هل لا تزال مصر هي الجائزة؟

 

هل لا تزال مصر هي الجائزة؟
هل لا تزال مصر هي الجائزة؟

د. عبدالعزيز كامل
كانت المدتان اللتان حكم فيهما جورج بوش الابن الدولة الأقوى في العالم - أمريكا -،

بمنزلة النموذج العملي للكيفية التي يمكن أن تتحكم بها اليهودية العالمية في توجيه

الأمور الدولية بصورة تكاد تكون مباشرة، حيث سيطر المحافظون الجدد - كما هو

معروف - على إدارة بوش سيطرة شبه كاملة، وكما هو معروف أيضاً؛ فإن هؤلاء

المحافظين كانوا أشبه بـ (جماعة) أو (تنظيم) يهودي معلن - وليس سرياً - يدير

الشؤون الخارجية الأمريكية بحسابات يهودية.
دشن المحافظون اليهود الجدد في مدة إدارة بوش عدداً من الخطط والمشروعات تتعلق

بالعالمين العربي والإسلامي، باعتبار أن استمرار الهيمنة على مقدراتهما وقراراتهما

من أولى أولويات المهتمين ببقاء الولايات المتحدة قطباً أقوى وأوحد خلال القرن

الحادي والعشرين، وذلك ضمن ما سمي مشروع (القرن الأمريكي). وقد كان من

ضمن خطط المحافظين الجدد التي أعلنت في مناسبات وصيغ مختلفة، التوجه نحو

تفكيك وتفتيت كثير من الدول العربية والإسلامية، وتكسير وحدتها الدستورية، وبخاصة

الدول الثلاث الأهم، وهي: العراق والسعودية ومصر، لكنهم بدأوا بالعراق وَفق خطة

تضمنت وقتها احتلال سبع دول أخرى، قبل الانتقال إلى الخطوة التالية، وقد أشار

(ويسلي كلارك) – القائد العام السابق للقوات الأمريكية في أوروبا والقائد العام لحلف

الناتو من عام 1997 إلى عام 2001م – في تصريحات له عقب أحداث سبتمبر

2001 بعشرة أيام؛ إلى أنه تسلم مذكرة من مكتب وزير الدفاع الأسبق (دونالد

رامسفيلد) أثناء قصف أفغانستان، تصف كيف سيجري احتلال سبع دول في مدة خمس

سنين، بحيث يكون البدء بالعراق، ثم سورية، ثم لبنان، ثم ليبيا، ثم الصومال، ثم

السودان، ثم تنتهي الحرب بإيران!

لكن جسارة المقاومة العراقية السنية وقتها لم تسمح للأمريكان بتكرار المغامرة في أي

بلد آخر، حيث مثلت جدار صد ورد عرقل مشروع القرن الأمريكي برمته.
غير أن إضعاف العراق بتقسيمه ثم تقاسمه مع إيران بغرض زرع مزيد من عوامل

الفرز الطائفي في المنطقة؛ جرى التركيز عليه ريثما تأتي ظروف أخرى لبقية الدول

المستهدفة، وقد دق ما جرى في العراق ناقوس خطر قوي يحذر من الاستهانة بما

يتسرب أو يُسرَّب من خطط الأعداء ونواياهم تجاه أمتنا؛ فقبل غزو العراق بثمانية

أشهر تقريباً قُدم تقرير في غاية الوضوح، بل التبجح، من أحد أبرز الباحثين في معهد

راند للأبحاث الاستراتيجية، الذي يعد العقل الاستراتيجي للإدارات الأمريكية، وهو:

(لوران مورافيتش) - الذي عمل أيضاً مستشاراً للخارجية الأمريكية –؛ بيَّن ذلك

التقرير حقيقة ما كان يبيَّت للمنطقة، وقد نشرته صحيفة واشنطن بوست في

6/8/2002، وجاء فيه قوله: «إن الحرب على العراق مجرد خطوة تكتيكية ستغيّر

وجه الشرق الأوسط والعالم، أما السعودية فهي هدف استراتيجي، وأما مصر فهي

الجائزة الكبرى في نهاية الطريق».
وقد تكرر المعنى نفسه وبالألفاظ ذاتها تقريباً على لسان رمز يهودي مشهور من

المحافظين الجدد، وهو (ريتشارد بيرل) - السياسي الأمريكي الذي عمل مساعداً

لوزير الدفاع في عهد ريجان، والذي يوصف في الإعلام الأمريكي بـ (أمير الظلام)

و(دراكولا)؛ لميوله العدائية العدوانية -، حيث قال في أعقاب بدء الحملة على العراق:

«سيكون العراق الهدف التكتيكي للحملة، وستكون السعودية الهدف الاستراتيجي، أما

مصر فستكون الجائزة الكبرى»! وكان ذلك المسؤول الحاقد قد قدم في عام 1996

دراسة إلى نظيره في العداء (بنيامين نتنياهو) يقترح فيها أن تتبنى السياسة الإسرائيلية

فكرة العمل على القضاء على النظام في بغداد؛ كخطوة أولى نحو زعزعة الاستقرار

في الدول المحيطة بالعراق.
وخطورة تصريحات (مورافيتش) و(بيرل) لم تكن في صدورها ضمن تنظير علني

للتآمر فحسب؛ بل في أن قسماً أساسياً منها قد وجد طريقه إلى التنفيذ العملي وسط

مباركة وأحياناً مشاركة من الأطراف المتضررة قبل غيرها، فقد تجسد التوعد اليهودي

في الواقع العراقي بعد الغزو الأمريكي، فظهر التطابق بين الأقوال والأفعال، وبدا أن

الغزو قد لفقت مسوغاته ليكون مدخلاً «تكتيكياً» يمكن الولوج منه إلى ما بعده، حيث

إن غزو العراق ثم تقسيمه ثم تقاسمه بين الفرس والروم؛ مثَّل قاصمة ظهر لما كان

يسمى «الوحدة العربية»، وأوجد أجواء ممهدة للتحرك نحو الهدف التالي

«الاستراتيجي»، وهو المتعلق بالسعودية؛ لإحاطتها بسوار من التثوير الرافضي الذي

يستهدف أهل السنة في كل الجزيرة العربية، التي إذا ما أضعف السنة فيها فإنهم

سيكونون فيما سواها أضعف، وهو ما من شأنه أن يترك المجال بعد ذلك مفتوحاً

بانتظار (الجائزة الكبرى) - مصر - ريثما تتوافر الإجابة عن (كيف) و(متى) و(أين)

و(لمن) سيكون تسلم أو تسليم تلك الجائزة!
الآن؛ وبعد نحو عشر سنوات من عرض التقرير أو الخطة المتضمنة الكلام عن (مصر

الجائزة)[1]، يتجدد الحديث عنها، فقد كتب (جون كارني)، محرر صحيفة (cnbc)

الأمريكية، مقالاً بعد ثورة يناير بعنوان (هل يذكر أحدكم مصر الجائزة؟) بيَّن فيه أنه

كان يتعجب من إقحام مصر في قائمة الدول المستهدفة قبيل غزو العراق، لكن لما قامت

الثورة المصرية وأصبحت مصر تحتل عناوين الأخبار؛ عزم على مراجعة التقرير

الذي عرضه (مورافيتش) عام 2002م، والذي تحدث فيه عن (مصر الجائزة)؛ ليبحث

عن المعنى الذي كان مراداً منها، فوجد فيه تحت عنوان (الحالة المخيفة.. مصر)

شرحاً لكيفية استغلال الأوضاع في مصر، حيث بيَّن مورافيتش أن أبرز إنجازات

حسني مبارك حتى عام 2002 - أي بعد عشرين عاماً من حكمه -؛ أنه قام بكبح

الإسلاميين، وأنه لم يوجه إمكانات مصر إلى التنمية والاستثمار، والنتيجة وضع متفجر

تسبَّب في تهميش وكبت الإسلاميين والعلمانيين معاً، ثم استعرض قدرة مبارك على

ركوب الموجة بما يتيح لأمريكا أن تعتمد على انتهازيته، ثم تساءل: لماذا لا تسمح

أمريكا له بالاستمرار في التضييق على الإسلاميين والمعارضين، وفي ذات الوقت

تسمح له بالبقاء في السلطة دون تغيير، باعتباره صديقاً لأمريكا؟
ثم قال مورافيتش - الذي هلك بالسرطان عام 2009م - «إن السماح له بهذين

الأمرين هو وصفة طبية لكارثة»!

وانتهى إلى القول: «إن المحور العربي كله مهم، لكن العراق هو المحور التكتيكي

للدخول، والسعودية محور استراتيجي، لكن مصر مع كتلتها ومكانتها وتاريخها

ومكانتها وقدراتها؛ هي المكان الذي سيتم فيه تقرير مستقبل العالم العربي.

وفي بيئة شرق أوسطية جديدة يجري تخليقها، يمكن البدء بإعادة تشكيل مصر
رغم أنها تأتي في مرحلة لاحقة من الدورة الاستراتيجية المشار إليها هنا.. سوف
يصبح من الممكن معالجة موضوع مصر؛ عندما يتم تنفيذ ما ذكر»!!
الوجود الرسمي للمحافظين الجدد انتهى – ولو مرحلياً – بمجيء الحزب الديمقراطي
للسلطة، لكن هل انتهت الاستراتيجية التي أسَّسوا لها في التفكيك والتفتيت ضمن
مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي هو جزء من مشروع القرن الأمريكي؟ الجواب أن
إدارة الديمقراطيين تحت حكم أوباما تسير على درب مشروع القرن، لكن بأساليب
ليست أخف أو أصغر، لكن أخفى وأمكر.
الثورات العربية واقتناص الفرصة
ما سبق مدخل مهم للولوج إلى الجواب عن السؤال الأهم الوارد في عنوان المقال، وقد
عبرت مراراً عن القناعة بأن فعاليات الثورات العربية لم تكن بتدبير قوى أجنبية، بل
إنها كانت تداعيات لتراكمات كانت لها مقدمات أوصلت إلى هذه النتائج، لكن تلك
النتائج أيضاً لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه إلا بتدبير خارق خارج عن قدرات
البشر، تسبَّب في تساقط أنظمة طاغوتية قاسية في أزمنة قياسية، خرج أصحابها من
قصور العز والجبروت إلى جحور الذل والمهانة، ما ظننا أن يخرجوا {وَظَنُّوا أَنَّهُم
مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2].
لكن دوائر القرار في الغرب تحركت – كعادتها - لاستثمار الأحداث، وهو استثمار لن
يكون بحال خارجاً عن مصالحها ووَفق برامجها وخططها.
وقد كان من السذاجة، بل التهور، أن نتصور أن المعادين للمشروع الإسلامي في داخل
بلاد المسلمين وخارجها سيرحبون بأن تنتج آلتهم الديمقراطية العلمانية ماكينة «تمكين»
لقوى عربية سنية يمكنها أن تصنع أدوات نهوض إسلامية، إقليمية وعالمية، فسارع
البعض للتصرف على أساس ذلك الظن متصوراً أن الحركات الإسلامية في العالم قاب
قوسين أو أدنى من التمكين بمباركة من الكفار والملحدين، مستبعداً – ولو من باب
الاحتمال العقلي أو اليقين الإيماني - حقيقة: {إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا}
[النساء: 101]، ومُسلَّمة: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]،
ونمطية {وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، وقانون {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْـمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ}
[البقرة: 105]... ونحو ذلك من السنن الثابتة التي يكشف الحق الظاهر فيها باطن
الباطل مهما تخفى عنا أو استخف بنا.
سفينة النجاة التي رست في مصر بعد ثورتها السلمية كي ينعم شعبها وشعوب أخرى
معه بالوصول إلى بر الأمان؛ تتلاطم بها الأمواج الآن، دون حبال كافية تشدها
لصخور الاستقرار حتى يحين وقت الإبحار، والواضح أن هناك من يصر إما على
إبقائها دون إقلاع، أو إغراقها في القاع؛ فقد شهدت أرض الكنانة بعد تصدر الإسلاميين
- غير المدروس جيداً - المشهد السياسي، أحداثاً جساماً تجعل الحليم حيراناً، لا يمكن
وصف الواقفين خلفها إلا بأدوات لـ «الفوضى الخلاقة» التي لم تلد الثورات، لكنها تريد
أن تفسدها أو تئدها؛ فالاستماتة في أن تحرق الثورة نفسها – في مصر وغيرها -
تجري عن سبق إصرار وترصد من قوى داخلية متآمرة بات الجميع يعلم أنها تعمل
بإسناد من أطراف إقليمية تحركها قوى عالمية، حيث وضح أن المراد فعلاً «تخليق»
أوضاع جديدة عن طريق تلك الفوضى، لا علاقة لها بأماني وأحلام الشعوب الثائرة
على الفساد والاستبداد. لا شك أن إفشال الثورة في مصر كان له الأولوية، وبخاصة
بعد صعود الإسلاميين؛ لأن نجاح الثورة بهم نجاح لكل المسلمين، وإفشالها لأجلهم فشل
للجميع.
والمعضلة هنا أن ثمة عوامل من إشكالات وتناقضات كثيرة داخل المجتمع المصري،
بل داخل الكيانات والمكونات الإسلامية فيه؛ يجري استغلالها في تخليق ثم توظيف
الفوضى بغية الوصول من خلالها إلى تحقيق أهداف تكتيكية واستراتيجية قديمة
وجديدة، لا تصب في مصلحة النهوض المصري عموماً، والمشروع الإسلامي فيها
خصوصاً. ولإدراك أبعاد هذا التربص لا ينبغي أن نظل أسرى اللحظة بتفاصيلها
المتتابعة المبعدة عن استحضار كامل الصورة، فالمراد بمصر أكبر من سفاهات
«الفلول»، وأخطر من تفاهات صبية الشوارع، وأعقد من الأزمات السياسية التي
ترددها وتجددها «النخبة» العَلمانية المحلية المفلسة، فالأمة كلها يراد تسديد ضربة
جديدة لها في المرحلة الراهنة في شخص مصر وتجربتها الإسلامية الوليدة، التي يريد
الصادقون لها أن تكون ناجحة ملهمة، ويريد المجرمون - محلياً وإقليمياً وعالمياً – أن
تكون فاشلة حابطة مظلمة!
أعداء مصر.. واستثمار الأزمات
يمكننا أن نرصد عدة إشكاليات خطيرة على الساحة المصرية يمثّل كل منها ما يشبه
صندوق قنابل موقوتة أو حقل ألغام مزروعة، لو جرى تفجيرها أو إشعال فتيلها فإن
معالم المكان بعد الانفجار لن تكون هي معالم المكان قبله. وواجب كل الصادقين
والعقلاء في مصر – بل وفي خارجها - إبطال مفعول هذه القنابل وتلك الألغام؛ بالجدية
الكاملة في معالجة عوامل تسخينها؛ إنقاذاً للمشروع الإسلامي الذي إذا فشل في مصر –
معاذ الله - فإنه خسارة للأمة كلها.
هذه الإشكالات إجمالاً هي:
- دفع الدولة المصرية تحت حكم الإسلاميين إلى منحدر (الدولة الفاشلة) لعزلها ثم التفرد بها.
- توظيف الخلافات بين الإسلاميين لضربهم وضرب الدعوة من خلالهم.
- استعمال الأقباط وبعض الأقليات في كسر وحدة واستقلال الدولة المصرية.
- تحريك مشكلات سيناء السياسية والعسكرية والأمنية، ثم تدويلها لفصلها واستغلالها.
إنها مشكلات ومعضلات ينبغي أن تُتابَع تطوراتها الكبيرة بحيث لا تغطي عليها
التفاصيل اليومية الصغيرة. والمتابَعة هنا ليست لمجرد الرصد والحضور، لكن لأجل
اليقظة والتحرك باتجاه الحلول، فهي على خطورتها وجسامتها على المستوى البعيد
ليست مستحيلة الحل، لكنها تحتاج - بعد الاستعانة بالله - إلى دقة في التشخيص، ثم
مهارة في العلاج، يجتمع عليه الذين لا يجمعهم الله على ضلالة من أهل العلم والفكر،
والحل والعقد.
سأتناول في هذا المقال ما يسمح به المقام من بسط تلك النقاط، على أن أكمل ما بقي
فيما بعد بإذن الله.
حرب الإفشال لنيل الجائزة
و«الدولة الفاشلة» طريقهم إلى ذلك، وهذا المصطلح صنعته أمريكا وصنفت في ضوئه
دولاً لأغراض مشبوهة، ولأجل الاتجار بهذا الابتكار سارعت إلى ترويجه دولياً عبر
منظمة الأبحاث المسماة (الصندوق من أجل السلام)، والتي وضعَت بالتعاون مع (مجلة
الخارجية الأمريكية) تعريفاً للدولة الفاشلة من خلال أعراض إذا تكاثرت أو اجتمعت
في دولة ما فإنها تكون دولة فاشلة جديرة بأن توضع في القائمة السنوية التي تنشر منذ
عام 2005م، متضمنة عشرين دولة، قد يتناوب بعضها مع الآخر، والغريب أن نصفها
تقريباً من الدول العربية والإسلامية، فكلٌّ من باكستان وأفغانستان والعراق واليمن
وتشاد والصومال وبنجلاديش ولبنان والسودان؛ تحل ضيوفاً شبه دائمين على تلك
القائمة. وكما وضعت أمريكا معايير للدول والمنظمات التي تلحقها بقائمة (الإرهاب)
لإرهابها ثم الترهيب بها؛ فإنها تترك الباب مفتوحاً لإدخال دول أخرى في قائمة
(الفشل)؛ لإفشالها وبث روح الفشل من خلالها.
أما الأعراض التي إذا ظهرت أو أظهرت على دولة فإنها تؤهلها للالتحاق بركب
الفشل، بحسب معايير ما يسمى (صندوق السلام)؛ فهي:
_ فقدان السلطة في الدولة المعنية قدرتها على السيطرة الفعلية على أراضيها.
_ فقدانها احتكار حق استخدام العنف المشروع للحفاظ على أمنها.
_ عجزها عن توفير الحد المعقول من الخدمات لشعبها.
_ عدم قدرتها على التفاعل مع الدول الأخرى لتكون عضواً فاعلاً في الأسرة الدولية.
_ عدم تمكنها من توفير مستلزمات إقامة أو إدامة أسس التوافق على شرعيتها لدى جميع سكانها.
وبقليل من التأمل في هذه العوامل الخمسة، نلاحظ أنها قد لا تكون أعراضاً ينتجها فشل
ذاتي مجرد، بل يمكن أن تكون أمراضاً يسبّبها إفشال خارجي متعمد، وكذلك فإن تلك
الأعراض لا يسهل التحصن منها في ظل منظومة دولية ظالمة مزدوجة في المعايير
وغير مستقلة ولا مستقرة في التعامل، ثم إنها أعراض نسبية يمكن أن يلبسوها من
يشاؤون ويخلعوها عمن يشاؤون.
السؤال المهم هنا هو: ماذا تريد أمريكا من تصنيف الدول إلى قوائم من مستويات من
الفشل أو النجاح؟
وكيف تدخل من تشاء وتخرج من تشاء من تلك القوائم؟
والجواب الواضح أنه عندما تريد أن تنسج خيوطاً من العزلة والتقييد حول بلد
مستهدف؛ فإنها تعمل على إدراجه وعدم إخراجه من تلك القوائم؛ ليظل الفشل وصمة
عار تطارده في علاقاته وتطلعاته، مع أن أمريكا وحلفاءها لو صحت نواياهم في إرادة
الخير للبشر، لعملوا على مساعدة الدول والشعوب المتعثرة لتخرج من كبواتها، أو على
الأقل لا يحولون بمؤامراتهم بينها وبين النهوض، لكن الذي يقومون به هو العكس،
وبخاصة في بلاد العرب والمسلمين، بل إن أمريكا لم تعد تخفي نواياها في تعمّد
«تخليق» أسباب الفشل وتوسيعها ولو لم توجد مسوغاتها أو مقدماتها.
إن «الإفشال» صار آخر صيغ الحروب الشيطانية – غير التقليدية - التي بدأت
أمريكا في السنوات الأخيرة شنها وتوسيع رقعتها، خاصة أن آخر حربين خاضتهما
على طريقة «الحروب التقليدية» في كل من أفغانستان والعراق، قد أرغمتا أنفها
ولقنتاها دروساً كلفتها – حتى الآن - خسارة التفرد بالقعود على قمة القطبية
الدولية، سياسياً وعسكرياً، وضياع أحلام البقاء في فردوس الرخاء اقتصادياً.
ولذلك؛ ففي مصطلح جديد يراد به تهديد الدول والشعوب، يروّج الأمريكيون اليوم لما
يسمى (الحرب غير المتماثلة)؛ لمحاولة فرض أجواء الاحتراب والخراب لكن بصيغ
أخرى، وهم يقولون إن الحرب غير المتماثلة مرت بأربع مراحل أو أجيال، ويتحدثون
الآن عن (الجيل الرابع) من تلك الحرب غير التقليدية، والتي لا تعد استراتيجيات
الصراع فيها وقفاً على العسكريين، بل قد يسلط الشعب فيها على حكومته، أو يسلط
الجيش على شعبه، أو تتخلى الشرطة عن مهمتها الأمنية والنظامية لتكون أداة للخوف
وسبيلاً للفوضى!
بحيث يكون هذا النوع من الحرب سبيلاً لتفكيك بلد أو إسقاط نظام أو إذلال شعب
أو تثوير طائفة على طائفة!!
المقصود بذلك النوع الجديد من الحرب أن يعمل طرف ما على إبطال مفعول القوة
المضادة عند طرف آخر؛ باستغلال نقاط الضعف، ولو كان المستهدِف أضعف من
المستهدَف. وتدور تلك الحرب غالباً في بيئة تآمر وغموض تتكاثر في ظله الفتن بما
يوصل إلى فوضى يمكن أن تستغل في خلط أوراق وبعثرتها، ليعاد جمعها وإعادة
ترتيبها مرة أخرى على هوى جديد لطرف مستفيد، وهذا أيضاً هو بالضبط المعنى
الكامن حول مفهوم (الفوضى الخلاقة) التي تحدثت عنها خنفساء أمريكا السامة
(كونداليزا رايس) عندما بشرت بتوجه واشنطن نحو إعادة رسم خرائط الشرق
الأوسط على أسس جديدة تضمن الأمن القومي لأمريكا.
أما عن مفهوم وكيفية شن حرب (الجيل الرابع من الحرب اللا متماثلة) التي يمكن أن
نسميها «الحرب القذرة» بين طرف يراعي القيم وأصول الحرب وطرف بلا سقف
أخلاقي ولا إنساني؛ فقد أفاض في شرحها المفكر الأمريكي (ماكس مانوارينج)،
الباحث في شؤون الاستراتيجيات العسكرية، والذي خدم في المخابرات العسكرية
الأمريكية وعمل في قيادة الجيش الأمريكي؛ ففي محاضرة ألقاها في 13 أغسطس
2012 في معهد دراسات الأمن القومي في (إسرائيل) بمناسبة عقد المؤتمر السنوي
لأمن النصف الغربي من العالم؛ تكلم ذلك الرجل بكلام خطير لا يسع المشغولون بأمور
المسلمين أن يتجاهلوه.. وهنا أنقل أبرز ما قال بأقرب الألفاظ المترجمة لتلك
المحاضرة التي تحكي وتحاكي تفاصيل ما يدور وما يمكن أن يدور في بعض البلدان
العربية في مرحلتها الراهنة – وبخاصة مصر –، ولذلك أرجو من القارئ أن يستحضر
قياس الكلام النظري الوارد في تلك المحاضرة مع الواقع العملي الذي يجري على
الأرض؛ يقول:
• الجيل الرابع من الحرب غير المتماثلة حاصل وموجود شئنا أم أبينا، وأمريكا مشاركة فيه.
• الغرض من هذه الحرب غير المتماثلة «إكراه الخصم على قبول إرادة عدوه».
• تجارب الحروب خلال العشرين عاماً الماضية أثبتت أن الحروب التقليدية ستندثر أو
في طريقها للاندثار، وما أصبح اليوم مناسباً هو الجيل الرابع من الحرب غير
المتماثلة.
• لا بد أن يعترف الأمريكيون بأنهم متورطون في حروب من هذا النوع، ولا ينبغي
أن يقلقوا من ذلك.
• الهدف من هذه الحرب ليس تحطيم مؤسسة عسكرية أو القضاء على قدرة أمة على
شن مواجهة عسكرية خارج حدودها؛ لكن الهدف إصابة الدولة المستهدفة بالإنهاك
والتآكل ببطء لكن بثبات.
• الغاية المرجوة من وراء ذلك الإنهاك هي اكتساب النفوذ، وبعد اكتسابه يكون
المطلوب إرغام العدو على تنفيذ إرادتنا.
• قد يكون هذا النوع دموياً يستخدم أسلوب (الصدمة والترويع) مثل ما حدث في
ضرب بغداد، وقد لا يكون دموياً، لكنه في النهاية عملية إكراه، سواء بطرق خشنة أو
ناعمة.
• القاسم المشترك من وراء هذا النوع من الحرب هو (زعزعة الاستقرار)، وهذا لا
يحتاج إلى إرسال قوات نظامية عبر الحدود في أغلب الأحوال.
• لأن المشكلات التي تتصدى لها هذه الحرب متعددة الجنسيات، فيجب أن تكون
الحلول متعددة الجنسيات أيضاً.
• الأنسب أن تكون القدرات العقلية الذكية السلاحَ الرئيس في هذه الحرب، وليست
قدرة أو قوة النيران، فلم يسقط حائط برلين بالدبابات أو بالطائرات، وإنما بزعزعة
الاستقرار الذي يأخذ صوراً متعددة.
• الأفضل أن يقوم بتلك الحرب مواطنون من نفس الدولة.
• لأن الهدف إكراه العدو على القبول بإرادتنا، فالوسيلة هي خلق (دولة فاشلة).
• إذا توصلنا إلى أن جزءاً من الدولة المستهدفة أصبح غير خاضع لسلطتها، فإن
سيادتها بهذا تصبح غير موجودة، وبهذا تكون فاشلة.
• لا تكون الدولة ذات سيادة إلا في حال تمكّنها من التحكم في الإقليم الذي تحكمه
والناس الساكنين فيه، ضمن نظام سياسي معترف به.
• عندما لا تتحكم الدولة في كامل إقليمها، فإن الجزء الذي لا تتحكم فيه يصبح تحت
الفوضى، أو يكون محكوماً من غير تلك الدولة، وعادة ما يكون ذلك الإقليم الخارج عن
السيطرة عنيفاً ومحارباً.
• إذا استطعنا تخليق «دولة فاشلة»، فإننا نستطيع أن نتدخل فيها، ليس هذا فقط، بل
يمكننا أن نبسط سيطرتنا عليها حتى لا يختطفها أحد غيرنا.
• هناك دول تحولت بفعل تلك الحرب إلى دول للجريمة، وأخرى أصبحت دولاً عنصرية جديدة، وآخر من يصمد في تلك الحرب هو المنتصر.
• خلاصة المراد من تلك الحرب يتلخص في كلمتين: (الإكراه) و(الدولة الفاشلة).
• الدولة الفاشلة لا تأتي كحدث، بل هي عملية ذات خطوات تنفذ ببطء وبهدوء كاف.
• إذا نفذت هذه الحرب بطريقة جيدة ولمدة كافية وببطء معقول، وباستخدام مواطني
دولة العدو؛ فسوف يستيقظ عدونا ميتاً!
حسبنا الله، اللهم اكفناهم بما شئت وكيف شئت.
هذه هي الطريقة الجديدة لزعيمة العالم «الحر» في نشر «القيم الأمريكية» التي يراد
عولمتها وإلزام البشرية بها!
وفيما يتعلق بالجاري من هذه الحرب على أرض مصر اليوم، وربما على أراضٍ
غيرها غداً، من الضرب على وتر الفعل المتعمد، انتظاراً لرد الفعل المتوقع، لتوجيه
الأمور في المسارات المرسومة؛ فلا أظن أن مجال الكتابة على هذه الصفحات ولا
ظروفها يسمحان بالخوض في التفاصيل والأطراف والأبعاد المتعلقة بها لأجل وضع
خطوط المواجهة المطلوبة لهذا المكر الكبار، مكر الليل والنهار، ولعله يكفي في هذا
المقام شد النظر إليه، وكشف الغطاء عنه، أمام المهتمين بأمر المسلمين..
فمصر لن تكون بإذن الله جائزة ولا غنيمة لليهود ولا النصارى ولا أوليائهما؛ لأن فتح
الموحدين القدامى لها لن يفرط فيه الموحدون المعاصرون.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

[1] سبق أن كتبت مقالين بعنوان «مصر الجائزة» في العددين (214 - 215).


:: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.


الكاتب: مسلمة
التاريخ: 06/05/2013