قصة عجيبة وبليغة وحقها أن تنشـر والله

 

قصة بليغة ذات معان رائعة حدثت في القرن الثالث الهجري في بغداد،وأبطالها العالم الفقيه أحمد بن مسكين، والعابد الزاهد بِشر الحافي، وأبو نصرالصياد.

و القصة عرضها بأسلوب شيق ،  الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعيالذي قال على لسان أحمد بن مسكين: قصتي أني امتُحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومئتين،وانحسمت مادتي وقحط منزلي قحطاً شديداً جمع عليّ الحاجةَ والضر والمسكنة.

ثم خرجت بغلس لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن السماء تكون فيه! ولما قُضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله تعالى، وجرى لساني بهذا الدعاء: (اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي يصلحني بطاعتك، وأسألك بركةالرضا بقضائك، وأسالك القوة على الطاعة والرضا يا أرحم الراحمين .
سمكة ورقاقتان

ثم جلست أتأمل شأني حتى إذاارتفع الضحى وابْيضّت الشمس خرجتُ أتسبّب لبيع الدار، فما سرت غير بعيد حتى لقينيأبو نصر الصياد فقلتُ: يا أبا نصر أنا على بيع داري فقد ساءت الحال، فأقْرضني شيئاًيمسكني على يومي هذا حتى أبيع الدار وأوفيك .

فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديلإلى أهلك، وأنا لاحق بك إلى منزلك، ثم ناولني منديلا فيه رقاقتان بينهما حلوى،وقال: إنهما والله بركة الشيخ.

قلتُ: من الشيخ وما القصة؟

قال: وقفتأمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناس من صلاة الجمعة، فمر بي بشر الحافي، فقال: مالي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق، ولا خبز، ولا درهم، ولا شيء يبُاع،فقال: الله المستعان، احمل شبكتك وتعال إلى الخندق، فحملتها وذهبت معه فلما انتهيناإلى الخندق، قال لي: توضأ وصل ركعتين. ففعلتُ، فقال: سم الله تعالى وألْقِ الشبكة،فسميتُ وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل، فجعلت أجرّه فشق عليّ، فقلت له: ساعدني! فإنيأخاف أن تنقطع الشبكة، فجاء وجرّها معي، فخرجت سمكة عظيمة، لم أرَ مثلها سمناًوعِظَماً وفراهة!، فقال: خذها وبِعْها، واشترِ بثمنها ما يُصلح عيالك، فاستقبلنيرجل فاشتراها، فابْتعتُ لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلتُ وأكلوا ذكرتُ الشيخفقلت: أهدي له شيئاً، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى، وأتيت إليه،وطرقت الباب، قال: افتح وضَعْ ما عندك في عن الباب وادخل، فدخلت وحدثته بما صنعت،فقال: الحمد لله على ذلك، فقلت: إني هيأت للبيت وقد أكلوا وأكلت، ومعي رقاقتانفيهما حلوى، قال: يا أبا نصر: لو أطعمنا أنفسَنا هذا، ما خرجت السمكة! اذهب كُلْهأنت وعيالك.

نظرة لا تنسى

قالأحمد بن مسكين: وأخذت الرقاقتين ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخورأيتهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير، فقلت على بركة الله، ومضيت إلى داري فلماكنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظرَت إلى المنديل وقالت: يا سيدي، هذا طفليتيم جائع ولا صبر له على الجوع فأطعمه شيئاً يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرةً لاأنساها! حَسِبْتُ فيها خشوع ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا


-

أين الأموال التي تصدقت بها؟ فوضعت الأموال، فإذا تحتكل ألف درهم شهوة نفس أو إعجاب بنفس كأنها لفافة من القطن لا تساوي شيئاً، ورجحتالسيئات. وبكيت وقلت: ما النجاة وأسمع المنادي يقول: هل بقى له من شيء؟ فأسمع الملكيقول: نعم بقت له رقاقتان فتوضع الرقاقتان (الفطيرتين) في كفه الحسنات فتهبط كفةالحسنات حتى تساوت مع كفة السيئات. فخفت وأسمع المنادي يقول: هل بقى له من شيء؟فأسمع الملك يقول: بقى له شيء فقلت: ما هو؟ فقيل له: دموع المرأة حين أعطيت لهاالرقاقتين (الفطيرتين) فوضعت الدموع فإذا بها كحجر فثقلت كفة الحسنات، ففرحت فأسمعالمنادي يقول: هل بقى له من شيء؟ فقيل: نعم ابتسامة الطفل الصغير حين أعطيت لهالرقاقتين وترجح وترجح وترجح كفة الحسنات.. وأسمع المنادي يقول: لقد نجا لقد نجافاستيقظت من النوم أقول: لو أطعمنا أنفسنا هذا لما خرجت السمكة
يقول احمد بن مسكين: وتحولت إلى أغنى الناس وصارت عندي بيوت وتجارة وصرت أتصدقبالألف درهم في المرة الواحدة لأشكر الله


-
وأعجبتني نفسي لأني كثيرالصدقة، فرأيت رؤيا في المنام ان يوم القيامه قد ات وأن الميزان قد وضع ويناديمناد: احمد بن مسكين هلم لوزن حسناتك وسيئاتك، يقول فوضعت حسناتي ووضعت سيئاتي،فرجحت السيئات، فقلت :
قال أحمد بن مسكين: وخُيل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبعهذا الطفل وأمه، والناس عُمي لا يبصرونهاو ذكرتُ امرأتي وابنها وهما جائعانمنذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد، بل معنى هذه المرأةالمحتاجة وطفلها، فأسقطتهما عن قلبي، ودفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعميابنك فا دمعات عيون المراة وهي ترى ابنها فرح بطعام

وجاء الفرج

ومشيت وأنا منكسر منقبض، وكأني كنت نسيت كلمةالشيخ (لو أطعمنا أنفسنا هذا، ما خرجت السمكة!) فذكرتها وشغلت نفسي بتدبرها، وقلت: لو أني أشبَعْتُ ثلاثةً بجوع اثنين لحرمت نفسي خمس فضائل، وهذه الدنيا محتاجة إلىالفضيلة، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل هذا العمل
ثم جلست إلى حائط أفكر فيبيع الدار، فأنا كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مستطار فرحاً، فقال: يا أبا محمد،ما يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى؟ قلت: سبحان الله! من أين خرجت السمكة يا أبانصر؟ قال: إني لفي الطريق إلى منزلك، إذا رجل يستدلّ الناس على أبيك، ومعه أثقالوأحمال، فقلت له أنا أدلك، ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبي، فقال: إنه تاجرمن البصرة، وقد كان أبوك أودعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال ثم تركالبصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسر بعد المحنة واستظهر بعدالخذلان، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلل فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذهالثلاثين سنة، وإلى ذلك طرائف وهدايا! قال أحمد بن مسكين: وانقلبتُ إلى داري، فإذامال جمّ وحال جميلة، فقلت: صدق الشيخ: لو أطعمنا أنفسنا هذا، ما خرجت السمكة
الكاتب: اختارها أبوا لمعالي الكويتي
التاريخ: 21/03/2008