أحمد نعيم أبو سلامة (الشهيد الحي) |
|
أحمد نعيم أبو سلامة (الشهيد الحي)
لا تزال قصص محرقة غزة تتوالى, فقد كان يوم السبت الأول من مارس يومًا صعبًا على غزة التي لن تنسى ذلك اليوم الأسود، فلا تزال أروقة مجمع الشفاء الطبي بالمصابين مليئة، ولا يزال تحسس أخبار الجرحى الذين أرسلوا إلى جمهورية مصر العربية في بال أهل غزة، ولكن تعد الحادثة التي سنرويها من أغرب قصص المحرقة التي تعرضت لها غزة قبل أسبوعين.
"أحمد نعيم أبو سلامة" الشهيد الحي, 16 عامًا, فتح له بيت عزاء على أنه استشهد في القصف الصهيوني لاجتياح جباليا، ودفن أشلاءً ممزقة، تبين بعد 13 يومًا أنه على قيد الحياة ويرقد في غرفة العناية المركزة في مستشفى الشفاء الطبي بعد أن كان والده قد استخرج له شهادة وفاة.
بحث في ثلاجات الموتى:
تحدث نعيم أبو سلامة والد "أحمد" لــ"مفكرة الإسلام" عن فصول هذه القصة التي حرقت أعصابه وأعصاب من حوله, حيث أمضى الأسبوع الأول من المحرقة يبحث في ثلاجات الموتى وفي مكاتب الصليب الأحمر وأخيرًا في بيت عزاء لابنه.
تلقّى نعيم أبو سلامة والد أحمد نبأ إصابة ابنه أحمد جراء القصف الصهيوني لجباليا في الاجتياح الأخير "المحرقة" يوم السبت الموافق 1-3–2008، فسارع بدوره للذهاب إلى مستشفى "كمال عدوان" للبحث عن ابنه، فلم يجده, وكانت سيارات الإسعاف تنقل المصابين والشهداء, وفي تلك اللحظة كانت سيارات الإسعاف قد جلبت خمس جثث متفحمة وأشلاء ممزقة بعضها فوق بعض، تم التعرف على أربعة منها, ولكن الجثة الخامسة كانت مشوهة المعالم, ولم يتمكن أحد من التعرف عليها, حتى نعيم أبو سلامة لم يستطع أن يؤكد أن هذه الجثة تعود لابنه على الرغم من معاودته النظر إليها مرات عديدة.
عندها توجه نعيم إلى مجمع الشفاء الطبي وسط مدينة غزة, وبدأ يبحث عن ابنه في ثلاجات الموتى فلم يجده، فتوجه إلى قسم العناية المركزة مرتين، فابلغه الأطباء أن جميع الجرحى الموجودين في قسم العناية المركزة تم التعرف عليهم من قبل ذويهم, ولا يوجد أحد مجهول الهوية.
كما توجه نعيم أبو سلامة إلى لجان حقوق الإنسان ومراكز الشرطة علّه يجد خبرًا عن ولده, بل قام بالاتصال بكافة الجهات المعنية ولا سيما منظمة الصليب الأحمر الدولي لتقوم بدورها بالاتصال بالكيان الصهيوني ومعرفة ما إذا كان أحمد أبو سلامة معتقلاً لديها خلال عملية الاجتياح الأخير "المحرقة" أم لا؟! ولكن ما من جدوى، ولم يظهر هناك أمل في الأفق, والجثة الخامسة لم يتعرف عليها أحد وبقيت في ثلاجة الموتى لثلاثة أيام.
دفن الجثة وفتح بيت عزاء:
بعد كل هذه المحاولات من البحث المستمر، فقد "نعيم أبو سلامة" الأمل في وجود ابنه على قيد الحياة, خاصة أن "حمودة بعلوشة" صديق أحمد كان قد أصيب في قدميه مع أحمد من نفس الصاروخ الصهيوني, والذي أكد لوالد أحمد أن الصاروخ أصاب أحمد إصابة مباشرة.
وبعد انسحاب الآليات الصهيونية من أرض المعركة في منطقة جبل الكاشف بجباليا، ذهب نعيم أبو سلامة مع مجموعة من أصدقاء أحمد ليبحث عن جثة ابنه أحمد في ساحة المعركة، خاصة وأن جثث الشهداء بقيت ثلاثة أيام لم يتمكن أحد من الوصول إليها بسبب كثافة النيران الصهيونية, فعثر والده على حذاء ابنه مضرجًا بالدماء ولكن لم يعثروا على "أحمد".
أخيرًا وبعد هذا البحث المضني، والتفتيش المستمر في المستشفيات، قرر نعيم سلامة دفن الجثة الخامسة على أنها تعود لابنه، فصلوا عليه في مسجد العودة وسط جباليا شمال غزة, وفتح بيت عزاء لأحمد, وتقبل التعازي بفقدان ابنه, وسأل الله أن يلتقي به في الجنة.
اتصال مفاجئ:
بعد حوالي أسبوعين من الاجتياح, وبالتحديد يوم الخميس الساعة الرابعة مساءً, قرر "حمودة بعلوشة" 16 عامًا, صديق أحمد الذي أصيب معه, بعد أن تعافى من إصابته, زيارة صديقه "محمد حجازي" الوحيد من أصدقائه الذين بقوا على قيد الحياة بعد الاجتياح, ويرقد في غرفة العناية الفائقة في مجمع الشفاء الطبي منذ 13 يومًا, ملفوفًا من كافة أنحاء رأسه ووجهه بالشاش الأبيض, وفي اليوم الذي توجه فيه حمودة لزيارة "حجازي" كان الأطباء قد رفعوا الشاش الأبيض عن رأسه، وبمجرد أن شاهد بعلوشة صديقه محمد حجازي، حتى صرخ بأعلى صوته: هذا أحمد أبو سلامة.. هذا أحمد أبو سلامة. وأصيب بحالة من الهستيريا لدرجة أن الطاقم الطبي في غرفة العناية الفائقة طلب منه الخروج للخارج.
وعلى الفور قام بعلوشة بالاتصال بنعيم أبو سلامة والد أحمد ليحضر ليرى ابنه، الذي حضر على الفور, وبمجرد اقترابه من سرير أحمد حتى بدأ يصرخ: ميشو.. ميشو (لقب أحمد أبو سلامة في بيته), وهنا أذهلت عائلة محمد حجازي متسائلة: أين ابنها إذن؟! ومما زاد الأمر تعقيدًا هو الشبه الكبير في الوجه والجسم حتى العمر بين أحمد أبو سلامة ومحمد حجازي.
الأم عنوان ولدها:
على الفور اتصل نعيم أبو سلامة بزوجته كريمة أبو سلامة التي تحدثت لــ"مفكرة الإسلام" عن اللحظات التي وجدت فيها ابنها حيًا يرزق قائلة: توجهت إلى المستشفى وعندي إحساس بأنني سأجد أحمد, حيث إنني كنت أكرر لأقارب أحمد في بيت العزاء بأن أحمد لا يزال حيًا يرزق، وعندما وصلت المستشفى ودخلت غرفة العناية المركزة وكشفت عن وجهي له – حيث إنها سيدة منتقبة – حتى انتفض أحمد من سريره وبدأ يبكي, وقطعت الشك باليقين للأطباء بعلامات لابني, حيث إن له شامة كبيرة وسط بطنه، كما أن لديه آثار غرز لجرح أصيب به في حادث سير قبل عدة أعوام.
أحمد لا يستطيع الحديث على الإطلاق بسبب وجود أنبوب في حلقه, بالإضافة إلى أن الإصابة في الرأس كانت قد أتلفت جزءًا من ألياف المخ, الأمر لذي جعل الحديث بالنسبة لـ"أحمد" أمرًا عسيرًا على الأقل في الفترة الحالية .
عندها تأكدت عائلة حجازي أن الشخص الذي كانوا ينتظرون خبرًا سارًا عنه وكانوا في انتظاره دومًا خارج غرفة العناية المركزة لم يكن هو ابنهم "محمد"؛ لأن محمد كان قد استشهد قبل 13 يومًا, ولكن الذي تولى دفنه عائلة "أبو سلامة"... كانت صدمة غير عادية بالنسبة لهم, ولكن كان يتوجب عليهم قبول قدر الله, فلملموا جراحاتهم، وقاموا بفتح بيت عزاء له في مخيم جباليا.
ولعل الشبه الكبير بين أحمد أبو سلامة ومحمد حجازي، والشاش الأبيض المغطي لرأس ووجه أبو سلامة كانت من العوامل الرئيسة في صعوبة التعرف والتفرقة بينهما.
مناشدة أم:
الوضع الصحي لأحمد كما قال الأطباء مستقر وتعدى مرحلة الخطر الشديد, ولكن الإصابة مازالت حرجة، فالشظايا قد أصابت المخ, الأمر الذي أدى إلى توقف حركة بعض أعضاء من جسمه نتيجة لتلف بعض الخلايا, وبحاجة ماسة لمستشفى متخصص بذلك, علمًا أن قطاع غزة يعاني من نقص حاد في المواد الطبية والأجهزة الصحية اللازمة لإعادة التأهيل.
والدة أحمد ناشدت بنبرة مفعمة بالبكاء الجميع لمساعدتها في تحمل علاج ابنها ومحاولة إرساله إلى مستشفى مؤهل لاستقباله, وخصت بالذكر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بالتدخل لاستقباله في مستشفيات المملكة العربية السعودية, داعية كل من يقرأ أو يسمع مناشدتها إيصالها لذوي الشأن, علمًا بأن الحكومة السعودية بالإضافة إلى العديد من الدول العربية لها بصمات واضحة في تقديم الدعم للشعب الفلسطيني الجريح, لا سيما المجال الصحي منها.
وختمت قائلة: لقد تلوعت في الأيام الماضية ومررت بفترة عصيبة للغاية، ونحن عائلة فقيرة للغاية وبحاجة إلى من يقف بجانب ابننا - الذي ربما أصابه شلل نصفي - لعله يعود ويتحدث معنا, مبديةً ثقة كبيرة بالله الذي رد لها ولدها بعد أن قطعت الأمل في لقائه في الدنيا.