الرد على مؤتمرا لبحرين فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن فيصل الراجحي ..

 

في بيان «مُؤتمر البحرين» الأخير الُموصِي برفع مُقاطعة إحدى الشَّركات الدّنمركيّة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله ، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبِه ومَنْ والاه ، واتَّبع هُداه ، وبَعْدُ :

فقد اطَّلعتُ على بيان " المُؤتمر العالمي لنُصْرة النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" ، الصَّادرِ يوم أمس الثلاثاء 28 صفر 1427هـ ، وفيه التَّوصية باستثناء مُنتجات إحدى الشَّركات الدّنمركيَّة الكبرى مِن المقاطعة ، لإعلان هذه الشَّركة استنكارَها للرُّسوم وإدانتِها لها ، ورفضِها مُبرّرات ذلك .

وقد اشتمل هذا البيانُ على أُمورٍ مُخالفةٍ عِدَّة :

أحدها : أَنَّ هذا المؤتمر العالمي المزعوم لنُصْرة النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، غَيرُ مُخوَّلٍ إطلاقًا بالكلام عن المسلمين ولا عَنْ دُوَلِهم ، وليس مُخَوَّلاً بمُفاوضة الغَرْبِ بالاعتذار أو غَيرِه ، وليسوا كبارَ عُلماء المسلمين ، أَهْلِ الفقه والفتوى والعِلْمِ والدِّين .

وإِنَّما هم مجموعةٌ صدَّروا أنفسَهم مِن غَيرِ تصديرٍ ، وأقاموها مِن غَيرِ مُقِيمٍ ، فقراراتُهم - وإِنْ سَمَّوا أنفسَهم مُؤتمرًا عالميًّا - لا تَعْدُو أنفسَهم ، ولا تُلْزِمُ سواهم .

الثّاني : أَنَّ غاية هذا المؤتمر باعتبار ما صَدَرَ عنه ، هو خُذلانُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نُصرتُه ، فحين عَجِزُوا عَنْ فِعْلِ أَيِّ شَيْءٍ مُفِيْدٍ مُؤَثِّرٍ في هذه القضيَّة ، انصرفوا مُلتوين على إنجازِ المؤمنين - وهو المقاطعة - لِيُوهِنُوهُ ويَنقُضوه ! مع كَونِ الُمقاطعة أَصْلاً لم تكن بدعوتِهم ! بل كان لِبَعْضِ أعضاءِ مُؤتمرهم مَوْقِفٌ مُريبٌ منها !

الثَّالث : أَنَّ مُقاطعة المسلمين لمنتجات الشَّركات الدّنمركيَّة ، لم يَكُنْ عقوبةً منهم لها ، وإِنَّما كان الُمرادُ أَعْلا مِن ذلك وأَجَلّ ، عقوبةً لحكومتِهم الباغية ، وضَغْطًا عليها لِتُذْعِنَ للحَقِّ ، وتعاقبَ الُجناةَ ، بَعْدَ مُكابرتِها واستمرارِها في غَيِّها ، وعَدَمِ رجوعِها إلى الَحقِّ والصَّواب .

فتوصية أصحاب البيان برَفْعِ مُقاطعة هذه الشَّركة الكُبرَى ، هو لعَدَمِ إدراكِهم أَصْلاً مُرادَ المسلمين منها ! وظَنِّهم أَنَّ الُمستهدفَ هو الشَّركات بعينِها !

الرَّابع : أَنَّ أفعال الحكومة الدّنمركيَّة حَتَّى اليوم أفعالٌ قبيحةٌ ، تَدُلُّ على سَفَهٍ واستمرارٍ في الغَيِّ والُمكابرة ، بل حَتَّى الاعتذار البارد والاعتراف بالذَّنب - وهو غَيرُ كَافٍ ولا مُسقطٍ لَحقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لم يحصلْ منهم ! وإِنَّما سَعَوا لتأييدِ الدُّوَلِ الأوروبيَّةِ لموقفِهم ومُساندتِهم ، وقد حَصَلَ .

فهذا كُلُّهُ يُوجِبُ مزيدًا مِن الَحزْمِ والعَزْمِ على إمضاءِ الُمقاطعةِ ، لا التَّخذيل عنها ، وفَتْح الأبواب لإِضعافِها .

الخامس : أَنَّ الشَّركة المذكورة حين استنكرتِ الرُّسومَ وأدانتْها بَعْدَ شهورٍ كثيرةٍ مِن نشر تلك الصَّحيفةِ الدّنمركيَّة للرُّسوم ، وبَعْدَ حُصولِ الُمقاطعة واتِّساعِها ، وتضرُّرِها هي منها : لم يكن لمزيدِ خُلُقٍ فيها ومزيدِ دِيْنٍ ! وإِنَّما مُراعاةً لِـمَا خسروه مِن مبالغَ كبيرةٍ لم تكن في حسبانِهم ! فحقيقة شجبها واستنكارها ، هو لِـمَا خسرتْهُ وتكبَّدتْهُ !

السَّادس : أَنَّ في حقيقةِ ما تضمَّنه هذا البيانُ ، تعطيلاً للمُقاطعة ، وفَتْحَ مجالٍ لتلك الدَّولة الُمحادَّة للالتفاف عليها ، بِأَنْ تُوعِزَ للشَّركات الُمتضرِّرة الضَّاغطةِ عليها بالاعتذار والاستنكار لِرَفْعِ الُمقاطعةِ عنهم ! ويبقى موقفُ الحكومةِ صلبًا ثابتًا ، غَيْرَ مُتضرّرةٍ بالُمقاطعة ! وغَيرَ راضخةٍ لمطالب المسلمين !

وإذا كان هذا المؤتمرُ العاجزُ الُمخذِّلُ لم يستطعْ فِعْلَ شَيْءٍ مع وجودِ الُمقاطعة ، فَمَا عَسَاهُ أَنْ يفعلَ مع عَدَمِهَا ؟!

السَّابع : أَنَّ حِرْصَ الُمؤتمر المزعوم ، وتسميتَه جنايةَ الدّنمرك أَزْمَةً يَسْعَى هُوَ إلى حَلِّها ، وزعمَهُ السَّعيَ مع الشَّركة المذكورة لإيجاد حَلٍّ : غَيرُ مُبَرَّرٍ ولا معروفِ الأسباب !

فما ضررُ المسلمين مِن استمرار مُقاطعة أعداء الله ، لِيَبْحَثَ الُمؤتمرون لهم عن مخارجَ لأزمتِهم ، وما أوقعوا فيه أنفسَهم ؟!

ولماذا لا يتركون الدّنمركيّين لِيَبْحَثُوا عن حَلِّ ما اقترفتْهُ أيديهم ؟! أَيُرِيْدُ المؤتمرون أَنْ يَتَكَلَّموا ويفعلوا نيابةً عن الدّنمركيِّين ، كما هو حالهم مع المسلمين ؟!

الثَّامن : أَنَّ الُمقاطعة قد أصبحتْ عقوبةً عظيمةً تخشاها الدّول ، وأصبحتْ حادثةُ الدّنمرك عبرةً لدولٍ كثيرة . فمتى قُبِلَ اعتذارُ شركةٍ كالشَّركة الدّنمركيَّة السَّابقة : كان ذلك إفسادًا لِـمَا في المقاطعة مِن قُوَّةٍ وعقوبة ، وأصبحتْ كُلُّ دولة تلتفُّ عليها - إِنْ شَاءَتْ - بمثل هذه الِحيَلِ ، وبالتَّعاون مع مِثْلِ هؤلاء السُّذَّج . وأصبح بابُ العُدوانِ على مُقدَّسات المسلمين مفتوحًا ، فلا يخشون مِن شيء ، ولا حتَّى من المقاطعة .

التَّاسع : قال أصحابُ البيان في بيانِهم : ( والُمؤمَّل أَنْ يكون هذا الحدثُ سببًا في التَّعريف بالنَّبيِّ ورسالتِه وسيرتِه ، ومُخاطبة أُمَمِ الأرض كُلِّها بهديهِ العظيم ، وأخلاقِه السَّمحة وعدالتِه) .

وأقول : ما أحوج أصحاب البيان لمعرفة هَدْي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، ورسالتِه وسيرتِه ، قَبْلَ أَنْ يُخاطبوا أُمَمَ الأرض بها !

وهذا الحدثُ سببٌ لإظهار عِزَّةِ المؤمنين وحميّتهم وذبّهم عن دينِهم ونبيّهم ، لا سببًا في التّعريف به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فإنَّ هذا أَمْرٌ ماضٍ على كُلِّ حال .

وما يعرفونَهُ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كافٍ في الإعذار وحصولِ التَّبليغِ والبلاغِ ، وأَنْ يُحاسَبوا في الآخرةِ لكُفْرِهم به ، وليسوا أَهْلَ فترةٍ أو جاهلين بمبعثِه ! وقد كان اليهودُ يعرفونَهُ كما يعرفون أبناءَهم فلم يُؤمنوا به ، فليس الَخلَلُ في التَّعريفِ المزعومِ ، وإِنَّما هو في الكُفرِ والبَغْي والُمحادَّة !

وَلْيَتْرُكْ هؤلاء الُمؤتمرون - زاعمو رغبةِ التَّعريفِ - الدّنمركَ للمُقاطعة ، وَلْيَنْصَرِفُوا لِأُمَمِ الأَرْضِ الأُخرى لدعوتِها ، والتَّعريفِ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، أم ينتظرون حتَّى يَرَوْا منهم مُحادَّةً لِيَبْدَأُوا دعوتَهم ؟! فَإِنْ دعوهم ولم يَبْقَ لهم إِلَّا أهل الدّنمرك فَلْيَرْفَعُوا مُقاطعتَهم حينذاك إِنْ شاءوا !

وإذا كان العصرانيُّونَ مُخالفِينَ لكثيرٍ مِن هَدْي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، بمزاعمَ عَصْرِيَّةٍ مُختلفةٍ ، دَاعِينَ لتقليل ثوابتِ الدِّين ! والالتقاءِ بجميعِ الُمخالِفينَ ، ناقضين البراءَ ، مُنصرفِينَ عَنْ حقيقة الولاء : فأَيُّ إِسْلامٍ يُرِيدُونَ التَّعريفَ بهِ ونشرَهُ ، أَهُوَ إسلامُ الأَمْسِ المبعوثُ به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، أَمْ إسلامُ اليوم !

لذا فإِنِّي أدعو المسلمين كافَّةً ، أَنْ يتَّقوا اللهَ ، ويُروهُ خيرًا من أنفسِهم ، ويبذلوا ما بوُسْعِهم لنُصْرةِ نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، والذَّود عن حمى دينِهم وشريعتِهم ، ويستمرُّوا أفرادًا وتجارًا في مُقاطعة جميع الشّركات الدّنمركيّة ومُنتجاتها بلا استثناءٍ ، سواءٌ مَن اعتذر منهم أو لم يعتذرْ ، إلى أن تخنعَ حكومتُهم المُحادّة ، وتُعاقِبَ الُجناةَ عقوبةً رادعةً .

وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ نُصرتَهم لنبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واجبةٌ لا محالة ، ديانةً لله جَلَّ وعلا ، وإعذارًا إليه أَنْ يُستهزأَ برسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودينِه ولا تحصلُ منهم نصرةٌ له ، ولا ذَبٌّ ولا ذودٌ عن حماه ، وقد قال سبحانه وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)، وقال سبحانه (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ)،وقال (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

وَلْيَحْذَرُوا هذِه الدَّعواتِ السَّافلة ، الَّتي لا ينتفعُ منها إِلَّا أعداءُ الله والُمحادُّونَ لدينِه ، فَإِنْ هانتْ على الُمخذِّلين أنفسُهم وحَقُّ نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فلم تَهِنْ على المؤمنين ، وقد قال سبحانه ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين ) ، وقال ( فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ، وقال ( وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ) .

وَلْيَنْظُروا في أفعالِ هؤلاءِ الُمتكلِّمين ويعتبروا ، فَإِنَّ الأيَّامَ لم تَزِدْهُمْ إِلَّا وَهْنًا ، فقد كانوا أوَّل جريمة الدّنمرك يدعون إلى اعتذار الحكومة والصّحيفة ، مع كَونِ ذلك ليس بحُكْمٍ شرعيٍّ ، ولا كافيًا ! ثُمَّ لَـمَّا وجدوا موقفَ الحكومة صَلْبًا ، تنازلوا حتَّى قَبِلُوا أَنْ تعتذرَ الشَّركاتُ لِتُرْفَعَ الُمقاطعة ! وهم أنفسُهم حقيقون بالُمقاطعة مع مُقاطعة الدّنمركيّين .وقد قال أبو الطّيّب :

مَـنْ يَـهُـنْ يَـسْـهُـلِ الـهَـوَانُ عَـلَـيْـهِ

مَــا لِـجُـــرْحٍ بِـمَــيِّـتٍ إِيْـــــلَامُ

وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد ، وعلى آله وصحبه وسلَّم

كتبه

عبد العزيز بن فيصل الرّاجحي
الرّياض
الأربعاء 29/2/1427هـ

الكاتب: محمد الدوسري
التاريخ: 01/01/2007