صَيْحات المآذن.. وصَحْوات الضمائر |
|
صَيْحات المآذن.. وصَحْوات الضمائر
كتبه/ أحمد يحيى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)، فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟"، قال: (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ)، قال قائل: "يا رسول الله، وما الوهن؟"، قال: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
لم تكد تمر محنة إلا وتتلوها أخرى، تنكأ من الجراح ما تنكأ، فتستيقظ الضمائر قليلاً، ثم تعود مرة أخرى إلى سبات عميق لا يوقظها منه إلا محنة أخرى.
هكذا هو حال المسلمين، تداعت عليهم الأمم، وتكالبت عليهم الدول، وأسهم كل رأس من رؤوس الكفر بنصيب من النكاية والاستذلال للمستضعفين من المسلمين، ولا تجد من المسلمين من يهتم بالأمر إلا من وضع يده في الجرح أو وُضعت يده فيه رغمًا عنه.
هذه هي عاقبة الركون إلى الذين ظلموا وإحسان الظن بهم، تهافتت قواعدهم، وتهافتت كلماتهم، فأين ما تشدقوا به عن حرية الرأي والفكر؟ وأين ما زعموه عن المساواة والإخاء؟
هل سقطت تلك الأصنام؟؟
كعادة الغرب الكافر مع كل مظهر إسلامي، تضيق نفوسهم، وتكاد تنخلع أفئدتهم، ويفعلون ما يقدرون للصد عن سبيل الله، حتى ولو كانت في مجرد منع المآذن للنداء للصلاة. والعجب ممن لم تصحُ ضمائرهم... مع كل هذا نائمة لم تستيقظ حتى بعد صيحات المآذن.
صيحات المآذن تدوي في آفاق العوالم، وتعلن أن أول قاعدة أسسها النبي -صلى الله عليه وسلم- في دولة التوحيد هي قاعدة الإخاء، ليس على مفهوم أبناء الثورة الفرنسية ومن تمسَّك بذيولها من المستغربين بمؤاخاة الناس جميعًا دون نظر إلى دينهم وعقيدتهم؛ وإنما على المفهوم الإسلامي بمؤاخاة الناس على أساس العقيدة الصحيحة والمنهج القويم.
وقد طبَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المفهوم الإسلامي في أول بنيان أخوي، وهو المسجد النبوي، فالمسجد هو عنوان المسلم، والظل الذي يلجأ إليه، ففيه تُمحى العصبيات، وتـُنسى القبليات، ومنه تنطلق المسيرة الجماعية لنشر الدين القويم، فلا عجب أن كان هذا المسجد وتلك المآذن مثار غضب الغرب الكافر ومكمن فزعه.
والدولة الإسلامية الأولى أقضَّت مضاجع المشركين والمنافقين؛ لأنها أُسست على هذا المفهوم الإسلامي الأخوي، الذي لم يفتأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرره على مسامع الصحابة مرة بعد مرة؛ ليرسخ في أذهانهم أنه لا قيام لدولة الإسلام إلا بهذا البناء الداخلي.
فأين ضمائر المسلمين الذين ارتموا في أحضان الغرب الكافر والمستعلن بطغيانه على ضعاف المسلمين؟
أين هم من استشعار روح الأخوة مع أبناء دينهم؟
صيحات المآذن تعلن أن (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) (متفق عليه)، وأن (الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه)، وأن المؤمنين (كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ) (رواه مسلم)، وأن المسلمين (تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).
تُرى لو كان هذا المفهوم موجودًا اليوم بين أبناء الإسلام؛ هل كانت تفكر دولة كافرة مهما بلغت قوتها وجيوشها أن تمس حرمات المسلمين؟!
لكن لمـَّا ذهب هذا المفهوم؛ استقوت الأمم الكافرة على المسلمين، حتى الدويلات الصغيرة التي لا جيش لها؛ لأنها أمنت من استيقاظ ضمائر المسلمين، وأن صحوتها ما هي إلا صحوة وقتية، وقريبًا ستعاود النوم.
بل ربما وجدوا من المنافقين من لا ضمير عندهم أصلاً ولا مروءة لديهم، يسارعون لإرضاء اليهود والنصارى، ويبررون لهم أفعالهم بأنها حقهم ما داموا داخل بلادهم!! فأين أخوة الدين في كشف كربات المستضعفين، والدفاع عن حرمات المظلومين؟! أين أخوة الدين في إيقاظ الضمائر، واستنهاض الهمم، وبعث العزائم؟!
صيحات المآذن تنادي بأصحاب العروبة ودعاة القومية أن يعلنوا عن هويتهم الإسلامية، وأن يتبرؤوا من أصنام العلمانية والديمقراطية؛ كي يستعيدوا أمجادهم الماضية في الأزمان الخالية.
إِنِّي تَـذَكّـَـرْتُ وَالـذِّكْـرَى مُــؤَرِّقــةٌ مـَجْـدًا تـَلِـيـدًا بِأَيـْدِيـنَا أَضـَعْـنَاهُ
أَنَّى اتـّـَجَهْتَ إِلَى الإِسْلاَمِ في بَـلـَدٍ تَجِدْهُ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاهُ
كَـمْ صـَرَّفـَتْـنـَا يَـدٌ كـُـنَّا نـُصَرِّفُـهَا وَبَـاتَ يَـحْكـُمـُنـَا شـَعْـبٌ مَلَكْنَاهُ
هِـيَ الشَّرِيعَـةُ عَـيْنُ اللهِ تـَكْـلَـؤُهَا فـَكُلَّمَا حَـاوَلُوا تَشْوِيهَهَا شَاهُوا
اِسْتَرْشَدَ الْغَرْبُ بِالْمَاضِي فَأَرْشَدَهُ وَنـَحْـنُ كَـانَ لَـنَا مَـاضٍ نَسِينَاهُ
مَـاضٍ نَعِـيشُ عَـلَى أَنْقَاضِهِ أُمَمًا وَنَسْتَمِدُّ الْقُـوَى مِنْ وَحْيِ ذِكْرَاهُ
إِنَّا مَـشـَيْـنـَا وَرَاءَ الْـغَرْبِ نَقْتَبِسُ مـن ضِـيـَائـِهُ فَأَصَـابَتْنَا شَظَايَاهُ
صيحات المآذن تصرخ بالفارغين والتافهين وأصحاب الهمم الزائفة ممن تـُفتعل بينهم الخلافات من أجل المباريات، فينسون الحرمات، ويتجاهلون الواجبات، وتشتعل حروب القوميات والعصبيات التي يذكي نارها أعداء الأمة من اليهود والنصارى والمنافقين.
يقول المؤرخ اليهودي برنارد لويس: "كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكرًا وإعلانًا".
بينما كانت هذه شهادة أحد مؤرخي اليهود بأن إدخال أصنام الدولة والعنصر والقومية هو من أكبر المظالم التي وقعت على المسلمين؛ إذا بواحد منهم أيضًا يصرِّح بأن اليهود لن يتخلوا عن دينهم.
يقول أدولف كريمر اليهودي: "جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى" اهـ.
فهل يعي الذين ارتموا في أحضان الغرب الكافر مدة طويلة هذا الدرس اليوم؟؟
هل آن لهم أن يعرفوا أن الغرب لا يرضى إلا بكونهم مطايا يركبها حين شاء، فإذا بلغ منها حاجته تركها ليمتطي غيرها؟!!
أين من تشدَّقوا بالديمقراطية والليبرالية والقومية والوطنية وغيرها من النعرات الجاهلية؟ أم أنه "لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية"، واليوم تؤكل أصنام الجاهلية؟
يقول الدكتور محمد إسماعيل -حفظه الله-: "فإذا نظرنا إلى مكائد الغرب ضد هُويتنا المسلمة لعلمنا أن هدفهم الأعلى هو طمس هُويتنا باستبدالها بأخرى أيًّا كانت, سواء هوية وثنية أو قومية أو قُطرية تفتتنا وتشتت شملنا؛ لأن الهدف هو الحيلولة دون أن يكون الإسلام عماد الحاضر والمستقبل, أو هوية عالمية تميع انتمائنا لديننا, المهم هو محو الهوية الإسلامية المتميزة, فصرنا كمن قيَّده عدوه بعد أن جرَّده من سلاحه، وانتزع أظفاره, وخلع أسنانه, ثم وضع الغُل في عنقه, والقيد في معصمه, وإذا به يشكر له هذا الصنيع, ويفخر بالغل, ويتباهى بالقيد, ويعتز بأنه "عبد" لهذا السيد" (هويتنا أو الهاوية).
ويقول: "إن الغرب يكيل لنا بمكيال واحد لا بمكيالين, والمكيال الواحد هو مكيال التعصب الأعمى, والحقد الأسود, والظلم الصارخ للمسلمين؛ فبينما يقوم بإلغاء الحدود بين بلاده, ويوحِّد عملته, ويوطِّد وحدته؛ إذا به يمزقنا إربًا إربًا" (هويتنا أو الهاوية).
فأي ذل وقع فيه المسلمون اليوم، فاستحيى الكثير منهم أن يعلن عن هويته الإسلامية، ورضوا بأن يكونوا ذيولاً لخنافس الغرب الكافر، حتى طالب بعض ذيول الغرب ممن انتكست فطرتهم بأن "نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد وما يُعاب".
قـالـوا لنـا الغرب قلت: سياحة وصـنـاعــة ومظـاهر تغرينا
لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعـى ضـعـيـفــًا أو يـسـر حـزيـنـا
الغـرب مـقـبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا
الـغــرب مـقـبـرة العـدالة كـلما رُفـعـت يـد أبدى لها السكينا
الغرب يحمل خنجرا ورصاصة فـعـلام يحمل قومنا الزيتونا
كـفـر وإســـلام فـأنـى يـلـتـقـي هــذا بـذاك أيـهـا اللاهـونا؟!
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطـه ولكـن ألـوم المسلم المفتونا
وألوم أمتـنا التي مـشت عـلـى درب الخضوع ترافق التنينا
وألوم فينا نخـوة لم تـنـتـفـض إلا لـتـضـربـنـا عـلـى أيـدينا
صيحات المآذن تستنهض الهمم، وتبعث العزائم، وتنادي بأصحاب الضمائر الحية من المسلمين بأن الطريق الوحيدة لعزة المسلم هي التمسك بعقيدته وإظهار دينه؛ فإن "عقيدة المؤمن هي وطنه, وهي قومه, وهي أهله.. ومن ثَمَّ يتجمع البشر عليها وحدها, لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلإٍ ومرعًى وقطيع وسياج.
والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان, إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطى ذلك الرهط الكريم: نوح, وإبراهيم, وإسماعيل, وإسحاق, ويعقوب, ويوسف, وموسى, وعيسى, ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-... (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52)" (في ظلال القرآن).
ولا سبيل لعزة المسلم إلى بالرجوع لدينه والتمسك بكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله قد قضى أن يسلِّط علينا ذلاً لا ينزعه عنا حتى نرجع إلى ديننا، وإذا كان الغرب الكافر يأنف أن ترتفع المآذن للإعلام بالصلاة؛ فهذه خطوة مرحلية لن يكتفي بها، ولن يرضى إلا بانسلاخ المسلم من دينه، كما قال الله -عز وجل-: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة:120).
"وأصحاب الدعوة إلى الله لابد لهم من هذا التميز، لابد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمَّن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم وهم متميعون في المجتمع الجاهلي، فهذه الدعوة لا تؤدي شيئًا ذا قيمة! إنه لابد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية، وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية" (في ظلال القرآن).
صيحات المآذن تربط على قلوب المستضعفين وتطمئن أفئدتهم بأنَّ دين الله باقٍ، وأنه مهما ناءت الأجساد، وتباعدت الديار؛ فمِن المسلمين مَن قلوبهم معكم، وألسنتهم تلهج بنصرتكم، فأفراحكم أفراحهم، وأحزانكم أحزانهم.
ولئن استـُضعفتم في بلادكم؛ فإن المسلمين لا يعرفون فواصل الحدود وموانع السدود، فمرحبًا بكم في أي قطر دخلتموه، وأي بلد ولجتموه.
صيحات المآذن تلهج ضارعة إلى الله -تعالى-: "ربنا أعنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا".
"اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذِّبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك؛ إله الحق".
والحمد لله رب العالمين.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف