتجديد لا يمكن أن يكون مفهوما ذا معنى إلا إذا نشأ من داخل ثقافة متكاملة متماسكة حية فى أنفس أهلها.
- المعلم الثاني: يتمثل فى اعتراف محمود شاكر بدور أساتذته العظام ومنهم الشيخ المرصفي.
- المعلم الثالث: يتمثل فى دور البيئة فى تكوين الأفراد، فقد نشأ أبو فهر فى بيئة علمية نادرة إذ كان والده الشيخ محمد شاكر عالما جليلا يزوره العلماء والأدباء وقد أتيح لمحمود شاكر وهو بعد صغير أن يلتقى بهم ويسمع منهم.
- المعلم الرابع: جرأته فى طلب الحق، فعندما كان طالبا فى الجامعة واختلف مع د. طه حسين فى آرائه حول الشعر الجاهلي، صارح بعض أساتذته وخاصة الإيطاليين، نلينو، وجويدى بأن أستاذه يردد أفكار مرجليوث المغلوطة، وقد وافقاه سرا على ذلك لكنهما راوغاه ولم يعلنا الحقيقة، فسقط فى نفس شاكر معنى الجامعة، لذا قرر أن يهجرها.
- المعلم الخامس: أن مصر وحدها هى التى وسعته، فحينما رحل عنها إلى الحجاز لم يغب لأكثر من عام وعاد إليها مع أول فرصة واتته.
- والمعلم السادس: مزدوج الدلالة، ويفسر حركة روحه وقلمه، ويرسم فى الوقت نفسه صورة واضحة الدلالة لعصر خلاق نفتقده، فما إن عاد الأستاذ الجليل من الحجاز حتى بدأ يكتب ويشارك فى هموم وطنه الثقافية على صفحات صحف مصر ومجلاتها، وتوثقت صلته بكبار المفكرين والمثقفين فى تلك الفترة من مصر وشتى أقطار العروبة، وربطته بهم أواصر الصداقة رغم الاختلاف فى الاتجاهات والأفكار.
- والمعلم السابع: هو غيرته المستنيرة على اللغة العربية وتوقيره الشديد لعظماء مبدعيها، وقد تجلى ذلك فى كل نتاجه، واكتفى منه بظاهرتين: كتابه عن المتنبي، ووقفته فى وجه عدوانية لويس عوض على التراث العربي.
الطاهر مكي: العزلة المأنوسة
رجل تحدى الألقاب والبرامج الدراسية الرسمية، واعتزل الناس وأبى أن يأخذ فيما هم آخذون فيه، بيد أنه تحدى الألقاب فى زمن الألقاب، وتحدى البرامج الدراسية ليكون هو نفسه برنامجا ذاتيا، تهفو إليه تلك البرامج، واعتزل الناس ليحج إليه الهافون، ثاوين إلى فيئه، وليكون مأنوسا فى عزلته الاختيارية المأهولة.. هو نمط من الرجال صعب، غير ميسور أن يتكرر فى زمن التوسط أو التشابه، وليست صعوبته من الضرب المدبب الشائك، بل هى صعوبة الجد ومرارته، دون تكلف وقطوب.
عبد اللطيف عبد الحليم: عاشق التراث
إن الشيخ محمود محمد شاكر كان عاشقا للتراث والتحقيق، رغم صعوبة هذا الاتجاه من الناحية العلمية وأقلها العائد المادي، ولذلك فقد قبل أن ينفق عمره راضيا فى تحقيق عيون التراث العربى متحريا فى ذلك اختيار المخطوطات ذات الثقل الثقافى والتى تحمل رسائل أدبية مؤثرة.
كما أنه يعد صاحب المنهج الأول فى مجال تحقيق التراث العربى والإسلامى الحديث. ويأتى كل محققى التراث العربى ضمن تلاميذه الذين فتح لهم بيته ومكتبته الضخمة. ومنحهم من وقته وخبرته الشيء الكثير دون مقابل، حيث كان يعيش زاهدا فى الدنيا، متفرغا تماما للبحث والتحقيق، فلم يكتف بمنجزاته الغزيرة فى مجال التحقيق فاتجه إلى دراسة الأدب وتأتى دراسته فى حياة المتنبى وشعره التى صدرت فى مجلدين كبيرين هى الدراسة الأكثر لمعانا وتأثيرا لكل المهتمين بدراسة الشعر العربي.
كما أن قصيدته "القوس العذراء" تعد فى حد ذاتها ملحمة فكرية ولذلك فقد جاء رحيله ليمثل خسارة كبيرة باعتباره عالما ودارسا وفنانا له العديد من التلاميذ النجباء داخل وخارج مصر .. ولا ننسى معاركه الفكرية مع طه حسين ثم لويس عوض، فقد رفض محمود شاكر ما قاله لويس عوض عن تأثر المعرى بالفكر اليوناني، وقد اعترف لويس عوض فى كتابه "أوراق العمر" بأن الشيخ شاكر واحد من أهم الباحثين والدارسين فى الأدب العربى والتراث العربي، وأنه لولا الحدة الشديدة التى واجهه الشيخ بها لأفاد بشكل كبير من آراء وأفكار شاكر .. نقلا عن العرب أولان لايــن