أثر الخلل العقدي في الاضطراب النفسي والتضارب العقلي ـ 1.

 

الإمام الغزالي..إمام في الفقه ولا ريب..حتى سماه بعضهم :الشافعي الثاني غير أنه -غفر الله له- زل في الفقه الأكبر..وأبعد النجعة وتحير..وأضع نتفا من ذلك..ليسترشد بها من أراد اختصار الطريق فلا يجرب ما جرب..ويتعظ بما آل إليه حاله بعد حياة حافلة بكثير من الحبر المهراق من وحي سماء \"عقله\"..في الصحائف المسودة بمداد\" الكلام\"..

وكان بمقدوره أن يجعل ما يخطه بياضا في بياض..لو أنه اقتفى الأثر..وترك نظرية النظر

نظرية النظر:

تلقى الغزالي العلم عن الجويني..صاحب الورقات..العالم الأصولي المشهور..الملقب بإمام الحرمين..

وقد غرس فيه \"نظرية الشك\"..أو"النظر\"..بتعبيرهم..وملخصها:انظر ولا تكن مقلدا..انظر في الإسلام كما تنظر في النصرانية واليهودية ..

فالرافضي مثلا ولد عن أبوين رافضيين..فقلدهما..فما هو المعول في الإيمان الحقيقي..قالوا:النظر..واجعل عقلك حكما وقاضيا..

وهذا الكلام:ظاهره فيه الحق والرحمة وباطنه من قبله الباطل..والعذاب..

الغزالي يتحدث عن تطبيقه العملي للنظرية:-

يقول في( المنقذ من الضلال)..\"فكرت وفكرت فقلت: إن الحق لا يخرج عن أربعة أصناف المتكلمون : أهل علم الكلام لعل الحق عندهم، واليقين يُستفاد عن طريقهم،

ثُمَّ الباطنية وهَؤُلاءِ قد سبق أن تحدثنا عنهم حيث يقولون: إنهم تلقوا العلم والهدى عن طريق الإمام المعصوم، وأهل الكلام يقولون: اليقين يتلقى عن طريق العقل والبحث، ثُمَّ الفلاسفة\"

وإن تعجب فاعجب كيف لم يجعل أهل السنة والأثر..ضمن الأصناف التي جعلها محتملة للحق..والسبب تلك النظرية الحداثية التي عض عليها بالنواجذ..ومازال يغرق فيها كثير من الأشاعرة حتى الأذقان

المهم..أن الغزالي درس علوم الرافضة..فلم يكلفه الأمر عناء حتى يدرك كفرهم وهو الذكي الألمعي..

ودخل في الفلسفة وتعمق..فغرق تارة وتارة أغرق..حتى انتهى إلى ضلالهم وكفرهم..وكتب في الرد عليهم :تهافت الفلاسفة

وكما قال تلميذه الفقيه أبو بكر بن العربي:دخل شيخنا في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها التصوف بصبغة أشعرية:-

وانتهى به الشك إلى أن أعلن خطأ الكلاميين في زعمهم أن العلم يتلقى عن العقل..

وخطأ الفلاسفة كان أظهر ..

وضلال الباطنية كان أكبر وأكفر..

فقال:الآن وجدت اليقين..وقرر أنه يستمد من القلب!..أو من الكشف والوجد..إلخ غير أنه ما انتهى إليه كان مدفوعا إليه بسبب نظريته الكبرى التي مستحكمة على على شعوره ومخزنة في \"لاشعوره\"..وهي :النظر التي يتعلمها الأشاعرة عبر العالم الإسلامي للأسف

التناقض من مميزات كل مبتعد عن المنهج:-

يقول -رحمه الله-وهو ينتقد علم الكلام الأشعري إبان مرحلة التصوف:-

“ فيه منفعة، وفيه مضرة.....فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص.

فهذا ضرره في اعتقاد الحق\"

ثم يقول\"وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها عَلَى ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف\"..

فتأمل أيها الحصيف كيف ينفي ما كان أثبته قبل قليل..ثم حين يتحدث عن جنس منفعة الكلام المتوهم..يعبر بصيغة الشك \"فقد يظن..إلخ\"

وصفه لسبب اختياره نهج التصوف

\"وجدت أن أعمالي الماضية في العلم كلها رياء، ولما وجدت أن هذه الأعمال كلها فيها رياء قررت أن أنسلخ\"

ويظهر جليا كيف احتال عليه الشيطان..ولإبليس اللعين على العلماء مداخل..تختلف عن تلبيسه على من هم دونهم في العلم..

وسبب شعوره بالرياء أن المتكلمين يأخذون بلباب المتلقين حيث الإغراق في تفصيل الأمور التي لا تحتاج ذلك..فيتوهم السامع أن هذه الأدلة \"العقلية\"..لم يأت بها الأوائل ضعفا منهم ..

ويزين لهم الشيطان زخرف القول غرورا..فيعظمون ألئك المتكلمين..ويقدسونهم..فيورث في النفس عجبا..يتحول إلى رياء..وقد كان يحضر مجلسه مئات العلماء..كما ذكر هو ذلك..في المدرسة النظامية في بغداد

وحين ندرس حياة الغزالي ونعرض لهذا الأمر..فلا نلومه لأصل ما وقع فيه من رياء كما اعترف هو بنفسه..وإنما لأسلوب معالجته الأمر..

فسلوك المؤمن..إذا أصابته شائبة من هذا أن يستغفر..ويتوجه إلى الله بخالص الدعاء أن يثبته..ويلزمه صراط الذين أنعم الله عليهم..

ويسمو بروحه في خلوة مع الله..ويبتهل إليه في جوف الليل..ويسارع في الصدقات..وأعمال البر كلها\"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا\"..إلى غير ما هنالك مما هو مقرر في مواضعه..وحسبك بما كتبه الإمام الفذ ابن القيم في مدارجه..وشيخ الإسلام في الاستقامة


هجره المدرسة وخروجه في البادية هائما:-

يقول العالم أبو بكر بن العربي صاحب أحكام القرآن..والعواصم من القواصم..وغيرها كنت أمشي في البرية، في صحراء دمشق ، وإذا بشيخي أبي حامد يمشي ومعه عكازه وهو لابس لباساً مرقعاً، ومعه ركوة فيها ماء وهو يمشي في البر، قَالَ: فتعجبت قلت: يا شيخ ألم يكن تدريسك في بغداد ومقامك فيها خير لك من هذه الحال؟ كيف تركت الحلقة الكبيرة والنَّاس والخليفة والوزراء يحترمونك ويقدرونك، وينفع الله بك هناك، أما الآن ما ذا تصنع؟ فأجب: لما طلع قمر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول إِلَى عالم الأصول،

وأخذ بعد ذلك يقول أبياتاً:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل... وعدت إِلَى تصحيح أول منزل


ونادت بي الأشواق مهلاً فهـذه... منازل من تهوى رويدك فانزل


غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجـد... لغزلي نسـاجاً فكسرت مغزلي

أولا-تأمل تعبيراته بالطريقة الصوفية..\"قمر السعادة...فلك الإرادة..شمس الوصول..\"..

ثانيا-يقول في البيت الأول

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل..وعدت إلى تصحيح أول منزل

وهذا جواب \"لما طلع قمر الإردة..إلخ\"..أي لما صار ذلك..تركت


عبر بأسماء فتيات كناية عما كان غارقا فيه من علم الكلام..وكما قال أبو يوسف(تلميذ أبي حنيفة)..\"علم الكلام جهل..والجهل به هو العلم\"

قوله \"وعدت إلى تصحيح أول منزل\"..أي تصحيح مساره الذي وصفه من شعوره بالرياء..وعدم الإخلاص لوجه الله تعالى..ناهيك عن عدم عثوره على اليقين في الكلاميات


ثم يقول:

ونادت بي الأشواق مهلا فهذه...منازل من تهوى رويدك فانزل..

وهذا تعبير عما يختلج في صدره..من شعور قلبي..للانسلاخ من الماضي..وتحرير الذات من الشوائب..والرحيل إلى عالم آخر..كل مافيه..وجدان..وذوق ووجد..حسب رأيه..

وبعدها يقول:

غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد...لغزليَ نساجا فكسرت مغزلي

وهذا البيت عجيب..لأنه يناقض ما سبق

ويعارض ما جعله سببا في التوجه للتصوف..فهو يقول

إنه كلمهم بكلام مستسصعب..دقيق..لكن خيبة الأمل أصابته حين لم يفهم كلامه العمائم الحاضرة..وكأنه يكلم نفسه..ولا يستمع إليه أحد..ولا أحد يفهم ماوصل إليه عقله من دلائل ونتائج وتأصيل كلامي أشعري..كحال رجل حباه الله علما..ولايجد من يفهمه كما يفهمه هو..

هكذا يصف شعوره..فجعل سبب تركه بغداد في جوابه على التلميذ المشفق..أنه لم يجد من يفهمه..في حين قال في البيت الأول خلاف ذلك..وخلاف ما عبر عنه كما سلف ذكره


يتبع بإذن الله تعالى

الكاتب: أبو القاسم المقدسي
التاريخ: 01/01/2007