صفات متوخاة مهمة في قادة جماعات الأمة |
|
صفات متوخاة مهمة في قادة جماعات الأمة
بقلم محمد حسن العيساوي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن الناظر في واقع الأمة ،وما يحيق بها من مكرٍ كبَّار وبطش أشرار،يرى تكالباً شركياً خبيثا،وتعاضداً جاهلياً قذراً مقيتا،على أنصار الشرع والديانة،وأهل السنة والجماعة،في ظل غياب دولة الإسلام وخلافته،وضعف سطوته وذهاب سلطته،مما ترقَّبه شوقي في رثائه الخلافة حين قال:
فلتسمعن بكل أرض داعيا** يدعو إلى الكذاب أو لسجاح
ولتشهدن بكل أرض فتنة** فيها يباع الدين بيع سماح
يفتى على ذهب المعز وسيفه** وهوى النفوس وحقدها الملحاح
وهكذا تُواجه صحوة الإيمان بحلف غربي جاهلي بدعي،تُصوَّب سهامُه على هداة الملة ودعاة السنة،بغية استئصال مشروع الإيمان والاتيان على بنيانه من القواعد..
ولقد مرت على الأمة سنونٌ عجاف،دنس فيها الكفرة بجيوشهم ديار الأمة،وفوقوا سهامهم إلى أبنائها،فهزمت بفضل الله جيوشهم ،وطاشت بحول الله سهامهم،فعادوا أدراجهم خائبين،حاملين جرحاهم وصرعاهم إلى معاقل شياطينهم ومواطن أبالستهم.. فلا أعاد الله إلينا أحياءهم ،ولا رحم مغرز إبرة في صرعاهم!
وما لبثت أمتنا العظيمة بعد ذلك،أن التقطت أنفاسها، فخلعت زمر البغي والطغيان،وسلاطين التخلف والهذيان،ولفظت دخلاء الاستغراب وأذناب الاستخراب،ومن ثَّم أعطت القوس باريها،وأسلمت زمام قيادها ـ أو تكاد ـ لأبنائها الشرعيين، عقب إعصارٍ إيماني هادر،في ربيعٍ فواَّحٍ زاهر..{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض،ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}القصص 5
بيد أن أئمة المكر ودهاقنة الشر، ما فتئوا يعاودون الكرة تلو الأخرى،لقصم ظهر الإسلام ودعوته، وسحق "مشروعه" وإسقاط نهضته، ودفن رواده وساسته في غياهب السجون،مع سياسة قمع شعوب الأمة،وطمس هوية الملة،وفتنة العامة عن تسننها وتدينها،وقلب الحقائق والمفاهيم في عقول ناشئتها،فتغدو الفضيلة تخلفا،والرذيلة تحضراً وتقدما،وتصير البدهيات عجائبا،والمسلَّمَات الواضحات غرائبا،في منظومة تحريفٍ لا تكاد تحصر أو تحصى، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وهكذا يستنفر الشيطان أتباعه،ويتفنن في إحداث الفتن والهرج في جموع المؤمنين،وإتقان الكيد للدعاة العاملين ،ويجهد في استفزاز بعض روادهم ورؤوسهم،ليقصم ظهر الملة،ويوهن عصب شداة السنة..
وعليه:كان لزاماً على من شرَّفهم الله بالتصدر لنصرة دعوته،والقيام على حراسة الدين وسياسته،أن يلاحظوا معالم مهمة،في صفات النجباء أهل التصدر للسياسة،ومسالك التصرف وفقه الريادة، وحسن إدارة الأزمات ،ومعالجة الفتن ومواجهة البليات،مما تواردت عليه نصوص الشرع وأصوله ،واتفق عليها أساطين العلم وبحوره،وها أنذا ـ على قصر الباع وقلة الزاد ـ أرقُم أشياء منها بإيجاز يناسب المقام.
1-يجب على المتصدر أن يكون كثير اللجوء إلى الله تعالى،والفزع إليه بالدعاء والاستخارة،خصوصاً عند نزول الكربات وحلول الفتن والبليات،وتكاثر الاجتهادات والآراء،وبذلك يكون قد أخذ بأهم أسباب استجلاب عون الله وتوفيقه له..
إذا لم يكن عون من الله للفتى** ... فأول ما يقضى عليه اجتهاده
وقد كان حبيب الله صلى الله عليه وسلم يقوم ملتجئاً إلى ربه سبحانه يدعو:" اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"أخرجه مسلم وغيره..
2-يجب على المتصدر أن يعلم أن السياسة الشرعية من أدق علوم الشرع وفنونه،وأصعب أبوابه وفصوله،لذا أفردها جماعة من الأجلة بالتصنيف،ومن أرأس مصنفاتهم في ذلك:كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني،والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لشيخ الاسلام ابن تيمية،والطرق الحكمية لتلميذه العلامة ابن القيم إلى غير ذلك رحم الله تعالى الجميع..
وعليه:فالتصدر لمعالجة شأن المسلمين وسياستهم من أهم فروض الكفايات،لا يجوز التفريط فيه،ولا الافتئات على أهله بإيلاج من كان أجنبياً عن فقهه إلى سربه..فالحذار الحذار من التعجل للتصدر،فيتزبب المتصدر ذاك قبل أن يتحصرم،ويطير ولمَّا يريش،فإذا به عند أول نازلة قد وجبت جنوبه فهوى والعياذ بالله.. قال ابن القيم في الطرق الحكمية: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها... وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه.
قال العلامة ابن فرحون في تبصرة الحكام: والسياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرع يحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشرعية توجب المصدر إليه والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد... سلكت فيه طائفة مسلك التفريط المذموم، فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قل ظنا منهم أن تعاطي ذلك مناف للقواعد الشرعية، فسدوا من طرق الحق سبيلا واضحة، وعدلوا إلى طريق العناد فاضحة، وطائفة سلكت هذا الباب مسلك الإفراط، فتعدوا حدود الله تعالى وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة، وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة، وهو جهل وغلط فاحش. وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع، فقمعوا الباطل ودحضوه، ونصبوا الشرع ونصروه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.".
3-يجب على المتصدر أن يكون ذا فطنة ونباهة،وتبحر في فهم الواقع وحسن دربة ودراية،وإلا فلا يتعن،إذ السياسة الشرعية الحكيمة وهي المسماة عند بعضهم بالحكمة العالية،لا تسلس قيادها إلا لمن فقه الشرع وأصوله،وخبر الواقع وشؤونه،وأتقن تنزيل حكم الشرع على الواقع،وإلا طاش سهمه،وخاب سعيه،فلا الإسلامَ نصر ولا الكفرَ كسر،بل جلب على أهل الإسلام مصائب محزنة ونوائب مبكية..قال ابن القيم في سبب فشل بعض الساسة في تحقيق مصالح الأمة:" والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر"
وعليه فالواجب أن يتقن المتصدر وسائل جلب المصالح ودرء المفاسد،وليحذر كمائن أهل المكر الكُبَّار،وفخاخَ المبتدعة الأشرار،وليفوت المفسدة الكبرى بتحمل الصغرى،وليسدَّ ذرائع الشر،ولينظر في مآلات الأمور بتعقل وتفكر،والله يهديه بإذنه إلى سواء السبيل..
4-يجب على ساسة جماعات أهل السنة أن يترفعوا عن حظوظ النفس واتباع الهوى،واعتداد الرأي وتصلب الفكر وجنوح الاجتهاد،وشذوذ التصرفات..وتتأكد هذه المعاني عند حدوث فتنة ملمة،أو طروء نازلة مدلهمة،والواجب عليهم جميعاً أن يقدموا الأصول على الفروع،والكليات على الجزئيات،وأن يحرصوا على وحدة الموقف العملي،وعلى تجاوز ما نزغ الشيطان به بينهم،وهم قد شهدوا بكلمة التوحيد،فليحرصوا على توحيد الكلمة،وليقدموا مصلحة الأمة على معاقد الجماعات وقوالب التنظيمات،وإلا كانوا عرضة لسخط الله وتسلط أعدائه عليهم{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}
5-الواجب على من شرَّفه الله للتصدر: الاعتبار والاتعاظ بتجارب السابقين، وهذا لعمرو الله مسلك نبيل فرَّط فيه كثير من أهل الإسلام،فتجد الجماعة تكرر فعل جماعة أخرى سبقتها بعين التجربة دون اتعاظ أو اعتبار،فتهوي فيما هوت فيه سابقتها،ولو أنها اعتبرت وأعملت القياس والمقابلة،لقللت ضروباً من المآسي والفاجعات،وقد ورد في سيرة خال المؤمنين معاوية ـ وهو من جهابذة السياسة الإسلامية ـ أنه كان يجلس بعد الفجر فيُقرأ عليه سيرُ الملوك السابقين،فينظر فيها مواطن الحكمة والحنكة وحسن السياسة والإدارة والتخلص والريادة..
والتاريخ بحر زاخر لمن أتقن قراءته وفَقِه تقلباته وأحواله،ثم اعتبر فقاس ووازن وشابه وقابل،وهو كثيراً ما يعيد نفسه،ففي سير الغابرين وما مر بهم من أحداث، الكثير الكثير من النوازل المشابهة،فهل من معتبر!!
6-الابتعاد عن الغضب والاستعجال عند اتخاذ القرارات:وهذه كسابقتها من أهم سمات المتصدرين،وهذه المعاني تواردت عليها نصوص الشرع وآثار السلف،والمأمول أن تكون متأصلة في طبائع المتصدرين للريادة والسياسة،فالغضب مسلك وخيم يمنع القضاء بنص الشرع،ويمنع ما شابهه من السياسة والحكم وغيرها بالقياس والاعتبار،وأما العجلة ـ وهي فعل الشيء قبل وقته اللائق به ـ فهي أم الندامات كما كانت العرب تسميها وقد كان بعض السلف يقول:إنها ستكون هنات وأمور مشتبهات، فعليكم بالتؤدة..وقد روي في بعض الأحاديث ما تشهد له نصوص الوحيين بصحة معناه: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات..
7-ومن أهم صفات المتصدرين إعمال الشورى مع عموم نبهاء المسلمين في الملمات ،وهم المعروفون في عرف النظام السياسي الإسلامي بأهل الحل والعقد، وليس المقصود أن يعمل المتصدر الشورى مع أركان جماعته الخاصة،ومن دان له بالولاء المطلق فصار كالميت بين يدي مُغَسِّله،بل المقصود تعميمها على أهلها كافة من جميع الجماعات العاملة،فما ضل من استشار وما خاب من استخار،وقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس مشورة لأصحابه كما في سنن الترمذي..
وإنما كانت الشورى بهذه المكانة من الأهمية لما اجتمع فيها من الفوائد والمصالح، إذ يتحصل بإعمالها إصابة الحق في الغالب ،مع تلاقح الأفكار وتبادل الخبرات ومعرفة الطاقات، والاطلاع على ما خفي عن المتصدر، وتحصيل الثقة والوقاية من الاستبداد.. لذا كانت الشورى واجبة على الولاة ومن شاكلهم في قول الجمهور على التحقيق.. قال الإمام الرازي رحمه الله:ظاهر الأمر للوجوب فقوله: وشاورهم يقتضي الوجوب، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب".
وقال العلامة ابن خويز منداد رحمه الله: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها".
قال العلامة ابن عطية رحمه الله: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه".
بل كانوا ينكرون على من تسرع في فتاوى النوازل وانفرد فيها قال التابعي أبو الحصين رضي الله عنه: إن أَحدهم لَيُفتي في المسأَلة، ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أَهلَ بدر!
قال الشعبي رحمه الله كما في سنن البيهقي:الرجال ثلاثة:فرجل،ونصف رجل،ولا شيء.أما الرجل التام فالذي له رأي وهو يستشير،وأما نصف الرجل فالذي ليس له رأي وهو يستشير،وأما الذي لا شيء فالذي ليس له رأي ولا يستشير"
يا معاشر القادة:إن ما يمر بالأمة من فتن خطيرة،وشرور مستطيرة،ليوجب عليكم التيقظ والانتباه،وإعمال الحنكة والحكمة،وسد ذرائع الشر،وتوقي الهيشات،والأخذ باليد على المتهوكين الأغمار..وإلا كانت قاصمة ليس لها من دون الله عاصمة..
أرى خِلل الرماد وقود نار* ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
لئن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
سدد الله جهود القادة النبلاء،والساسة النجباء،شكر سعيهم وأعلى في العالمين ذكرهم..والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: محمد العيساوي
التاريخ: 06/09/2012