المجاهدون باقون هنا! |
|
المجاهدون باقون هنا!
حسين المعاضيدي
خرج سيد الخلق محمد، صلى الله عليه وسلم، علناً بعد أن استجاب الله لندائه ودعواه في أن يعز الإسلام بعمر بن الخطاب، عارضاً على الملأ دعوته ورسالته السماوية جهراً، خرج في صفين وطاف بالكعبة، وسط جموع الكفار، الذين حاولوا بمختلف السبل منعه، ووأد دعوته في مهدها، لكنهم عجزوا.. فالله معه.
حاصروه صلى الله عليه وسلم في شعب الجبال، وقطعوا عنه الطعام بعدما سلبوه المال، وفتك العطش والجوع والمرض به، وبأصحابه، وحاصرته الغربة صلوات ربي وسلامه عليه بعدما مات أبو طالب، سنده وظهره القوي قبالة مشركي الشر، وتعززت غربته بوفاة أم المؤمنين سيدتنا خديجة الخير وتركها لها بعد سنوات ثلاث من أبشع حصار يتعرض له أحد من البشر، لكن كان له أصحاب هم الأهل، وهم السند، وهم قطرات الماء التي تطفئ رمضه ومن معه، ولم تنته دعوته.. فالله كافله
لجأ إلى الطائف باحثاً عمن يسمع نداء السماء ويوقن بأن الله باعثه، فخرجت له الطائف عن بكرة أبيها، محاربة لا مناصرة، ضربوه وجرحوه حتى أدموه، ثم طردوه، فراح يدعو في وجل أي ربي إلى من تكلني، حتى وصل لقوله إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، فجاءته غارة السماء أن أأمر الأخشبين يا خير البشر فيطبقان عليهما، فسبق حلمه غضبه، عسى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، كيف لا والرؤوف الرحيم باعثه.
عُذب أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومات أحبابه، وقتل خلانه حتى غاصت الركب، فأمر بالرحيل تارة إلى الحبشة، وتارة إلى مدينة النور، غادر الجمع إلا هو، بقي ليطمئن إلى آخر المغادرين، وحينما حانت ساعة الفراق هاجموه في فراشه، بحثاً عن رأس الداعين، وعمود الدين، فباءوا بفشل ذريع، فخسروا، ونجا، فعلي فاديه، والله منجيه..
وفي غار حراء حيث ثاني اثنين، وحينما اقتربت فلول المطاردين لم يتخل عنهما الواحد، الذي كان ثالثهما، فحجب عنهما البصر بخيط واه، بعدما أعمى البصيرة بجنح طائر، فنجوا وبلغوا المدينة، فشعت الرسالة رغم انف المشركين.
وجاء يوم (أُحد)، حيث نكسة ما بعدها نكسة، فخرجوا منها منكسرين، بعدما كان بيرق النصر في الأفق يلوح، فآلمت الجراح رسول لم يستعن بغير الله، وكسرت بعد رباعيته عكازه، بفقده لصائد الأسود حمزة الجسور، فغادر ساحة المعركة وهو من ألم النكسة يئن، لكن (الخندق) آلم عاديه أكثر، فكانت هذه بتلك، وانتصر، كيف لا وملائكة السماء في خندقه..
داهمه المرض، واشتدت به الحمى بأبي وأمي هو، وكسفت الشمس، وانشق القمر، وبكى الحجر وجذع الشجر، وأقسم بلال أن لا يؤذن في الناس بعد يومه ذاك، وحمل السيف أبن الخطاب وشهره بوجه من يظن أن النبي قد مات، وعلا صوت الصديق أي معاشر المسلمين، من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فأن الله حي لا يموت، فهدأ الناس، ومات محمد.. وتخلدت رسالة رب البشر.
وتعاقبت الخلافات حتى جاء زمن الفتنة التي أطفأها حفيد خير الأنام، ذو الوجه الحسن، سيد شباب أهل الجنة، وكبير أبناء أبا الحسن ليحفظ دماء المؤمنين، ويكون على يديه نهاية الفتن، مصداقاً لقول من لا ينطق عن الهوى، يوم أسر له مرسال السماء أن الحفيد للضغائن كما الماء على النار أخمد.. وانتصرت دعوة أحمد.
وتداعت الأمم من فرس وروم على أمة الواحد الأحد، فجاء سوار كسرى ليناله من سابق الريح ليثأر بالأسد، فبشره بسوار لن يملكه غيره أحد، وسقطت شرفات إيوان كسرى مثلما يوم ولادة النور أربعة عشر منها قد هوت، وأصبح قيصر في قسطنطينيته يعد الساعات بانتظار خاتمة السوء، بعدما في رب الأرباب قد جحد.. وانتصرت إرادة الأحد.
وانتعشت الأمصار التي كانت من فرط خيرها كما الصوف أنتفش، وصاح صاحب عام غزوة وعام حجة، هارونها ورشيدها، مخاطباً السحاب والمزن، أن ألقي بمائك فخراجك لن يذهب بعيداً، فأوفى بالعهد.. حتى توقفت ساعة العمر وجمدت الحياة على عجل، فعم الخراب والنوح والجهل.. وعانت أمة الإسلام لكنها لم ترفع الراية البيضاء رغم الوجع، وكيف لها أن ترفع وهذا الشبل من ذاك الأسد.
تغابى هولاكو، وشمر عن ساعديه ونحو بغداد أتجه، وراح يلقي في دجلتها، بحقد، أسيراً تارة، وتارة كتاب بجهل.
وحلت الظلمات، وكثرت الأوباء، ونهبت الخيرات، وظهرت النعرات، حتى ظن الناس أن الإسلام قد مات، فاحتلت البصرة والموصل ودار الخلافة، وسلبت جزيرة العرب من أهلها، وباتت الشام على شفير الضياع، وأمست الناس في كبت..
وذهبت أندلس وخراسان ومصر ووهران، وسادت النطيحة والمتردية والخنازير والبغال، حتى (هز لندن ضاري وبجاها) لتصل صدى ثورته إلى أركان العالم الشرقي والغربي الذي ظن جهلاً أن أمتنا في مهب الريح قد ضاعت وغابت وغفت..
وتوالت الثورات والنكبات والأحزان والاحتلالات، فصعود تارة، وهبوط تارة، حتى يوم احتلال بغداد علامة هذا الزمان الفارقة، فتفجرت الينابيع عيوناً، وولدت الأمهات صقوراً، وزغردت الأخوات سروراً، وصدحت الحناجر نشيداً على صداه زمجر إخوة الجهاد لهيباً، وأرعدت السماء، وأمطرت سجيلاً، وأخرجت الأرض بركاناً حميماً، فغاص المحتل حتى الركب.
فحققوا العزة بسيف الجهـاد، مؤمنين في فلسفة الجهاد بأن من مات على مبدءاً فلا يهزم أبد، فتقاطروا على درب الشهادة وهم يتبسمون، فأثلجوا بذلك قلوب أمة لا تزال تحن لأيام السعد، وفازوا بنهاية لم يتمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، سواها، ألا وهي شهادة الأكرمين، والفوز بالوعد، فكانوا كموج البحر لا يوقف زحفه أحد، وقدموا صدورهم دروعاً لأمة الإسلام، فكانت دماؤهم دون دماء المسلمين، وأعراضهم دون أعراض الموحدين، وحياتهم دون حياة المؤمنين بلا منن، سلكوا الطريق ولم يكونوا يجهلون، ولم يخشوا طاغوتاً وهم يحاربون، وحينما أتحدوا أصبحوا كالنمل حين يغلب الأسد..
جعلوا من المنايا مركباً، بعدما أوغل الأعداء في محاربة أمّة الإسلام وأثخنوا فيها، محاولين سحقها ليلاً ونهـاراً ، سراً ، وجهاراً، سبتاً وأحد، حتى أقبل أسود الجهاد محزمين، ممن سكن حب الجهاد قلوبهم، وأسر عقولهم، فشربوا من دماء الغاصبين، عشقوا الشهادة، وتسموا بالبطولة فتزينت لهم حور الإله بلا حسد..
ما هزتهم المخاطر، ولم يردعهم أو يثنيهم صراخ الصغار وهم يفارقون، ولا أرهبهم ظلام الدجى وهم يجابهون، خرجوا وبلجة الأقدار يسبحون إيماناً بالقدر،
ولا فض فوك يا شاعر الجزيرة حينما صدحت قبل أيام قلائل وأنت تنشد، أن ناحَ العراقُ، وقلبـُهُ موتـورُ ومياهُ دجلـةَ بالبكـاءِ تمـورُ، متعكرٌ فيها الصفــاءُ لأنهّـا كالقلبِ يفسدُ صفوَه التعكيـرُ، لما تردَّد في المسـاءِ يذيعُـه صـوتُ (الجزيرة) بالفضا منْشورُ، أنَّ الذينَ على الجهادِ كتاجِـهِ وبكا اللسانُ، وخانـهُ التعبيرُ، هل ذاك صوتُ النوْح يحملُ نعيهُ أمْ قد وهمْتُ، وغرَّني التغريرُ، قال الفراتُ ودجلةٌ في حزْنهـا وغدا يشيـرُ تمهّلي، مسرورُ، هل كان صوتُ النعيِ أنَّ أسودَنا نالوا الشهادةَ، إنـَّه التبشيرُ، إنْ كان هذا في(الجزيرة) صادقاً فكأنـما هـو لؤلـؤٌ منثورُ، يا دجلةَ الآسـاد إنَّ عراقَنـَا كالعـزِّ يُصنـعُ بالدماءِ تفـورُ، وبتلكَ بذرُ المجدِ مغروسٌ وهـلْ ثوبُ الفخـارِ بغيـْرِها مزرورُ، حيُّوا دماءً في الجهاد تدفقـَّت فالحقُّ بعد دفُوقهـا منصـورُ..
نعم فأبطال الجهاد في العراق، من أخوة الجهاد، أينما كانوا وكيفما كانوا، أن نالوا الشهادة فذاك ما سعوا إليه، بدءاً من أصغر جندي في فصائلهم، إلى اكبر قائد وأمير فيهم، ممن أعادوا الهيبة إلى أمة الإسلام، ولجموا أفواه من يقول أن أبناء الإسلام في العراق باعوا دينهم بعرض من الدنيا، وانظروا إلى شاعر الجهاد وهو ينطق درراً بقوله: (رعى الله قوما حول بغداد كلّما تذكرت همّي أحرقوه فضاعــا).
أن مجاهدي الإسلام عموماً، ومجاهدي العراق خصوصاً، أعز الله بهم الإسلام، فعلى صوت الحق وانشد نشيده في كل ركن من أركان المعمورة ضد الظلم والطغيان والاحتلال، بعدما قدموا دماؤهم دون دينهم، ورفضوا الذل والخنوع، وارخصوا كل ما يملكون، لتكتمل بشائر النصر، فقدموا قوافل الشهداء، القادة والأمراء قبل الجنود، ليصبحوا علامة صدق رسالة السماء المحمدية، بعدما قتلوا تحت أسنة الرماح، لا موتاً على فراشهم كما تموت البهائم، بل كانوا كباراً في سوح الوغى، وحينما فارقوا هذه الدنيا فارقوها وهم منتصبوا القوائم، وأصابعهم على الزناد، فماتوا كما تموت النخلة، شاهقة، شامخة، باسقة، متعالية، لا يخيفهم ولا يرعبهم صليل سيوف العدا، فماتوا ميتة من أتلفت صدره الرماح في سبيل الله تعالى، بعدما أتبعوا كلام اللسان بالفعل الدامي.
أن طريق الجهاد، وطريق الشهادة الذي سلكه أحفاد القعقاع في هذه الأمة جعل من رجال الإسلام وشبابه يثورون، فانتفضوا ضد الشر أينما كان، دفاعاً عن أنفسهم، ونصرة لدينهم، فاكتوى الغزاة بنارهم التي أوقدوها، والتي لم ولن يتمكنوا من إخمادها بعد أن دوت وعلت صيحات الله أكبر في كل شبر محتل، وبعد أن استفاق الكثير من سباتهم الذي كانوا يغطون فيه متداركين أنفسهم وأمتهم.
أن شهادة القادة هي خير دليل على صدقهم مع الله، وعن رضا الله عليهم، فلا يقتل إلا من كان فعالاً وعاملاً، مقدماً نفسه على جنوده، وتلك شيم القادة العظام، فالجيش على مر العصور لا ينتصر إلا أن كان القائد رأس حربته، لا كما يفعل الرومان والفرس الذين يجلسون في خيام تبعد عن الخطر مسافة، وهم تحت حماية لا حصر، ولا عد لها، أو كما يحدث مع غزاة اليوم الذين يديرون معاركهم من خلف البحار البعيدة، متوشحين بزاتهم العسكرية، المكللة بالأوسمة والنياشين الكاذبة، وهم يجلسون تحت قبة البيت الأسود، أو خلف مكاتب البنتاغون الأخرق، أو في جحور محصنة، كمناطقهم الخضراء المسورة!
نعم أن مقتل القادة دليل على صدق كل كلمة قالوها، وكل فعل توعدوا به، سواء أأنجزوه أم لم ينجزوه، فهم كانوا يعملون عليه حتى اصطفاهم الله، وستظل كلماتهم حتى بعد فقدانهم هي شعلة النصر في هذه الأمة، التي تكالبت عليها قوى الشر من كل أركان العالم وقاراته.
هي بشرى حينما يُقتل القائد، فعلى الطغاة انتظار يوم الهزيمة، لأن الله لابد أن يبارك جيش قاتل قائده قبل جنده، والجندي حينما يقتل القائد أمام عينيه فلن يردعه عن الموت شيء، وسيبكي أعداؤه دماً لحربهم الإسلام وأهله، وسينالهم الخزي والعار والسقوط الأبدي الذي لن ينفك عنهم، وتلك من مقدمات النصر بإذن الله، وحاشا لله أن يترك أعدائه يعلون في الأرض ويقيمون شريعة الظلم والعدوان والفساد.
أن من أكبر النعم على هذه الأمة أن جعل أعمدتها وقادتها وعلمائها وأئمتها هم السباقون إلى سوح النزال، والمبادرون إلى تقديم أنفسهم قرابين لله عند النوازل، فيقتلون في سبيله مرة لتحيى أمة من بعدهم، وليكونوا مثلاً أعلى ونبراساً في التضحية، فيضربوا أروع الأمثال في ثبات الرجال، ممن رفع الله قدرهم في السماء قبل الأرض..
أن الشهداء الذين غادرونا، ويغادرونا كل يوم، ممن كانوا كالجبال أوتاداً، ونحن على فراقهم لمحزونون، هم إحدى علامات الفوز والنصر والتمكين، فمثلما جعل الله في حياتهم وسيرهم على طريق الموت تمام الحياة وعمادها، جعل في مقتلهم حياة لهذه الأمة ونجاتها، ففازت الأمة بفوزهم، وفرحت لهم بظل عرش الرحمن، الذي فازوا فيه، في أعلى سماء ، ويخطئ من يظن أن معاركنا تنتهي بموت كبرائها وقادتها، بل أن من مواطن القوة في هذه الأمة أنها كشجرة الصنوبر التي تزداد صلابة وتجذراً في الأرض كلما اشتدت العواصف..
فيا رياح الشمال هدهدي، ويا رياح الجنوب كفكفي، ويا حواصل طيور الجنة أوسعي، ويا حرة الإسلام أفرحي وهلهلي، قد نال الشهادة من سار على نهج أحمد.
ويا خيل الله في الأرض أسرجي، ويا فتية الإسلام أثبتي وتسمري، ويا مراكب الشهادة أبشري، ويا سوح الوغى تجهزي، ويا أسلحة العز زغردي، ويا أرض الفراتين عبواتاً أمطري، ويا غارة الله عجلي.
وتستمر المعركة ...
==========================
وانا اقرأ المقال... ذرفت عيناي ، وتذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( لكن حمزة لابواكي له ) ... بيارق
واليكم نص الحديث :
[ ... عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فسمع نساء بني عبد الأشهل يبكين على هلكاهن ، فقال : " لكن حمزة لا بواكي له " ، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده ، ورقد فاستيقظ وهن يبكين ، فقال : " يا ويلهن إنهن لها هنا حتى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم " ] " صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه "
المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم - ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب - حديث:4835