تأجير العين المستأجرة ..

 

تأجير العين المستأجرة بقلم محمد بن عبيد الهاجري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:-
ــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد:-

فإنه قد سبق لي وأن بحثت في مسألة من مسائل الإجارة ، تعرض لها الفقهاء في كتبهم ، فعمدت إلى ذلك البحث ، واقتصرت على بعضه ، إرادة مني في الاختصار ، كي تعم به الفائدة والنفع ، راجياً من الله الأجر والثواب.

وذلك أنه من المعلوم مشروعية الإجارة بقوله تعالى: "فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن" (الطلاق:6) ، وبما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حراً فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" صحيح البخاري ، كتاب الإجارة ، باب إثم من منع أجر الأجير.
وقد انعقد الإجماع على جواز الإجارة كما ذكره ابن المنذر وغيره.(1)
ولأجل ما قد يخفى على بعض الناس حكم ما لو أراد المستأجر تأجير العين المؤجرة لأي سبب من الأسباب ، جمعت أقوال الفقهاء في الجواب على ذلك ، وصنفتها حسب ما ظهر لي من كلامهم على أربعة مطالب ، تقريباً لتصوير المسألة في الأفهام فأقول وبالله التوفيق.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

المطلب الأول
تأجيرها من قبل المستأجر(1)
ـــــــــــــــــ

اتفق الفقهاء في الجملة على جواز تأجير المستأجر للعين المؤجرة ، بشرط أن لا يحصل ضرر على العين المؤجرة من قبل المستأجر الثاني ، لأن الضرر مدفوع بحديث ابن عباس مرفوعاً : "لا ضرر ولا ضرار".(2)
واستدلوا على ذلك بأن المستأجر يملك منفعة العين المؤجرة باستئجاره لها فله أن يستوفيها بنفسه أو بغيره.

وفي رواية عن أحمد أنه لا يجوز للمستأجر تأجير العين المؤجرة بدليل نهيه عليه الصلاة والسلام عن ربح ما لا يضمن رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم.(3)

وحيث أن منفعة العين المؤجرة لم تدخل في ضمان المستأجر لم يجز له أن يؤجرها للغير كبيع المكيل والموزون قبل القبض.
وأجيبوا : بأن قبض العين قام مقام قبض المنافع ، بدليل جواز تصرفه فيها ، فجاز العقد عليها.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

المطلب الثاني
تأجيرها قبل القبض (1)
ــــــــــــ

اختلفت أقوال الفقهاء في ذلك : -

الرأي الأول :
ــــــــ
الجواز وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية ووجه عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة ، واستدلوا على ذلك :

- بأنه قد ملك المنفعة بالعقد فجاز له تأجيرها قبل القبض.
- ولأن المعقود عليه في الإجارة هو المنافع ، والمنافع لا تصير مقبولة بقبض العين ، فلم يؤثر فيها قبض العين.

الرأي الثاني :
ــــــــ
عدم الجواز ، وبه قال محمد من الحنفية ووجه عند الشافعية وعند الحنابلة. ، واستدلوا على ذلك : -

- بالقياس على بيع المبيع قبل قبضه.

وقيل الخلاف في الجواز وعدمه إنما هو في غير المنقول ، أما المنقول فلا يجوز قبل قبضه ، وقيل يجوز تأجيرها من المؤجر نفسه لأنها في قبضته ، ولا يجوز من غيره لأنها ليست في قبضته.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المطلب الثالث
تأجيرها بزيادة في الأجر(1)
ــــــــــــــــ

لا خلاف عند القائلين بجواز التأجير من الباطن في الجملة بزيادة في الأجر فيما لو زاد في العين المؤجرة زيادة من بناء أو حفر أو تطيين أو تجصيص أو غير ذلك ، وإنما الخلاف فيما لو كانت العين المؤجرة على حالها وأجرها المستأجر للغير بزيادة عن الأجرة الأولى.
الرأي الأول:-
ـــــــ
عدم الجواز ، وهو للحنفية ورواية عن أحمد ، واستدلوا على ذلك:
- بأن هذه الزيادة هي فضل ربح ما لم يضمن ، حيث المنافع لا تدخل في ضمان المستأجر ، بدليل ما لو هلكت العين المؤجرة فصارت بحيث لا يمكن الانتفاع بها كان الهلاك على المؤجر ، وكذا لو غصبها غاصب ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن ربح ما لم يضمن.
- وقياساً على ما لو ربح في الطعام قبل قبضه ، فلا يصح وكذا هنا لا تصح الزيادة.
الرأي الثاني:
ـــــــ
الجواز ، وهو للجمهور ، واستدلوا على ذلك:-
- بأن المستأجر ملك منافع العين المؤجرة بالعقد فجاز له التصرف فيها.
- ولأن تأجيره لها بزيادة في الأجر معاوضة منه على ملكه كبيع الأعيان.
- ولأنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة.
- وقياساً على ما لو أحدث عمارة في العين المؤجرة ، وأجرها بمثل أجر الإجارة الأولى ، جاز مع أن ما أخذه من عمارة لا يقابلها جزء من الأجر.
وأجابوا على الرأي الأول بأن المنافع قد تدخل في ضمان المستأجر من وجه ، وذلك أنها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه ، لا من ضمان المؤجر كما لو تلف الثمر بعد بدو صلاحه والتمكن من جذاذه ، أما كون هلاك العين المؤجرة من ضمان المؤجر فلأجل أن المستأجر لم يتمكن من استيفائها فيفرق بين ما قبل التمكن وبعده. أما قياسهم على الربح في بيع الطعام قبل قبضه لا يصح ، وذلك أن بيع الطعام قبل قبضه منهي عنه بالكلية سواء ربح أم لا ، بخلاف تأجير العين المؤجرة فإنها جائزة في الجملة.
هذا وقد كره بعض الفقهاء الزيادة مطلقاً لدخولها في ربح ما لم يضمن.
وقيل كما في رواية عن أحمد – بالجواز إن إذن له المالك في الزيادة ، وإلا لم يجز.

@@@@@@@@@@@@@@@@
المطلب الرابع
تأجيرها لمالكها (1)
ـــــــــــــ
صورة هذه المسألة : أن يؤجر المستأجر العين المؤجرة لمالكها ، بحيث يصبح مالك العين المؤجرة الأصلي هو المستأجر الثاني لها.
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:-
الرأي الأول :
ــــــــ
عدم الجواز ، وهو للحنفية ، واستدلوا على ذلك :
- بأن المستأجر في حق المنفعة قائم مقام المؤجر ، فيلزم تمليك المالك.
- ولأن ذلك يؤدي إلى تناقض الأحكام ، حيث التسليم مستحق على الكراء ، فإذا اكتراها صار مستحقاً له ، فيصير مستحقاً لما يستحق عليه ، وهذا تناقض.
الرأي الثاني :
ــــــــ
الجواز ، وهو للجمهور ، واستدلوا على ذلك :
- بأن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد كالبيع . وأجابوا عن التناقض بأن التسليم قد حصل للمستأجر الأول ، والمستأجر الثاني له تسليم أخر ، فلا تناقض.
ونص فقهاء المالكية أن الجواز مقيد بما لم يؤد إلى دفع قليل في كثير ، وبكونه لا يؤدي إلى تهمة سلف جر منفعة : كتأجيره للغير بعشرة إلى أجل ، ثم استئجاره منه بثمانية نقداً.
وكذا نص الحنابلة حيث قيدوا الجواز بما لا يؤدي إلى حيلة.

وبعد هذا العرض ، ما كان من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ، وأسأل الله أن لا يحرمني الأجر والثواب ، وصلى الله وسلم على محمد وعلى أله وسلم.


كتبه / محمد بن عبيد الهاجري
22 محرم 1424 هـ
25 / 3 / 2003م

المراجع
ـــــــــــــــــــــــــــ

1- الإجماع لابن المنذر ، مؤسسة الكتب الثقافية ، الطبعة الأولى.

2- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، للمرداوي ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى.

3- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، للكاساني ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الثانية.

4- بلوغ المرام ، لابن حجر العسقلاني ، دار أطلس ، الطبعة الثالثة.

5- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، دار الفكر.

6- رد المحتار على الدر المختار المعروف بحاشية ابن عابدين ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى.

7- صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثانية.

8- الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ، لابن عبدالبر القرطبي ، مكتبة الرياض الحديثة ، الطبعة الثانية.

9- المجموع شرح المهذب للنووي ، دار إحياء التراث العربي.

10-المعونة على مذهب عالم المدينة ، للقاضي عبدالوهاب المالكي ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى.

11-المغني لابن قدامة المقدسي ، دار الفكر ، الطبعة الأولى.

12-المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ، دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى.

13-مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب ، دار الفكر ، الطبعة الثالثة.

الكاتب: الشيخ محمد بن عبيد الهاجري
التاريخ: 01/01/2007