حقوق الإنسان أم حقوق السلطان؟ د. عبدالكريم الخضر |
|
دأبت بعض المجتمعات على عدم فهم هذه المعادلة البسيطة في كيفية التعامل مع كل من حقوق الإنسان وحقوق السلطان فأصبحوا فيها بين طرفي نقيض
فمنهم من يقدم حقوق الإنسان على حقوق السلطان -في غير المجتمعات العربية-فيعطي الإنسان المتمثل بالشعب او المجتمع كل شي ويحرم السلطان او الحاكم من كل شي فهو لايعدوا أن يكون صورة خالية من الحقوق ومنهم من يتحيز إلى الطرف الآخر وهم الأكثر في عالمنا العربي فيعطي السلطان جميع الحقوق فيجعله صاحب الصلاحيات الثلاث برأيه وشهوته ,وإعطائه ومنعه , ورضاه وغضبه, ويحرم الإنسان-الشعب- من ابسط حقوقه التي اكتسبها بإنسانيته قبل دينه ومعتقده , وبذلك يجعل الولاء للحاكم وفيه, والانتماء معه وعنده, وبقدر ما يحبه الإنسان , وينتمي له ويواليه يكسب حقوقه الإنسانية , وكرامته البشرية , وكلا طرفي قصد هذا الأمر ذميم.
ولقد جاء الإسلام بالمرتبة الوسطى التي ترتقي بالإنسان في منازل العزة , ودرجات التمكين فلم يجعل الإنسان بخصوصه والشعب والأمة بعمومها مسخرة للحاكم لتحقق رغباته , وتنفذ شهواته, وتوالي فيه وتنتمي لذاته, كما هو الحاصل في المجتمعات العربية , وكذلك لم يجعل الحاكم مجرد صورة خالية من معاني الإرادة والعزيمة , والتنفيذ بل جعل له حق الطاعة في المعروف إذا كان رأيه صادر عن مشورة الأمة الملتزمة بالوحيين, لا تلك المشورة القائمة على الشهوات والرغبات الخالية من مصالح المآلات.
ولقد حصل الفهم المغلوط بسبب البعد عن النص الشرعي وعدم إعماله أو تأويله بغير معناه , أو بسبب ما ألقاه الشيطان في قلوب بعض المتفقهين من باب ما يسمى سد الذرائع
وذلك أن هناك من ألغى حق السلطان والحاكم في كل أمر من أجل سد الذرائع وحتى لا يتجاوز السلطان حقه إلى مالا يستحقه, فيتدخل فيما لا يجوز له التدخل فيه , ولذلك منعوه من ابسط حقوقه التي اكتسبها بولايته الشرعية, وهؤلاء هم مجموعة من الكتاب لم تستطع في المجتمعات العربية أن تتجاوز أفكارها حدود الورق الذي كتبت عليه.
كما أن هناك من أعطاه من الصلاحيات أكثر مما جعل الله له فلوي أعناق النصوص الشرعية وأولها بغير ما تحتمل –خوفاَ او رجاءَ – فجعله وكيلاً عن الله على أمته فهو وحده - مهما بلغ علمه او جهله - من يملك حق التصرف بمصير الأمة ومقدراتها وثرواتها , ولو من دون الرجوع إليها في ذلك بل والغي نص آيتين من القران وعدة أحاديث ثابتة في السنة الصحيحة وهي الآيات والأحاديث النصية في وجوب الشورى وإنها لازمة في حق الحاكم لامناص له عنها بل وسوغوا له- ظلماً وبهتاناً - عدم مشاورة الأمة حتى في قضاياها المصيرية بقولهم أن الشورى اختيارية في حق الحاكم وغير واجبة عليه وكأن هذا الحاكم ينزل عليه وحي من ربه يخبره بالمصالح والمفاسد في حق الأمة وبذلك أصبح الحاكم يعين ويفصل ويعطي ويمنع , ويعاهد وينقض , ويعتقل ويطلق , ويتهوك في الحلال والحرام , ويتصرف في مال الأمة ومقدراتها , كل ذلك برغبته وهواه , ويضن أو يعتقد من حوله انه إنما هو يتصرف في ممتلكاته الخاصة , فان جاء من يناقشه او ينصحه , أو يشير عليه برأي يخالف رغبته أرعد وزمجر , وتسلط عليه بخيله ورجله , وأودعه في غياهب السجون حتى يتوب هذا الناصح مما اقترف , ويتوب مما فعل من ذنوب ,ومع ذلك يجد من علماء السوء من يفتيه بان ما يفعله بالأمة إنما هو جهاد في سبيل الله , وان احتماله لهم حسنات تثقل موازينه هذان هما طرفي قصد الأمور ومنهج الإسلام الصحيح وسط بين ذلك فلا إفراط ولا تفريط فيها وهذا ما جاء فيه النص الشرعي من القران والسنة الصحيحة
فالإسلام جاء ببيان وجوب إقامة الحاكم على الأمة بل بوجوب تعيين الأمير على الثلاثة في السفر حتى يستقيم أمرهم , وهذا يدل على انه لا يمكن ان يصلح أمر الأمة الإسلامية بدون أمير أو حاكم يحكمها , وبين أيضا وجوب طاعته في المعروف ووجوب الائتمار في أمره فيما فيه صالح الأمة في الدنيا والآخرة , لكنه جاء أيضا موجبا عليه مشاورة الأمة في قول الله تعالى ((وشاورهم في الأمر)) وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله مع أمته في عصره ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في عصره مع أن الوحي يلقي عليه والله عز وجل قد سدد رأيه وقال عنه :(وما ينطق عن الهوى) وجعل من حق الواحد من أصحابه مناقشته ومراجعته والاعتراض عليه فيما يفعله في حق عموم الأمة, وما حصل في غزوة بدر ومكان الوقوف فيها, والتصرف في الأسرى بعدها , وغزوة احد والخندق, وصلح الحديبية وقسمت الغنائم , وغيرها إلا أدلة واضحة على وجوب الشورى في حق الإمام لا يجوز له في أي حال من الأحوال إهمالها تحت أي ظرف كان وبأي مسوغ ولذلك جاء المنهج الإسلامي واضحا في ذلك حينما حرم الاعتداء على أموال الناس أو مصادرة حرياتهم حتى من قبل الإمام أو الحاكم دون استثناء وهذا ما يتوافق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه , وقوله صلى الله عليه وسلم :لا يحل دم أمري مسلم إلا بإحدى ثلاث .....الحديث , وغيرها من النصوص الشرعية
كما جعل الإسلام الولاء لله عز وجل , والبراء من أعداء الله وجعل الانتماء للأمة , لأنها هي صاحبة السلطات الثلاث مما اوجب على الحاكم ان يجعل ولائه وانتمائه لهذه الأمة , لا العكس وهو ما يقول به بعض الجهلة ممن جعل الولاء والانتماء واجب على جميع الأمة للحاكم , وبذلك تحصر الأمة في شخص الإمام أو الحاكم
وذلك لان من يكون له الولاء والانتماء يكون هو المقدم في الاهتمام بمصالحه على غيره , فإذا كان الولاء والانتماء من الحاكم للأمة , فان مصلحة الأمة تقدم على مصلحة الحاكم لأنها هي الأصل . أما إذا كانت الأمة هي التي يجب عليه إثبات الولاء والانتماء للحاكم ,فان مصلحة الحاكم هي المقدمة على مصلحة الأمة - وهذا هو الحاصل في المجتمعات العربية - فيجب عليها أن تثبت صحة ولائها للحاكم بعدم الاحتساب عليه وتركه يعبث في مصيرها , ويضيع مقدراتها ويتهوك في مالها بدون محاسبة ولا مسألة .
بسبب ذلك اختلطت المفاهيم على بعض الناس فقدم حقوق السلطان على حقوق الإنسان وأصبح الحديث عن حقوق السلطان وأهمل الحديث عن حقوق الإنسان مما جعل الاهتمام بالإنسان في مجتمعاتنا العربية من آخر الاهتمامات .
وكأن الأمة كلها إنما خلقت لتقوم بحقوق سلطانها فتستقيم حياته وتحقق رغباته وشهواته على حساب مصالح الأمة ومصيرها ومستقبلها . فاختزلت الأمة في أشخاص ترضى الأمة برضاهم وتغضب بغضبهم وتسعد بسعادتهم وتشقى بشقائهم, وتحارب للحفاظ على كراسيهم , وتعاهد لكسب مودتهم. وكأن الله اوجد الحاكم أولا ثم اوجد الأمة لتقوم بواجباته له, وليس العكس وهو أن الله اوجد الأمة ثم كلفها بأن تختار من أفرادها وكيلا لها وأجيراَ عندهما يقوم بما أوكلت له القيام به, ومن المعلوم عقلاً أن الوكيل لايجوز له أن يقوم بعمل دون أذن من وكله على القيام به, فإذا تصرف بخلاف ذلك كان لموكله عزله.
وهذا يجعلنا نقف طويلاً امام سؤالين آخرين لايقلان أهمية عن سابقهما وهو:
أيهما المقدم سلطة الأمة وقوامتها على الحاكم أم سلطة الحاكم وقوامته على الأمة؟؟؟
وهل الأمة قاصرة فاحتاجت إلى أن يكون الحاكم وصياً او وكيلاً عليها ,أم أنها راشدة والحاكم وكيلا عنها أقامته ليقوم بمصالحها بعد أن يستشيرها ويطلب أذنها فيما يريد أن يعمله لها ؟؟؟
وهل يعي بعض المتفقهين خاصة وبقية الأمة عامة أن الحاكم لا يعدو أن يكون وكيلا وأجيرا عندها يقوم بمصالحها, بعد أن يستشيرها فتشير عليه بذلك فتكون الأمة قد فرضت قوامتها على حكامها وقامت بما اوجب الله عليها من حماية دينه والحفاظ على شرعه كما ذكر ذلك بعض الفقهاء كابن تيمية رحمنا الله وإياه وغيره.