وصية الإمام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم000دروس وعبر ..

 

وصية الإمام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم000دروس وعبر

توقفت كثيراً وأنا أكتب عن حياة ابن القيم في مقدمة بحثي لنيل درجة الماجستير ،
عند وصية الإمام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم رحمهما الله ، فطرأت لي بعض الفوائد و
الدروس من تلك الوصية العظيمة ، أقدمها لكل قلب مخلص ، و لكل مرب شيخا كان أو طالب علم
، ليستنير بها في تربية أجيال الصحوة الإسلامية .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :

" قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلب
للإيرادات و الشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها و لكن اجعله كالزجاجة
المصمته تمر الشبهات بظاهرها و لا تستقر فيها فيراها بصفائها و يدفعها بصلابته ، و إلا
فإذا أشربت قلبك كل شبة تمر عليها صار مقراً للشبهات "

قال ابن القيم :
" فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك "(1) .

الفائدة الأولى : فراسة ابن تيمية في تلميذه ابن القيم

لما أحس الشيخ رحمه الله من تلميذه الرغبة الصادقة و التفاني الكبير في خدمة العلم و
التحصيل صار يتعاهده بألوان من النصائح و التوجيهات مما يصقل مواهبه ويزيد في رسوخه
وثباته .

وهذه الوصية من التوجيهات و النصائح التي يذكرها ابن القيم في ثنايا كتبه.
وقد تحققت فراسته في تلميذه رحمه الله ، فها هو ابن القيم إماما علما ملأ الدنيا نورا
و علما بمؤلفاته وعلمه فرحمه الله رحمة واسعة.

لذا كان على المشايخ وطلبة العلم الاعتناء بالنجباء و الموهوبين والاهتمام بهم أكثر من
غيرهم .

و السنة مليئة بالأدلة على العناية بالموهوبين و الأذكياء ، وكذا من هدي السلف رضوان
الله عليهم .

فمن السنة :

- في قصة أصحاب الخدود يخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الكاهن قال للملك :" انظروا لي غلاما فهماً أو
قال فطنا لقناً فأعلمه علمي هذا ، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم و لا يكون
فيكم من يعلمه ، قال : فنظروا له على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن و أن يختلف
إليه00" (2) .

- حرصه صلى الله عليه وسلم ، على إيمان نفر من المشركين أكثر من غيرهم ، وعنايته بدعوتهم وقد كان يقول :"
اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب " (3) .

وقد ظهر أثر ذلك واضحا ، فكل من يقرأ السيرة لا يمكن أن يخفى عليه كيف كان أثر إسلام
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - و لهذا قال عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه -: " ما
زلنا أعزة منذ أسلم عمر " (4) .

- عنايته صلى الله عليه وسلم بمن أسلم من أصحاب الطاقات الفاعلة و المواهب ، ويصور لنا ذلك عمرو بن العاص
- رضي الله عنه - قال :" ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم و بخالد في حربه أحدا منذ أسلمنا " (5)
.

- ومن هدي السلف :

- أدرك أصحابه رضوان الله عليهم هذا الأمر فحرصوا عليه في دعوتهم ، فعن ابن العباس رضي
الله عنهما قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا و
لنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم ، قال : فدعاهم ذات يوم و دعاني معهم ، قال :
وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في:( إذا جاء نصر الله و
الفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) ؟ حتى ختم السورة فقال بعضهم : أمرنا أن
نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وقال بعضهم : لا ندري أولم يقل بعضهم شيئا ،
فقال لي : يا ابن عباس ، أكذاك تقول ؟ قلت : لا ، قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، أعلمه الله له ( إذا جاء نصر الله و الفتح ) فتح مكة فذاك علامة أجلك ( فسبح
بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا) قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم (6) .

- ومن نماذج عناية السلف بالنجباء ما رواه الخطيب في الجامع بإسناده عن إسماعيل بن
عياش قال : كان ابن أبي حسين المكي يدنيني ، فقال له أصحاب الحديث : نراك تقدم هذا
الغلام الشامي وتؤثره علينا ؟ فقال إني أؤمله ، فسألوه يوماً عن حديث حدث به عن شهر :
إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل ، فذكر ثلاثاً ونسي الرابعة ، فسألني عن ذلك ، فقال لي :
كيف حدثتكم ؟ فقلت : حدثتنا عن شهر أنه إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل : إذا كان أوله
حلالاً ، وسمي عليه حين يوضع ، وكثرة الأيدي ، وحمد الله حين يرفع . فأقبل علي القوم ،
فقال : كيف ترون ؟ (7) .
وقديما قيل :

و الناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى

و لا يزال أصحاب الأعمال و التجارة بل حتى من العلمانيين و أصحاب الأفكار الباطلة ،
يحرصون على كسب عناصر معينة من الناس تملك القدرة و المواهب الفذة التي تؤهلها للقيام
بأدوار مهمة في إدارة أعمالهم ، ويمنحون رواتب مجزية لأمثال هذه العناصر من أجل كسبها و
الحفاظ عليها فأين المشايخ و طلبة العلم من ذلك ؟

الفائدة الثانية : صبر المعلم ابن تيمية على تلميذه ابن القيم وتعليمه إياه بالرفق و
اللين

ويدل على ذلك كلام ابن القيم رحمه الله حيث قال : " قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية وقد
جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلبك للإيرادات و الشبهات مثل
السفنجة0000".

فهو رحمه الله لم يغضب و لم يضجر و لم يسخر من كثرة أسئلة تلميذه ، بل تقبل ذلك بصدر
رحب وبتوجيه سديد له رحمه الله .

مما جعل تلك الوصية العظيمة ترسخ في ذهن تلميذه فلا ينساها أبدا كما ذكر ذلك ابن القيم
رحمه الله تعالى .

و إن مما يحزن والله ، تلك الغلظة و الشدة والتكبر في تعامل بعض المشايخ في حق تلاميذهم
؟ ثم يشتكون من قلة طلبة العلم عندهم سبحان الله !

يقول الشيخ يسري السيد محمد في مقدمة كتابه فقه ابن القيم :

" و إذا كان ابن القيم -رحمه الله - يلام على اتباع ابن تيمية - رحمه الله - وهما من
هما ، فأنى لنا بمثليهما ونحن نتبعهما ونسير على هديهما ، إننا نرى كثيراً من المشايخ
يغلظ للشباب حتى يتخيل إليك أنك لا كرامة لك ، وقد اشتكى كثير من الشباب من ذلك فكنت
أنصحه بالصبر على الشيوخ حتى يتعلم ، ثم لعله يتقي الله و لا يصنع صنيعهم ، ومن صبر
صبّره الله " (8) .


فمن لم يغرس المحبة له في نفوس طلابه فكثير مما يقوله ستكون نهايته عندما يتلفظ به ،
ولن يأخذ طريقه نحو القلوب ، فضلا عن أن يتحول إلى رصيد عملي.

ومهما بلغ الإنسان في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة ، فلن يكون أعلم أو أفصح أو
أكثر تأثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ومع ذلك قال الله سبحانه في شأنه : ( و لو كنت فظا غليظ القلب
لا نفضوا من حولك صلى الله عليه وسلم .
فالنبي صلى الله عليه وسلم مع ما آتاه الله سبحانه من وسائل التأثير ، مأمور بأن يلين لأصحابه و إلا
انفضوا عنه ، فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور و النقص ، فهو حين لا
يحظى بقبول تلامذته له سيرون فيه من القصور ما يبررون به رفضهم و إهمالهم لما يقول ،
بل تفسير نصحه وتوجيهه على غير وجهه.

و لأجل ذلك عني من كتب في أدب العالم و المتعلم من الأسبقين بالتأكيد على حسن الخلق و
جميل الرعاية .

فيوصي ابن جماعة المربي بذلك فيقول :

" و ينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو و الشفقة
عليه ، والإحسان إليه ، والصبر على جفاء ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه ،
وسيء أدب في بعض الأحيان ، ويبسط عذره بحسب الإمكان ، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه
بنصح و تلطف ، لا بتعنيف وتعسف ، قاصداً بذلك حسن تربيته ، و تحسين خلقه ، و إصلاح شأنه
، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة لصريح العبارة ، وإن لم يفهم إلا بصريحها أتى
بها وراعى التدريج في التلطف " (9) .

ويؤكد النووي هذا المعنى فيقول :

" ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه ، والصبر على جفائه وسوء أدبه ، ويعذره في سوء أدب
وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرضٌ للنقائص " (10) .

الفائدة الثالثة : إخلاص المعلم لنصح تلميذه

ويدل على ذلك قول ابن القيم رحمه الله حيث قال :" قال لي شيخ الإسلام000000لا تجعل قلبك
للإيرادات و الشبهات مثل السفنجة00".

فابن تيمية يوجه تلميذه إلى الأهم فالأهم ، وإلى صفاء القلب و سلامته من الشبهات ، فهو
لا يريد من تلميذه أن يتشبع قلبه بالشبهات ، فيمتصها كما تمتص السفنجة الماء فلا ينضح
إلا بها ، فيصبح قلبه مقراً للشبهات ، بل يريد من قلبه أن يكون كالزجاجة المصمته تمر
الشبهات بظاهرها و لا تستقر فيها.

و يدل مدى انتفاع التلميذ بوصية شيخه من كلام ابن القيم نفسه قال :
" فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك " .

فأين المشايخ و طلبة العلم من هذا ، و قد ملأ كثير منهم إلا من رحم الله ؟ قلوب
تلاميذهم بالشبهات و الحقد على إخوانهم من أهل العلم ، و على إخوانهم من الجماعات
الإسلامية .

حتى أصبح الشاب الحديث عهد بالالتزام ممتلئ قلبه حقدا وحسدا على إخوانه ، فهذا همه الذي
يدعو إليه ليلا ونهارا فلا حول و لا قوة إلا بالله .

و مما يدل على إخلاص ابن تيمية على نصح تلميذه ابن القيم بما فيه منفعته في الدنيا
والآخرة ، ما ذكره ابن القيم رحمه الله من وصايا في ثنايا كتبه تدل على ذلك.
فمن ذلك قوله :" قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - مرة : العوارض و
المحن هي كالعوارض و البرد ، فإذا علم العبد أنه لا بد منها لم يغضب لورودها ، ولم
يغتم لذلك و لم يحزن " (11) .

وقال : " قال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في شيء من المباح هذا
ينافي المراتب العالية ، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة ، أو نحو هذا الكلام " (12)
.


الفائدة الرابعة : محبة التلميذ لشيخه ووفاؤه له

ويدل على ذلك ذكره رحمه الله لهذه الوصية العظيمة وغيرها من الوصايا التي ذكرها في
ثنايا كتبه ، وذكره لكثير من سؤالاته له و أسئلة غيره له ، وطائفة من أحواله ومرائيه
واختياراته ، مما لو استل من مؤلفاته لظهر في مجلد لطيف .

قال العلامة بكر أبو زيد حفظه الله تعالى :

" إن من واجب البر ولازم الوفاء أن تنصهر محبة ابن تيمية في قلب ابن القيم وقالبه و أن
يحتفي به وينوه بفضله ، عرفانا بالجميل وتقديراً لفضله الكبير.

و قد وفى ابن القيم رحمه الله تعالى حق الأستاذية و الوفاء بالشدة والرخاء.
فقد ظلّ يشارك شيخه في أعماله و أحواله منذ ملازمته له حتى آخر لحظة من حياة شيخه رحمه
الله.

و قد أمتحن وأوذى من أجل مناصرته لشيخه في ذات الله و في ذلك يقول ابن رجب: ( و قد
أمتحن و أوذي مرات وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة ، منفرداً عنه ولم
يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ ).

و كما احتفى بشيخه وعلمه حال حياته و أخلص في محبته وولائه فقد كان خليفته الراشد بعد
وفاته ، فتلقف راية التجديد وثبت على جادة التوحيد : بنشر العلم ، وبرد الخلف إلى مذهب
السلف" (13) .

و الحمد لله رب العالمين

محمد بن خميّس العجمي














__________________________________
1-مفتاح دار السعادة :(1/200).
2-رواه الترمذي (3340) وأصل الحديث في مسلم :(3005).
3-رواه أحمد :(5356).
4-رواه البخاري :3863).
5-رواه الطبراني.
6-رواه البخاري.
7-الجامع :(1/312)، و انظر: مقالات في التربية ص51 ، للشيخ محمد الدويش.
8-فقه ابن القيم : (1/21).
9-تذكرة السامع و المتكلم ص 50.
10-المجموع شرح المهذب :(1/30).
11-مدارج السالكين :(3/389).
12-مدارج السالكين :(2/26).
13-ابن القيم حياته و أثاره ص 83.

الكاتب: الشيخ محمد بن خميس العجمي
التاريخ: 01/01/2007