أمـا آن لكـم أن تذوقوا طعـم الحـــب ؟ للشيخ محمد شقرة |
|
أما آن لكم أن تذوقوا طعم الحــب ؟
تأليف
الشيخ محمد شقرة ( أبو مالك )
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ امَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
عن معاذ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عله وسلم يقول: قال الله عز وجل: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء»
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى ...
أخي الحبيب المحب «أبا مصطفى» وفَّاك الله من حبه ما أنت به حقيق، وروَّاك من سناه ورحيقه ما تفيض به على محبيك فتكون أهله وهو أهلك.
أما بعد:
فقد كنت وعدتك أن أكتب إليك -وأنت قصي الدار، تتدافع الأشواق في صدرك إلى أهلك وإخوانك وبلدك- شيئاً يخفف عنك بعض ما بك من ضراء الغربة، وملالة البعد، والنأي عن الدار.
فكانت هذه الرسالة، أبت إلا أن تشيع، فيكتب لك بها أجرك مرتين.
أرجو أن تذكرني في ملأ من نفسك وحدها، فقد صار المذكور في ملأ من الناس بحب أخ له يحبه محسوداً، يُخشى من العين عليه، والله يكلؤُكَ بحبك، ويكلأُ حبك بك، ويبقى حبي لك فيه موصولاً بحبك لي فيه.
أبو مالك
(1)
أما علمت -صاحبي- أن الحب والبغض أمران قلبيان، لا يُريان إلا بآثارهما، ولا يُعرفان إلا بما يُلقى منهما على ألسنة الناس، ولا يظهران فيهم إلا من بعد موت من يُكِنُّهما، فالمحب قد يُضْمِرُ ما لا يُظْهِرُ، والميت ليس بيده أن يظهر أو أن يضمر، وكثير هم أولئك الذين لا يعرف منهم حب ولا بغض، من حرص منهم أن يصيب الناس منهم نفعاً فيفرحوا به، أو يُكَفَّ عنهم ضُرٌّ كان يحزنهم يوماً فيحذروه.
إنه بخل مُوَثَّقٌ بحبل متين، لا يكون إلا ممن لم يسمعوا يوماً أن في دنيا الناس سخاء، ورجاء يمر بأطيافه أمام عيونهم في آن لا يكون في الناس إلا اليأس من رجاء، تلقاهم على غير عِدَّة، فتعرفهم من لحن القول، وجرس الصوت، ونظرة العين، حتى إذا ما علموا أنك علمت منهم خفيَّ حالهم، وسيءَ أمرهم، وسريرة صدورهم -لاذوا بحيلة أحدثوها سراعاً، يطمسون بها ما ظهر منهم للناس، حتى لكأن شيئاً مما كان وبان لم يكن ولا وبان ولست والله إخال أن في الناس ناساً برمت بهم نفوسهم أن يكون لهم فضلُ كسبٍ من معروف لا يثقل عليهم حمله، ولا يُسيئهم أثره، ولا يحدث لهم وفيهم إلا خيراً.
(2)
ولو كان الحب شيئاً من صنع الناس، فماذا كان يمكن أن يكون من هؤلاء أكثر من هذا الذي كان؟!
إذاً -والحب شيء خلقه الله، وجعله حسناً، وحبَّبه إلى الناس وأقام وجودهم كله في حياتهم عليه- فلا ينبغي أن يفوتهم فضلُه، وفضلُه ليس عسيراً عليهم نواله، ولا شاقاً عليهم إدراكه، ولا صعباً عليهم الأخذ بأسبابه، إذ هو شيء مودع في جِبلاتِهم، وقد مازه الله سبحانه من ضده -وهو البغض- وأجرى لهم من جميع أقطار نفوسهم أسبابه ودواعيه المُرغّبة فيه، وحذّرهم من الأسباب والدواعي المرغّبة عنه، وما أبقى سبيلاً سالكة إليه إلا وأوضحها، ولا عقبة تحول بينه وبينهم إلا وبيَّنها، فكان فضلاً من ربهم جمعه إلى مُودَع الفطرة، نعمةً سابغةً، مطولةً بندى الإيمان -والخضوع لأمره سبحانه، من غير جحود لها ولا نكران. ولا يكون الحب هنيئاً بهنيء، ولا مريئاً يُمْرِىُ إلا من أهله، وأهله هم الذين يعرفون حكماً شرعياً يُخْضَعُ له ويُستجاب، ولا يضعونه إلا في مواضعه التي لا يخالف عن الحكم الذي فرضه الله سبحانه على عباده، فكان منهم ومنهم.
(3)
أما الذين يرون في الحب سبباً واصِلهم بنفع يرجونه، أو هو مبعدهم من ضر يخشونه، حتى إذا ما كان لهم ما يرجون أو يخشون، أعرضوا عنه، وولوا الأدبار له، حتى نسوه، بل وأبغضوه وكان حقاً عليهم أن لا يكون منهم، بعد أن أُوتوا ما أتوا منه -ألا يكون منهم إلا ما يكون من شكر الله، أن كان لهم بالحب ما كان، وأن يبقى فيهم قائماً على سخط ورضا، ولو أنهم فعلوا ذلك لواروا سوءات نفوسهم التي أضلّتهم عن سواء القصد، بما وجب عليهم من حفظ حق الحب، وأن لا يكون منهم بغض إلا لنفوسهم التي كزَّت الحب وأضجرها تبعته الحسنة اللطيفة، وحسب ما يكون منه مثل هذا خروجاً عن سواء الفطرة ونبالتها.
(4)
وإذا كان الحب شيئاً من خلق الله سبحانه، وهو الذي أودعه أمراً يعسر على الخلائق كلها -أنيسها ووحشيِّها، جامدِها ومتحرِّكها، قويِّها وضعيفها، عاقلها وغير العاقل منها- أن تعيش بغيره، وأن يكون ائتلاف بينها -المتماثل والمتشابه، والمتنافر والمختلف، المتقارب والمتباعد- إلا به، وهو الوشيجة الخفية، التي تجمع، وانقطاعُها، أو ضعفُها، أو ذهابُها، يفرق ويبدِّد ويباعد: إنه السر العجيب الذي أقدره الله على مثل ذلك التأليف والجمع، وبدونه لا يكون شيء منه، فهل يكون حسناً ممن وهبهم الله العقل الذي يقدرهم على تلقي الخطاب الشرعي، وفهم فحواه، ليحملوه تكليفاً، على مقتضى الطاعة والإخبات، والإذعان المطلق، والتسليم الخالص -أن يقرءوا قول الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإذا ما قرأ مثل هذه الآية علم أن ما كان من هذا التأليف بين قلوب الصحابة رضوان الله عليهم ما كان منه من شيء أن يكون إلا بالحب، وهو النعمة التي شغفت بها قلوبهم، واستضاءت بها صدورهم، وارتحلت إليها إراداتهم، فالتقت جميعها على أمر قد قدر لها، واستُجيشت منها وجداناتهم، وأنالت منها من جاء من بعدهم من القرون القارة في غيب المستقبل، حتى لكأنها حاضرة فيهم، تراهم، وتسمعهم، وتلقف ما ترى وما تسمع على رجاء أن يكون منها لمن بعدها مثل الذي كان لها من أولئك الأعيان الأخيار من صحابة محمدصلى الله عليه وسلم الأطهار، حبَّـاً لا يعرف للآخرين إلا بمثل ما كانوا له وعليه ومنه وإليه، من إيمان وإسلام وإحسان.
(5)
ثم إن كل آية في القرآن إذا استحضرها المرءُ المؤمنُ، استحضر كل ما يماثلها بلفظه وبمعناه من كلام الله سبحانه، لا يفلت منه إلا بنسيان، أو ذهابٍ بجهل أو بغفلةٍ، وسواءٌ أكان هذا الاستحضار برؤية عينٍ، أم بسماع أذن، أم بتخيُّل ذهنٍ، فهو على سواء الأمر من إدراك معنى قوله سبحانه: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
(6)
وليس من شكٍّ، في أن إصابة النعمة لا تكون إلا بمثل ما أصابها السابقون المُخِفُّون، أما المثقلون بأرزاء نفوسهم إلى الأرض، الراغبون عن الحب، الضالعون في البغض، الذاهبون في سواد النفور، فأولئك كان سعيهم كؤوداً كدوداً قعوداً، لا يمسهم إلا من زيادةٍ مما هم فيه، ولا يمس من كان على رجاء من رجاء السابقين المُخَفِّين، إلا أذى، لا يضرهم، ولا يكف أيديهم عن برور خير، يعود نافعاً ناضراً على الناس، فمن كان على صفاء نفس، ورقَّةِ عاطفةٍ، وشوقٍ شائب بشكره نعمة، فهو على ذكر لمثل قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس أنفعهم للناس» وتلكم الخيريَّة لا تكون إلا من مثل من كان على صفاءٍ، ورقَّة، وشوقٍ، لا يتكلف شيئاً منها، لأن التكلف لا يصلح ميزاناً عدلاً لأحوال النفوس، إلا ريثما تصادِفُ موقِعَها المتكلَّف، فتزول عنه سريعاً، والحب السليم يأبى على صاحبه إلا أن يكون هو الموطِنَ السليم الأمين عليه أن يثلم أو يخرق أو يكسر، حتى يوافي بسلامته وتمام خلقه، المفطور عليه، القلوب التي تكون أهلاً لحلوله منها، بما أعدت له من حال لا تنكر إلا حين تذهب عنها تلك الحال -إذ هو الأهل لها- وذهابها عنها لا يكون إلا بسقوط التكليف الشرعي عن أصحابها، أو أنها من بعدهم ترقد معهم غياهب القبور.
(7)
وأمثل الحب وأحسنه ما يكون منسوجاً من طاعة الله ورسوله، يُلقي المرءُ نفسه به شاخصاً على باب الرضا، يفتح له على مصراعيه، بالهمسة الرضية، أو البسمة الحَفية، أو الهجسة القلبية الخفية، يتخير لنفسه حين يدخل منه أيّ مكان يحب، وايّ طيب يصيبن وأيّ ثوب يرتدي، لا ينبغي عنها حولاً، وينظر بعينيه في كل جهة، ويُصعِّد بصره في كل أفق، ويدور بفكره في كل جزء، فلا يدرك بكل ذلك إلا ما يدرك الصبُّ الموله من وجه من يحب بعد طول غياب، لفعه ضبابُ الأحلام في يقظة القلق ونوم المضطرب، فلا القلقُ بذاهبٍ منه، ولا الاضطرابُ بمدبر عنه، حتى إذا التقى محبوه فزع إليه قناطير قلقه، وتقطع اضطرابه، وبات ليلاً قرير النفس، هانىء القلب، يُمَنيّ نفسه أن تكون إلى جانب قلبه حين يلتقي محبوبه، فيكون فرحاً عارماً لا يُصدَّع عنه بخمرة ولا يُنزَف بسورةٍ.
(8)
وكان ليلاً طويلاً أسبغ عليه رداءه، ومزَّقت ظلمته فتسلل النورُ إليه فرأى في سواد الليل الطويل أمانيَّه ترقصُ في جلوة ضوء النَّهار فكان الليل بعضاً من النهار، تقارباً وتواصفاً وتداخلاً، فكأنما الليلُ هو النهار، وكأنّما النهارُ قد أخفى تحت جناحه الليل، فنعمَ وأنعَمَ، وأخذ ووهَب، ودنا وتدلى، وأوحى إلى العاشقين الوالهين ما أوحى، فتعانقتْ منهم القلوب، وتهاتفتْ باسم ربها الأبصار، وتناجت أنفاسُها في دجى الأسحار، وعزفت أنغامَها العِذابَ الساحرة رهيفاتُ الأوتار، وزاد من لذة صوتها ورنين أنغامها خفيفُ أوراق الأشجار، واجتمعت على صعيد القلوب، الرقائق المسبِّحة بخالق الليل والنهار.
(9)
واعلم يا صاحبي، أنه ليس من حق من أسلم قلبه الله في طواعية، وأناخ راحلته عند بابه في غادية وسارية، أن يحب كيف يشاءُ، ومتى يشاءُ، ومن يشاءُ، إذ الحب -وهو شيء مما خلق الله سبحانه- نوع عبادةٍ، يتقرب بها المُحِبُّ إلى الله، وبما أن الحب ومن يحب من خلق الله، فليس يَجْملُ بالمُحِبِّ أن يُحبَّ إلا على وفاق ما يحب الله ويرضى، وحبُّ الله لا ينفكُّ عن ذاته، لذا، فإن حقاً على المحب ممَّن خلق سبحانه -وهو شيء يكون في صاحبه- أن يستحضر رضى الله في حبه، وفي بغضه- من غير أن يكون لنفسه سلطانٌ يدنيه إلى أحدهما في غير رضى الله سبحانه.
(10)
ونحن في زمان أضحى الحب فيه سلعة تُباعُ وتشرى، وليت الثمن الذي يدفعه الشاري للبائع يزيد من قيمتها إذا قلّت في السوق كغيرها من السلع، أي حين يصير الطلبُ أكثرَ من العَرْض، بل لقد أقدم على سَوْمِها الفقيرُ المُعْدَمُ، والشراة والبائعون صاروا فيها من الزاهدين، أما البائع فقد سَئمها لقلة من يسومها أو يطلبها، وأما الشاري فقد اغتنى عنها بأحسن منها عنده، لقد صار البغض هو الأحب والأقرب إليه، وبعض آخر لم ير من فرق عنده بين الحب وبين البغض، فيحل هذا مكان هذا، وذاك مكان ذاك، فالأحسنُ الأحبُّ إليه ما يجرُّ إليـه نفعاً، أو يُصلِحُ له شأناً، في غير تحرُّر من شبهةٍ ولا تعفُّفٍ عن حرام.
(11)
وكان العلم يأتي الناس غداة، فلا يأتي وقت الأصيل إلا وقد ذاع وانتشر، ومشى فيهم وظهر، يتنافسون في رغبة في العمل به كما يتنافس أهل الدنيا دنياهم، فما كان العلم فيهم إلا محباً، ومحبوباً، وساعياً إليهم، وهم يَسْعَوْن سراعاً إليه، يزيد بالعمل، ويزيد العمل به، فكان كل واحد منها يشاطر الآخر حُسْنَه، ويركِضَه إليه، ليبقي فيه على وصله من غير ملالةٍ ولا تضجُّر، فيحرز العلم بأهله المحبية، ما يحرز أهله المحبوه منه، يقبل الواحد منهم بالمسألة على العلم يتزود منه، فلا يرضى منه ليعطيه إلا أن يرى منه حرصاً على التي عمل بها أن تظل حاضرة فيه، لِيَكبُرَ وتعظمَ عنده بغيرها، تأتيه في بكور وعشي، وفي ليل ونهار، وفي عافية وسقم، وفي سخط ورضى، فلكأنما الحب -وهو كذلك- وليدُ العلم، ولكأنما العلم صنيعهُ الحب، فلا يجد الحب مأوى له يأمنُ فيه على نفسه إلا في ثوب العلم، ولا يجد العلم مكاناً يسرد فيه فضائله الجالِبَها للناس إلا بالحب المبذول فيهم، فأين يقف العلم اليوم من أهله الأدعياء؟ وأين يكون الحب فيهم، وقد صار العلم إلى بَوار ودُوار؟ فتنافرا، وتساورا، وتحاورا، وأدار كلٍّ منهما ظهره للآخر، مشحوناً للآخر، مشحوناً بالبغضاء المرتحلة إليه بصديدها القديم الآسن، أوتيها بشعار التربص المتسربل رداءَ الكبر المحرَّق، على غير رضى إلا من الشيطان عدو المؤمن الأول، بشعاره المرقوم على قلبه وجبينه: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} و {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
(12)
وإذ ذلك كذلك فقد صار الحب مضغة يلفظها الشيطان من فيه، كريهة، خبيثة، سوداء، يستبقها أولئك الذين يرسمون اللحى على وجوههم ويقطعون البسمات على شفاههم، ويقبلون ويدبرون بسوءاتهم الخفية والظاهرة، مختلطة ومتمايزة في آن معاً، يقولون في أنفسهم ما لا يبدون، ولو أن لنا من علمنا ما لا يكون منه إلا ما يحور إلى سرد غرائز جديدة، نصنعها على أعيننا، تخفى ملامح الحب التي تجاهر بالأسرار المكتمة في قطع من الليل المظلم، يريدنا أن نبقى على وصل بها -على ما يكون منها لنا من خير ضئيل فاتر، ما يكون لنا أن نرضى به إلا من شحّ موصول بشحٍّ مثله، وما عهدنا بأنفسنا إلا أن نجعل من الحب بُضعة نظهرها في الناس هزيلة جاسية، وما كان للحب أن يكون ألهية تافهة تارة، تكون درة تستعصي على الغوَّاص الماهر، وتارة تكون طافيةً على سطح الماء، يسهل أخذها بيد السابح البادئ، وتارة يقذفها الموج إلى الشاطئ فيتناولها الطفل بيده الصغيرة، ويَمضي فرحاً يباهي بها أترابه.
==
(13)
إن الحب جوهرة نفسية ثمينة، لا تستعصي الإفادةُ منها إلى على العاجزين منها، والعجز لا يأتي من بُعدِها، ولا من غيابها، أو اشتباهها بغيرها مما قد يشبهها، هذه كلها وغيرها، ليس لها من سبيل إلى تلكم الجوهرة النَّفسية الثمينة، فتُعْجِزُ الراغِبَ فيها عنها، فالطريق إليها ميسرة سهلة لكل راغب فيها، وهي قريبة ليست بالبعيدة، إنها جزء من الفطرة الكبيرة الكامنة في نفس الإنسان، وليس في دنيا الناس شيء ينابذ الفطرة، إلا إن كانت الفطرة مخدوشة بفعل فاعل، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» والفطرة كلها تلتقي وتجتمع في صفاء مؤتلف، وفي نقاء لا يُختلف على أُمِّها وجماعها كلها وهي فطرة الدين، فتأخذ فطرة الحب من أمها -وكأنما هي مرضعتها- قدراً يحفظ عليها سلامتها- ليظل عطاؤها كاسلاً غير منقوص، موصولاً غير مقطوع، لا يَفسُدُ على الأيام، ولا يُسْأمُ مع الأعوام.
(14)
والحب قوة محكمة البناء، ليس في وسع أي إنسان أن يقاوِمِهَا مهما بلغ من قوة، أما من كان سويَّ الفطرة، فقوته بفطرته تقوده إلى الخضوع إلى الحب، بما فيه من شوق راغب، ورغبٍ شائق.
(15)
والحب لا يستعصي على المحب إن أراده بصدق، ولا يتأبَّى عليه إن سعى إليه برغب، ولا يقتات من صديد الأعراض، حين يكون المحب باذلاً من نفسه له، أما من أراد الحب بظاهر لحن القول، ورغب عنه في باطنه، ويخادع الناس في علانيته، فذا حبٌّ لا يكاد يخطو إلى الأمام إلا ريثما يعود حسيراً، ولا يُقبل على من يريده وهو يجهلهُ إلا ريثما تبدو سوأتُه، ولا يعطي من يريد الأخذ منه، وهو يفضي إلى ضُرٍّ يبلغه بحب له.
(16)
وإذا رأيت الناس يدبرون عن الحب، وأسبابه، ودواعيه، فاعلم أنهم قد صاروا إلى أرض مُسْبعةٍ يتيه فيها الأمنُ بعد فِراره منهم، ويطير من قلوبهم الرجاءُ فيما عند ربهم، بعد أن قد كان أولاهم منه نعمة وفضلا -وبسط رداءَه السابغ عليهم، فأصابوا منه برورا، ما كان ليكون إلا من حب أنالهم من ذاته، وأنالوهم من ذواتهم.
(17)
وهم لا يدبرون عن الحب إلا من فساد أرخى ذيوله عليهم، فأعجزَهُم أن يُبْصروا طرفاً منه، إذ غَشَّي أبصارهم، أو أن يسمعوا حسيساً له، وقد أوقروا آذانهم بطنين البغضاء، أو أن يدركوا بعض آخره، وقد أثقل أرجلهم بقيود الياس أن يكونوا من أهله، فهو عطوف شفيق بمن له به ولو أدنى تعلق، فلا يرضيه قطُّ أن يتسلل أناسٌ في خفاء، ليحولوا بينه وبين أولئك الذين نشأ بينه وبينهم إلفٌ يحفل بالرضا والصفاء، والنقاء، إلا ما يعروه من بعض فتور يدركه، مما يكون من أهله، فهو لا يرضيه أن يطوف به أناس في ليلٍ أو نهارٍ، همُّهم أن يَقيئُوا من أفواههم ما كان الأولى أن يُخرجوه من أستائهم، لكنها ضاقت حتى لم تعد قادرة على إخراج شيء منها، فباتت حزينةٌ كئيبةٌ أن كرهت الحب، أو كَرهَها الحبُّ، فأصابها ما أصابها، فكانت بهم وبها عبرةٌ صارمةٌ، أوجَعَتهم، وقامت فيهم على عِدّةٍ منهم، أن يغيِّروا ما في أنفسهم، فَتُغَيِّرَ هي ما عندها، وتلك هي السُـنَّة التي أجراها الله قانوناً، لا يخالف عن الفطرة السليمة، التي أودعها الله سبحانه خلائقه كلها {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
(18)
والحب هو قطب الرحى تلتقي عنده، وتجتمع إليه العقائد والأحكام والأخلاق في غير ما تنازع، ولا تنافر، ولا تحاسد، ولا تختلف هذه جميعها، على أن الذين يصطفيهم الحب لها بنفسه هم الجديرون بأن يكونوا عَيْباتِها الحافظة الواقية لها، فهو اصطفاه لا يخطئ، ولا يكون من الحب مثله إلا لسر يعرفه فيهم، فكما أن للحديث الصحيح نوراً يهدي أهلَ الحديث إليه، فيعرفوه بسيماه، من غير نظر ولا بحث في سنده، فإن فيمن يصطفيهم الحب ليكونوا عيبات حافظة واقية للعقيدة والحكم والخلق -سراً دقيقاً، خفياً، مستوراً في سويداء القلب، يراه، ويعرفه بسيماه، فيخرجه لمن يصطفيهم أن يكونوا تلكم العيبات لتلكم الأخلاق والأحكام والعقائد، وإلا فكيف كانت ستبلغنا نحن المسلمين يوماً، محكمة قائمة، بعد أن ارتحل من الدنيا المصطفى المجتبى المرتضى من ربه سبحانه، أن يكون هو العيبة الكبرى لتلكم كلها، التي حملها صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، راغباً فيها لا عنها، باذلاً نفسه ليس ضاناً بها؟
(19)
إنه الحب الكبير الذي ما وسعه إلا ذلك القلب الكبير، العيبة التي حفظت الإسلام بكل عقائده، وأحكامه، وأخلاقه وفي الحياة وبعد الموت، لتقوم شاهداً في الناس وفي جميع الأعصار والأمصار، إن الحب هو رسالة الأنبياء جميعاً، وإن هذا الحب لا يضمر من اصطفاه الله له، إلا رغبة في بذل المعروف للناس كافة، من غير تفريق بين من يواليه بإحسانه، وبين ما ينابذه ببغضائه، أما الموالي بالإحسان فلولائه بإحسان، وأما المنبابذ بالبغضاء، فلما يكون من عطف وشفقة يبذل بهما له ما يستبين به سبيل الرشاد، فينأى الموالي عن الشوك المدمي، وخرط القتاد، ولو كان لنا نحن البشر أن نختار اسماً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لاخترنا له... الحب اسماً، نشتقه، أو نجمع حروفه من قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، ومن قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}.
(20)
والحب كالمطر يأتي على انتظار أو على غير انتظار، يسقي الأرض وينبت الربيع ويَروي الظمأ، ويملأُ النفوس فرحاً ورجاءً، ويذهب باليأس القابض على صدور الجياع المحرومين، ويهتك الضباب الذي يغمر الوديان والجبال، ويمحض الآفاق من بعد والحياة رَوْحاً وبهجةً وسكينةً، وتطوف بين ظهراني الناس، تضع عنهم الآصار الثقال، وتزحزح عن صدورهم الكروب الشداد، وتمسح عن وجوههم غبرة الضراء الثقيلة.
(21)
وهكـذا الحب، الحب الذي لا يُساعي بالبغضاء،
ولا يُشاب بمزيج الكبر الصاغر وأنينه، ولا يُراد بانتقاص لذته التي جبل عليها بشيء يصرفها عنه فإنه، يصوغ النفوس صياغة تتقرَّاها الحواسُّ بجُمعها، وتطرب الآذان لها بصوتها، وتمتد لها العيون بشعاع إبصارها، وتجتمع كلها لتصنع -على تقدير دقيق من تفكير الحب وقصده وإرادته- صورة لا تقدر على مثلها الإرادات مجتمعة، إن مالت عنها إرادة الحب، إذ هي وحدها التي لا تنازع في أخذ وإعطاء.
(22)
وإذا ما رؤُي للحب مثل هذا، فإنما يكون بمنازعته إياه شيئاً من أضداده، التي لا ترجو له إلا ما يسرع إليه بالتشوه والعجز، والقعود عن القيام بالأمر الذي وكل إليه بالفطرة التي فطره الله عليها، ولولا أن منَّ الله سبحانه على الحب بما منَّ به عليه من معرفة مبصرة بالأشياء البعيدة المنال عن غيره، أن تصيبه أدواءُ السوء الباهظة، لما بقي للحب مكان على صعيد النفس، حتى لو كان لها مع الحب أمدٌ بعيد، ذلكم ان الحب لا يكون -بما فُطر عليه من رغبة في إصابة الخير حيثما كان، وأنى كان، ومتى كان- إلا مرجوا ممن له به تعلق، لا تفتأ أن تتداعى إليه الباقيات الصالحات، والراغبون فيها إذ أنهم قد عرفوا فما كانوا يبغون عنه حولاً، لذا فإن حقاً عليهم أن يُقدّموا لمن لم يعرفوا الكأس التي شربوا منها أو سُقوا منها الحب، ليعلموهم أن الحب -إذا ما ذاقوه أو شربوا من كأسه ولو قليلاً- لا يكون منهم إلا التعلق الشديد، فيكون لهم فضل كبير أنالوهموه، فلا يكون من صلاح الإيمان لهم وتمامه وحسنه، إلا بما أحبوا لإخوانهم أولئك، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
==
(23)
والحب هو العنصر القلبي الكبير، الذي لا تصلح القلوب إلا عليه، ولا تَنْفُس الأنفسُ إلا به، ولا تسمو العقول إلا منه، وعناصر القلب كلها، وأعمالها جميعها، وشذراته صغيرها وكبيرها لا تأتلف إلا عليه، ولا تزكو إلا به، ولا تشتد ولا تقوى إلا فيه لذا: فإن حقاً على من عرف فضل هذا العنصر القلبي، أن لا يدع سبباً من الأسباب التي تنتهي إليه، وهي عنده معلومة مدركة لا يمتد إليها البصر على بعد، ولا يطيل الفكر عندها على استقصاءٍ وبحث، فقد عُرف هذا العنصر وعُرف فضله، وذاق من حلاوته، فمعرفة تلك الأسباب التي تُبقي عليه، وتشد من أزره، أيسر وأسهل عليه، وانتقاص هذا العنصر حقه، أيَّ شيء من حقه، يُحدث ولا ريب خللاً ظاهراً فيه، ثم هو مُحدثٌ من بعد خللاً من كل العناصر القلبية والنفسية التي تفزع إليه في الشدة، ويكون لها حظ كبير من قوته في الرخاء، فرحاً، وراحةً، وامتلاء، وليس أضرَّ على الحب من أن يدعى أو أن يعتدى عليه بالتبعيض أو أن يتخذ ذريعة للاستحواذ على المنافع الدنيوية، وهذا صار في الناس كثيراً، حتى غدا الحب مسخاً ممقوتاً، لا يُرى إلا مهزولاً شاحباً، ولا يُسمع له إلا نشيج مرير وتأوه غائر، أو لكأنما حيل بينه وبين الناس بظلام ملبَّد كالح، يمشون إليه زرافات ووحدانا، وكلما دنوا منه أوغل في البعد عنهم، فما أصابوا إلا جهداً ضائعاً، وكلالاً ضنكاً يروحون فيه ويغدون، فأين يكون البغض من مثل هذا الحب، إن مثل هذا الحب لهو أشد بغضاً من البغض، ومن كان يرجو من مثل هذا الحب شيئاً يمرأ، فإن قراءته أمرأ في البغض وأطيب مذاقاً، فليدع الإنسان حينئذ الحبل على غاربه لنفسه، تختار بغضاً يحب مثله، أو حباً يبغض مثله، فهما متشابهان، بل متماثلان فَقَدْ فَقَدَ الحب لذته، وذهبت من البغض صَرْمَتَهُ، فخير لهذا الإنسان حينئذ أن لا يحرص على ضنك الكلال، بضائع الجهد، ولكن هيهات هيهات أن يعقل الحب بصفاء لونه وطيب ريحه، واستواء سوقه وقد ضرمت نار البغضاء في صدور الصفوة من أهل العلم والدعاة، فكانت فيهم، كأنها النار التي ألقي فيها نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام؟ يتقلبون فيها والأهواء أرديتهم، ويصطرخون في شوبها ومن فوقهم ومن تحتهم أوزارهم، أثداؤهم وألسنتهم ممطوطة مختلجة بالجهل، ليس يفرحهم إلا خلافهم، فأين هو عاقلهم من جاهلهم من سفيههم، لقد صاروا رماداً سافياً من نار بغضائهم. أما الحب فقد تُودع منهم وتودعوا منه وصار حلماً صفيقاً مزعجاً لهم في نومهم ويقظتهم. ألا ساء ما يحكمون!! فمتى يكون منهم أوبة إلى العلم الذي أحسن إليهم يوماً، فكرُّوا عليه بالنسيان تارة، وبالأعراض عنه تارة، وبالهجر تارة، وبالتنكر لأهله والمحسنين به تارة، إلى غير ذلك مما كان ينبغي أن يتحسس خفيُّه وعلنيُّه، من قبل أن يصير المُعلن منه خفياً، ومن قبل أن يصبح الخفيُّ غوراً سحيقاً يستحيل تحسسه.
(24)
والحب يا صاحبي ليس سُنَّةً محدثة، ولا حكماً منقطعاً، ولا عملاً مردوداً، ولا أصلاً زائلاً، إنه شريعة قائمة في الأمة إلى قيام الساعة من أخذ بها رشد، ومن وقف عند بابها سعد، ومن جعلها لنفسه ملاذاً ودعا الناس إليها استقام على الأمر.
إن الحب من أرشد العمل.
وأفضل ما تجمع الإرادة عليه.
وأحسن ما تقف عند الرواحل.
من أصاب منه آب إلى ربه بالطاعة والرضا.
ومن أفضل به على نفسه رجع به إلى هناءة القلب وطمأنينة النفس.
ومن جمعه إلى نعمة الرضا أوسع به على المحرومين.
إن الحب زينة الحلماء العقلاء، وصنعة الحكماء الأتقياء، وسند الضعفاء الأخفياء.
القنوط لا يعرف الطريق إلى قلوب المحبين.
والحزن لا يجد له مكاناً في ركائب المحبين.
ولا مكان لشوكة واحدة في باقة نسفتها أيدي المحبين.
==
(25)
إن الحب كُناسة قلوب الأتقياء.
ورماد حرقة نفوس الأصفياء.
وطيب عيون الخُشّع السُّجّد الرُّكَّع في ثلث الليل الآخر.
فلا تدع يا صاحبي لهذه الكُناسة فَرَقاً، فأوكِ عليها حفظك.
ولا لهذا الرماد مكاناً إلا صدرك.
وإياك إياك أن لا يكون هذا الطيب شميمَك.
فوالدَّي رفع السموات بغير عمد، وبسط الأرض وسوَّاها بلا مدد، وبرأ النسمات بلا عيٍّ، ولا كدٍّ، ليس أحسن من الحب أن يكون في قلب الإنسان، ولا أروح للنفس منه، ولا أعود على الجماعة لائتلافها عليه منه، أفلا يجدر بالعاقل أن يملأ قلبه بالحب؟ أفليس حرياً بالمؤمن أن يسارع لقطف ثمار الحب قبل أن يسرع اليأس إليه؟ هل من الحكمة أن يدع طالب العلم ضرام الحقد يحرق ثوَّار الحب في صدره من أجل فورة الشهرة المتبوتة، أو دراهم معدودة، أو تنافس لباسُهُ الحسد، وسُداه الغيظ، ولحمته غثاءُ الصدر والكبر والتهاجر المقنَّع بالأسى والتَّغايُر الكدود اللدود.
(26)
نعم: الحب لا بدَّ فيه وله من المصابرة، واحتمال المكروه على رضى بقضاء الله، وليس عجيباً أن يكون الحب أحوج للصبر عليه من كل المكاره التي تجتاح القلب، لأن ما من أمر سهلٍ أو صعبٍ، من أمر النفس أو الجسد، ومن أمور الدنيا والآخرة، إلا وله تعلق وثيق بالحب، فإن كان الأمر مما يحب فإن الإنسان يحرص عليه ويزداد به تعلقاً، وإن كان الأمر مما يكره فإن الإنسان -لحبه أن لا يكون فيه، أو أن يدركه بعض منه، أو أن يحدث له شيئاً يكرهه- يسرع إلى حبِّه يستحثه على إزالته والتخلص منه، خشية من أن يستقر فيه، ثم يصعب عليه أن يخرجه أو يزيله، بل ربما استعصى ذلك عليه فلا يكون حبه هذا مخرجة منه، فيهبط قلبه به، ويزداد ثقله عليه يوماً بعد يوم، ثم لا يجد من نفسه إلا اللواذ بالبقية الباقية من حبه ناظراً في ذلك إلى قوله سبحانه: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ثم يسلم الله بما قضى فيه فيكون الحب والصبر دائبي التذكير له، بأن ليس له منهما إلا ما يكون من إيذان له منهما، بأن لا راد لقضاء الله فيه ويكون بذلك قد فاز بموعود الله سبحانه «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له». وبمثل هذا يكون للعبد المؤمن حظ أوفر من الحب، الذي يزيده من تعلقه بربه، والرضا بقضائه فيه، والتسليم لأمره في كل ما صار إليه، وهذا يُصيِّره إلى باب الرضوان، وعتق النفس من كل أوضارها، وعروجها في سلم العبودية، لتفنى في ذوب النور السرمدي، فتكون شيئاً -ولو يسيراً- منه، فيكون على أقرب منزلة من منازل الحقيقة، التي لا يعرفها إلا من أذن الله له أن يكون حالاً فيها بماديته، بحسناها وزيادة منها، فأيُّ عبد هو بمثل هذه العبودية المكنونة بالنور وفي النور، ليبعث يوم القيامة متجلياً بصورته المادية البشرية في أبهى النور وأسناه، وهو بها شيء منه أو كأن!
(27)
أليس من حق الحب على الناس أن يعظموه في نفوسهم، وأن يوقروه في صدورهم، وأن يتوارثوه جيلاً عن جيل، وأن يتواصلوا به فيما بينهم، وأن يكون الرجاء الذي تصَّاعدُ فيه الرقى، وأن يقيموا عليه فقههم في الدين، ينفون به عن أنفسهم الهوى والجهل، ويسعدون به حياتهم بالعلم الصحيح، من غير مراء ولا ارتياب، ويصدُّون به عنهم ما يحاك لهم في أكناف الظلام العاتي، فواالله إن للحب مذاقاً لا يدركه إلا العارفون، ولوناً لا يراه إلا المبصرون العاملون، وجرساً لذيذاً، لا يقع إلى في أسماع المحبِّين المرهفين، فهلا كان لمن نحب ونخشى عليهم الفتنة -بإعراضهم، وتسورهم بواطن الغيب، وإخلادهم إلى الوقيعة في براءات المخبتين- أن يتخذوا من الحب سلماً يرقون به في رضا الله، وميزاناً يعدلون به في الأرض التي يحثون من فوقها خطاهم، ورجاءً يسمو بهم إلى ربهم في سر وإعلان، فكم -واالله- من خير فاتهم إذ كان منهم فوت للحب، وكم -واالله- من حسن هبت رياحه عليهم فضنوا به على أنفسهم إذ ضنوا بالحب عليها، وكم -واالله- من بِرٍّ كان له جلال يمسون فيه ويصبحون، فغدوا منه على حرد، إذ كانوا على الحب لائمين، فأيما حب هذا الذي يدَّعون وفي لبه يلحدون؟!
==
(28)
إن الحب شيء لا يصلح شيء في دنيا الناس إلا به، ولا يستقيم أمر الحياة إلا عليه، ولا يُدْني من حق وصواب، ولا يباعد من باطل وخطأ إلا هو، ولا تصافح السماء الأرض، ولا تشتاق الأرض إلى السماء، ولا تأخذ هذه من تلك، ولا تعطي تلك هذه، إلا وحبل الحب ممدود بينهما، فمن أراد أن ينقض فتله أو يوهن قوته، فقد أراد سوءاً بنفسه، وأوقعها في حوب مكر لا يضاهي فيها، واستاقها إلى عاقبة لا يحسن معها شيء ولا ينفع، حتى ولا جلاد الصبر، ولا مرَّة الأجساد، ولا نفاذ الأمر وشدته.
الحب ليس سُنَّة محدثة ذاهبة ولا حكماً منقطعاً، ولا أصلاً منتهياً، إنه شريعةً قائمة في الناس إلى قيام الساعة. من أخذ بها رشد، ومن وقف عندها سعد، ومن أصاب منها رضي، وإياك أن تملها، أو تمن بها، أو تستكثرها، فإنها نعمة لا سعادة للإنسان إلا في ظِلالها وأطيافها الحسان. واالله يحب من عباده المحسنين فأحسن بها إلى نفسك، ولا تضن بها على غيرك، وابذلها طيبة من فضلك، وإياك إياك أن تندم على غيرك بذلك، واسلم لمحبك المحب.
أبو مالك