الفتح المبين في الانتصاف للمظلوم من الظالمين |
|
الفتح المبين في
الانتصاف للمظلوم من الظالمين
إن من أفعال الله تعالى ما هو من مقتضيات ربوبيته، وإن منها ما هو من مقتضيات ألوهيته، والمخلوق بين هذه الأفعال ينقاد طوعاً أو كرهاً لقول الحق جلَّ وعلا: (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) ، والموفق من تدبَّر في أفعال الله تعالى تدبر العبد المؤمن بحكمة خالقه، المطمئن إلى وعد مالكه، يستلهم السكينة والطمأنينة مما يفتح الله تعالى له من فيوض اليقين بأن أفعال رب العالمين إنما هي لحكمةٍ أدركها من أدركها وغابت عمن غابت عنه، وأن المصالح المستجلبة منها إنما يعود نفعها على العباد، وأن المفاسد المدفوعة بها إنما هي مدفوعةٌ عن العباد، وأن مقتضى ربوبية الحق جل وعلا ألا يدع خلقه هَمَلاً، وأن مقتضى كمال صفاته سبحانه أن يكون قائماً على خلقه كلِّ خلقه بما تقوم به حياتهم في الدنيا، ويؤهلهم للمحاسبة والجزاء في الآخرة.
فإذا عُلم ما تقدم، فاعلم أن من خطاب الله تعالى لبني آدم ما هو تذكيرٌ بربوبيته عليهم وتنبيهٌ بما يفيض عليهم الملك سبحانه من نعمائه، وأن هذا الخطاب لا يختص بالمؤمن وحده - وإن كان المؤمن أسعد حظاً بهذه التذكرة بنعيم الرب حيث انقاد بها إلى عبادة الله وحده - بل إن هذا الخطاب ليشمل المؤمن والكافر، المطيع والعاصي، الذاكر والناسي، من حيث إنهم جميعاً عبيدٌ لله تعالى، ومن حيث إن مقتضى كمال الله تعالى ألا يدع عبيده هملاً، بل هو ربهم أي أنه يربهم فيقوم على شؤون خلقه أجمعين؛ قال تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم) ، فهذه القيومية شاملة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، بَرّهم وفاجرهم بمقتضى أنه سبحانه وحده الخالق وحده المتصرف بالأمر، وتأمل تفصيل هذه القيومية في قوله تعالى: ( أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها أإلهٌ مع الله بل هم قوم يعدِلون. أم من جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون. أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكرون) ، فتأمل هذه الآيات وتدبر: هل خاطب بها الله تعالى عباده المؤمنين فحسب أم كانت خطاباً لبني آدم كلهم؟ وهل ينزل الماء من السماء وتنبت بها الحدائق والثمار على المؤمنين فحسب؟ أم هل جعل الله تعالى الأرض قراراً والأنهار جاريةً والجبال راسيةً للمؤمنين فحسب؟ أم هل يجيب دعوة المضطر المؤمن فحسب ويكشف السوء عنه فحسب؟ هيهات، هيهات، ألم تر إلى قوله تعالى: (أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ، فهل الخلق مختص بالمؤمن دون الكافر؟ أم هل الرزق مختصق بالمؤمن دون الكافر؟كلا…
ثم ليُعلم أن من جنس ما تقدم قوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً فلا تَظَالموا" ، قال الإمام النووي رحمه الله:"أي لا يظلم بعضكم بعضاً" ، والظلم: الجور، ومجاوزة الحد، والنقص، وأصله في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، قاله صاحب لسان العرب، وقال:"وفي المثل: من استرعى الذئب فقد ظلم" ، قلت: لأنه وضع الذئب في غير موضعه. وتحريم الله تعالى الظلم على نفسه: تنزيه ذاته القدسية عن الظلم لا بمعنى أنه ممكن الوقوع لأن صفات كماله ووحدانيته سبحانه وتعالى يستحيل معها أن يضع شيئاً في غير موضعه، وسر المسألة أن الله تعالى هو الآمر المطلق، أما العباد فأمورون، والمأمور يتصور منه التزام الأمر أو مخالفته؛ فإن التزم فما ظلم، وإن خالف فقد ظلم نفسه وغيره؛ أما ظلمه لنفسه فبنقصها من حسناتها وإنزالها عن مرتبة العبد المطيع لربه إلى دركة العبد الآبق، وأما ظلمه لغيره فبمنعه حقه ومجاوزة الحد فيما أمر الله تعالى به تجاهه. قال تعالى: ( ولَمن انتصر بعد ظُلمِه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ) ، وحكى الإمام الطبري رحمه الله قول بعض أهل التفسير:" عني به كل منتصر ممن أساء إليه مسلماً كان المسيء أو كافراً" ، ورجح رحمه الله هذا التفسير فقال:" والصواب من القول أن يقال: إنه معني به كل منتصرٍ من ظالمه وأن الآية محكمةٌ غير منسوخة" . والمقصود أن هذا الظلم الذي حرمه الله تعالى من فوق سبع سماوات وتنزه بذاته العلية عنه يشمل كل ظلمٍ وكل ظالمٍ وكل مظلوم، مهما كان دين الظالم ومهما كان دين المظلوم، والله تعالى يأخذ الأمم الظالمة بظلمها، ويقصم ظهورها، ويمحو ذكرها، ويأخذها أخذاً أليماً في الدنيا، قال تعالى: (وكذلك أخذُ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ إن أخْذه أليمٌ شديدٌ) ، وقال تعالى: (وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمةً وأنشأنا بعدها قوماً آخرين) ، وقال تعالى: (فكأين من قريةٍ أهلكناها وهي ظالمةٌ فهي خاويةٌ على عروشها وبئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيدٍ) ، وقال تعالى: (وكأين من قريةٍ أمليتُ لها وهي ظالمةٌ ثم أخذتها وإليَّ المصير) ، ولم تخص آية من هذه الآيات هذه العقوبة بالدول الكافرة، بل مناط الوعيد فيها نفس الظلم، ولأبي العباس أحمد بن عبد الحليم رحمه الله كلامٌ نفيسٌ في هذا الباب حيث يقول:" وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والاسلام" . وهذا لا يعني الرضى بالكفر بل يعني عدم الرضا بالظلم مهما كان الظالم ومهما كان المظلوم، وتأمل في سيرة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:
فقد قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة البيعة:" والضعيف فيكم قويٌ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله" ، ولم يخص بذلك مسلماً دون كتابي، ولا صحابياً دون تابعي، ولا عربياً دون أعجمي.
ووقعت المظلمة في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه فانتصر للمظلوم القبطي من الظالم المسلم؛ فعن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين عائذٌ بك من الظلم، قال: عذت معاذاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه" .
بناءً على ما تقدم، فإنه إذا كان الإسلام والطاعة لا يمنعان من إنزال الوعيد بالظالم المسلم المطيع فيما عدا الظلم، فمن باب أولى أنه إذا اجتمع الكفر والفسوق والعصيان مع الظلم أن يكون بإنزال الوعيد به أحرى، وبالمصير البئيس للظالمين أخزى، لا سيما إذا كان نفس الظلم واقعاً على المظلوم باقتراف الكبائر الموبقات، ولا سيما إذا كان نفس الظلم استباحةً للحرمات الثلاث: الدماء والأبضاع والأموال. فمن ظلم بقتل نفسٍ معصومة ليس كمن ظلم بسلبها بعض حقوقها، ومن ظلم بانتهاك عرضٍ محصن ليس كمن ظلم بنظرة أو غمزة، ومن ظلم باغتصاب مالٍ معصومٍ ليس كمن ظلم بمنع فضول أمواله عن المحتاجين، ومن أقام دولته على الظلم الذي يسفك فيه الدماء، وينتهك فيه الأعراض، ويغتصب فيه الأموال، ليس كمن مارس هذه المظالم فرداً، ولتعلم الأنظمة التي تقوم على الظلم أنها كلما أمعنت في المزاوجة بين ظلم الناس وانتهاك محارمهم الثلاث كلما أوجبت في استحقاق وعيد الله تعالى بالأخذ الأليم الشديد، وبقصمها حتى تبيد، وبهلاكها فلا يبقى منها إلا بنيان مشيد، وأن من وراء الإملاء والإمهال أخذٌ وبيل، وأن من وراء العزة الفاجرة في الدنيا موقف الآخرة الذليل، ولتعلم الشعوب الثائرة على الظلم والظالمين أنها تسير في مرضاة الله تعالى شرعاً وكوناً؛ فمن قصد برفع الظلم موافقة أمر الله الشرعي فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة، ومن قصد برفع الظلم تحصيل مصالح السنن الكونية فقد فاز بسعادة الدنيا بهذا الاعتبار وإن كان قد فوت على نفسه السعادة الأكمل في الآخرة، وإذا اجتمعت الإرادة الكونية والإرادة الشرعية على أمر فلا على المسلم أن يتعاون مع من يسعى في تحصيل هذا الأمر كائناً من كان ما لم تكن مخالفة للشرع الحنيف، فالحق ضالة المؤمن، والسعي في المشتركات الإنسانية التي أقام الله تعالى عليها قانون الكون من تحري العدالة والكرامة الإنسانية مقصود شرعاً من جهة موافقته للفطرة التي خلق الله الناس عليها، ومن جهة كونها الذريعة إلى تحصيل حالة الاختيار التي بها يكون مناط الجزاء، وعلى رحاها تدور الظواهر مع النيات، وليعلم كل من أراد أن ينقي إيمانه من الظلم الشرعي أن في مقاومته للظلم الكوني دربةً لنفسه على تحصيل مرتبة العدل الشرعي حيث يضع كل شيء في موضعه الصحيح؛ فيضع العبادة في موضعها الصحيح لله وحده، ويضع المعاملة مع الخلق في موضعها الصحيح بإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وما يدريك لعل التعاون مع الخلق على العدل الكوني يكون سبيلاً لتألف قلوبهم لإقامة العدل الشرعي، وما يدريك لعل خذلان الناس في دفع الظلم الكوني يكون ذريعةً إلى وقوعهم في الظلم الشرعي، فالله الله معاشر المؤمنين، رفعاً للظلم في كل مكان، وثورةً على الظالمين في كل مكان، ثوروا على كل ظلم مهما تمكن، وثوروا على كل ظالم مهما تفرعن، وثوروا على أنظمة الظلم والبغي على الناس بغير الحق مهما تدثرت بدثار إقامة الشرع، ولتعلموا أن دولنا المسلمة اليوم بين فريقين؛ حكومات ظالمة وشعوب مظلومة، فمهما ناصرنا الظالم وخذلنا المظلوم وقعنا في وعيد الظالمين، ومهما أخذنا على يد الظالم ونصرنا المظلوم رجونا الوعد بنصرة المظلومين، وليعلم أن الأخذ على الظالم ونصرة المظلوم في هذا المقام – أعني مقام الشعوب والحكومات- هو أقرب إلى جنس الاحتساب باللسان منه إلى جنس الجهاد بالسنان؛ وفرق ما بين الاثنين أن لا مكان للسلاح في الأول، ولعلنا نفصل هذه المسألة في رسالة مستقلة لخطورتها، والمقصود هنا البشارة بوعد الله تعالى بإهلاك الظالمين، ونصرة المظلومين، وأن ما تراه من إمهال الله تعالى للظالم إنما هو لحكمةٍ آمن بها من آمن، وجحد بها من جحد، فلا يلقين أحدنا الله إلا وهو يحسن الظن به سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنُجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) .
ختاماً أقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" ،اهـ. وذلك في يوم قال عنه الله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً) ، فالويل يومئذٍ لك أيها الظالم، وطبت نفساً أيها المظلوم وقررت عيناً، فقد قال تعالى: (ولا تحسبنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرُّهم ليومٍ تشخَص فيه الأبصار. مُهطعين مُقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طَرْفهم وأفئدتهم هواء) . اللهم من سفك دماء المعصومين فاقتص منه، ومن هتك أعراض المحصنين فاهتك عرضه، ومن غصب الأموال المحترمة فطوقه إياها نكالاً من عندك، اللهم أنجز لنا وعدك كما أنجزته لنبيك صلى الله عليه وسلم، فإنا قد آمنا بوعدك كما أمرنا وبلغنا نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت…
وكتب/
وسيم فتح الله