الافتراق ...مفهمومه... اسبابه.... علاجه

 

المقدمة


إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائل :  وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله  [ الأنعام : 153 ] ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -  - الذي حذر أمته مما وقعت فيه الأمم من الابتداع والافتراق ، بقوله : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه )) ( ) .
وبعد :
فإن من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعنى بها أهل العلم وطلابه في هذا العصر ، والتي هي من أحوج ما يحتاج إليه المسلمون بعامة ، وطلاب العلم بخاصة ، مسألة الافتراق ( الافتراق مفهومه وأسبابه ، وسبل التوقي منه ، والحذر من الوقوع فيه ) .
لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع وأخرجت أعناقها ، وكثرت فيه الأهواء ، وسيطرت على الناس ، وكثر فيه الخبث والنفاق ، نعم ، لقد كثرت الأهواء رغم كثرة العلم وانتشاره ، إلا أن منه ما لا بركة فيه لأصحابه ، ولا يفيد الكثيرين ممن تلقوه ؛ لأنه إما أن يكون تلقيه عن غير المصادر الأصلية ، أي من غير الكتاب والسنة والآثار ومصنفات أئمة الهدى المقتدى بهم في الدين ، أو عن غير أهله ، أو على غير منهج أهل العلم والفقه في الدين ، وكثرة وسائل العلم ، وهذه نعمة من الله لكن رغم أنها نعمة ، إلا أنها قد ضرت كثيرًا من الناس حين استعجلوها على غير وجهها وحين اكتفوا بها عن أخذ العلم عن أهله ، وهذا من العلم الذي لا ينفع ، الذي استعاذ منه النبي -  - ( ) ، فإن البركة إنما تتحقق في العلم الذي يؤخذ عن العلماء ، وهو الأصل الذي هو سبيل المؤمنين ، أما أخذ العلم عن الوسائل فقط دون الرجال فإنه لا ينفع إلا قليلاً ، مما نتج عنه ظهور الأهواء والآراء الشاذة عن السنة ، وشيوع مظاهر الافتراق والتنازع في الدين وبحثنا هذا سيكون عن : الافتراق : مفهومه ، أسبابه ، وسبل التوقي منه ( ) .
وسأحصر الحديث في هذا الموضوع على خمس مسائل :












المسألة الأولى : مفهوم الافتراق
الافتراق في اللغة : من المفارقة وهي المباينة والمفاصلة والانقطاع ، والافتراق أيضًا مأخوذ من الانشعاب والشذوذ ومنه الخروج عن الأصل ، والخروج عن الجادة ، والخروج عن الجماعة .
وفي الاصطلاح : الافتراق هو الخروج عن السنة والجماعة في أصل أو أكثر من أصول الدين القطعية ، سواءً كانت الأصول الاعتقادية ، أو الأصول العملية المتعلقة بالقطعيات ، أو المتعلقة بمصالح الأمة العظمى ، أو بهما معًا .
عن أبي هريرة -  - عن النبي -  - أنه قال : (( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهدًا عهده فليس مني ولست منه )) ( ) .
فمخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين في العقيدة افتراق ومفارقة للجماعة ، ومخالفة إجماع المسلمين افتراق ومفارقة للجماعة ، ومخالفة جماعة المسلمين وإمامهم فيما هو من المصالح الكبرى افتراق ومفارقة للجماعة .
والخروج عن إجماع المسلمين عملاً افتراق ؛ لأنه مفارقة للجماعة .
وكل كفر أكبر يُعدُّ افتراقًا وليس كل افتراق كفرًا .
أعني أن كل عمل أو اعتقاد يخرج به الإنسان عن أصول الإسلام وعن قطعيات الدين وعن السنة والجماعة ، وهو يقتضي الكفر فإنه مفارقة ، لكن ليس كل افتراق كفرًا ، بمعنى أنه قد يقع الافتراق من طائفة أو فريق من الناس أو جماعة ، لكن قد لا توصف بالكفر ، حتى إن افترقت عن جماعة المسلمين في عمل ما ، كافتراق الخوارج ، فالخوارج الأولون افترقوا عن الأمة ، وخرجوا عليها بالسيف ، وفارقوا جماعة المسلمين وإمامهم ، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفرهم ، بل اختلفـوا فيـه ، ولما سئـل عنهـم علي -  - لم يحكم بكفرهم ، وكذلك ابن عمر وغيره من الصحابة -  - ، كانوا يصلون خلف نجدة الحروري ، وكان ابن عباس يجيب نافع بن الأزرق ويناظره بالقرآن كما يتناظر المسلمان ( ) .

المسألة الثانية : الفرق بين الاختلاف والافتراق
الفرق بين الافتراق والاختلاف أمر مهم جدًا ، وينبغي أن يُعنى به أهل العلم ؛ لأن كثيرًا من الناس خاصة بعض الدعاة وبعض طلاب العلم الذين لم يكتمل فقههم في الدين ، لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق ، ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف أحكام الافتراق ، وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق ، ومتى يكون هذا ؟ وكيف يكون ؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما ؟
من هنا كان لابد من ذكر بعض الفروق بين الاختلاف وبين الافتراق ، وسأذكر خمسة فروق على سبيل المثال لا على سبيل الحصر :
الفرق الأول : أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف ، بل هو من ثمار الخلاف ، إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق ، وقد لا يصل ، فالافتراق اختلاف وزيادة ، لكن ليس كل اختلاف افتراقًا . وينبني على هذا الفرق الثاني .
الفرق الثاني : وهو أنه ليس كل اختلاف افتراقًا ، بل افتراق اختلاف ، فكثير من المسائل التي يتنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية ، ولا يجوز الحكم على المخالفة فيها بالكفر ولا المفارقة ولا الخروج من السنة .
الفرق الثالث : أن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى ، أي أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها ، والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع ، أو استقرت منهجًا عمليًا لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه ، فما كان كذلك فهو أصل ، من خالف فيه فهو مفترق ، أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف .
فالاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد في الرأي ، ويقبل الاجتهاد ، ويحتمل ذلك كله ، وتكون له مسوغات عند قائله ، أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول ، وذلك في أمور الاجتهاديات والفرعيات ، ويكون في بعض الأصول التي يعذر فيها بالعوارض عند المعتبرين من أئمة الدين ، والفرعيات أحيانًا قد تكون في : بعض مسائل العقيدة التي يتفق على أصولها ، ويختلف على جزئياتها ، كإجماع الأئمة على وقوع الإسراء والمعراج ، واختلافهم وتنازعهم في رؤية النبي -  - لربه فيه ، هل كانت عينية ، أو قلبية ؟
الفرق الرابع : أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحريًا للحق ، والمصيب أكثر أجرًا ، وقد يحمد المخطئ على الاجتهاد أيضًا ، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله ، بينما الافتراق لا يكون عن اجتهاد ، ولا عن حسن نية ن وصاحبه لا يؤجر عليه ، بل هو مذموم وآثم على كل حال ، ومن هنا فهو لا يكون إلا عن ابتداع أو عن اتباع هوى ، أو تقليد مذموم ، أو جهل مطبق .
الفرق الخامس : أن الافتراق يتعلق به الوعيد ، وكله شذوذ وهلكة ، أما الاختلاف فليس كذلك ، مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد ، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل بالدليل ولم تقم عليه الحجة ، أو عن إكراه يعذر به قد لا يطلع عليه أحد ، أو عن تأول ولا يتبين ذلك إلا بعد إقامة الحجة .

التنبيه على بعض الأخطاء
وبمناسبة الفرق بين الاختلاف والافتراق لابد من التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس في هذا العصر ، خاصة الذين يواجهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، مع ضعف في العلم ، وقلة الفقه في الدين ، أو قلة التجربة ، أو قصور أو انحراف في التصور ، وأخص بعض رواد الدعوة الإسلامية المعاصرة .
فمن هذه الأخطاء :
الخطأ الأول : إنكار أن يكون في الأمة افتراق ، وينبني عليه نزوع بعضهم إلى إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي -  - وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً بعد قليل ، وهذا خطأ فادح ، أن يميل بعض الناس أو يدعي أنه ليس في الأمة افتراق ، وهو بذلك يزعم أنه يريد أن يظهر حسن النية في الأمة ، وأن يعامل الأمة بالظاهر ، ومن هنا يتنكر لحديث الافتراق أو يؤوله ، أو يصرف الافتراق إلى فرق خارجة عن الإسلام قطعًا ، أو إلى فرق في الأمة هي من غير المسلمين ، وهذا خطأ فادح ، بل هو معارضة صريحة لأخبار النبي -  - ، بل الأخبار القاطعة في الكتاب والسنة ، تدل على وقوع الافتراق ( ) ، فالأمة فعلاً فيها افتراق وهذا حق ، والافتراق من الابتلاء ، والحق لا يتبين إلا بضده ، والله سبحانه وتعالى كتب منذ الأزل ألا يبقى على الحق إلا الأقلون ، وعلى هذا فإن القول بوقوع الافتراق لا يعد إساءة ظن بالأمة ، بل هو أمر واقع لابد من الاعتراف به ، ولابد من تصديق خبر النبي -  - فيه كما أخبر ، وكون الافتراق يقع في الأمة لا يعني أن الإنسان يُسلم بالأمر الواقع ، أو يزعم أن المفارقة مشروعة ، أو يرضى بأن يفارق أو لا يتحرى الحق ولا يبحث عنه استسلامًا لقدر المفارقة ، بل إن وقوع الافتراق هو دافعٌ لكل مسلم بأن يتحرى الحق ويستمسك به ، ويعرف الشر ليحذره ويتجنب مسالكه ، وليعلم أن الحق لابد متحدّد في نهج النبي -  - وفي نهج صحابته ، ونهج السلف الصالح .
الخطأ الثاني : وهو قد يتخذ ذريعة للمفارقة ، وهو يقابل الخطأ الأول بالتمام وهو اعتقاد أن المفارقة ما دامت أمرًا واقعًا فهذا يعني أن الأمة تقع فيه برضى وتسليم ، وأنه يشرع للدعاة أن يرضوا بواقع الافتراق ويسلموا به ، وأن يقبلوا هذا الضلال دون أن يسعوا لعلاجه ، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان ؛ لأن المفارقة أمر واقع ، فعلى المسلم أن يذهب مع من يعجبه من أهل الأهواء وأهل الفرق ، أو يتعاطف معهم ، أو يسعى لجمعهم على ما هم فيه من افتراق .
وهذه أيضًا دعوى باطلة ، بل هي تلبيس على المسلمين ، فلا يجوز أن يكون الخبر عن الاختلاف ذريعة للمفارقة ، أو ذريعة للرضى بالبدع ، أو ذريعة للرضى بالأهواء والرضى بالخطأ ؛ لأن الخبر عن الافتراق في الدين جاء بمعرض النهي والتحذير الشديد ، ولقد وصل الأمر عند البعض ممن ينتسبون للدعوة أن يقول ما دام الرسول -  - أخبر بأن الأمة ستفترق ، فإذًا لابد أن نرضى بالبدع ونقرَّها أمرًا واقعًا ، ونرضى بالأهواء ونُقرها أمرًا واقعًا ، ونسلم للأمر الواقع ولنعرف بأنه لا ديـن إلا بدخن !! وهذه دعوى باطلة ، بل هي من مداخل الشيطان على الإنسان ، لأن الرسول -  - حينما أخبر عن الافتراق ، أخبر بأنه ستبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ، ظاهرة منصورة ( ) ، ظاهـرة بالحق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة ، ويهتدي بها من أراد الهدى ، ويقتدي بها من أراد الحق والخير والسنة ، فإذًا الحجة لابد أن تكون قائمة ، والحق لابد أن يظهر ، ولا يمكن أن يخفى على كل ذي بصيرة ، ولا على كل من يريد الحق ويسعى إليه صادقًا ، فإنه من يتق الله يجعل له مخرجًا ، فما دام الحق واضح والسنة قائمة فلا يجوز للداعية ولا لغيره أن يعدل عن السنة مهما قل اتباعها ولا أن يستسلم ويرضى بالبدع والأهواء مهما كثر أتباعها ، فإن الفرقة الناجية واحدة من ثلاث وسبعين فرقة - فافهم رعاك الله - .
فمن هنا كان الرضى بالبدع والأهواء على أنها أمر واقع لا يجوز شرعًا ، بل هو تلبيس عل المسلمين ، وهو أيضًا تحقيق للباطل ، وإعراض عن الحق ، واتباع لغير سبيل المؤمنين ، نسأل الله السلامة .
الخطأ الثالث : خطأ الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة للتسرع في وصف المخالفين بالخروج ، أو المفارقة ، أو المروق من الدين ، وما يستتبع ذلك من الاستعجال في الحكم على المخالفين دون رجوع إلى قواعد الشرع وأصول الحكم ، ومناهج أئمة الدين في ذلك ؛ لأن التكفير له ضوابطه وأصوله ، حتى مع مرتكبي البدع والأهواء ؛ لأن ترتيب الأحكام عليهم بالكفر أو بالبراء والبغض والهجر ، والتحذير من المخالف مطلقًا ، دون التثبت ودون إقامة الحجة لا يجوز ، أعني بذلك أنه لا ينبغي لكل من رأى أي بدعة في شخص أن يصفه بالمفارقة ولا كل من رأى أمرًا مخالفًا للشرع والدين والسنة أن يصفه بالمفارقة ؛ لأن من الناس من يجهل الأحكام ، والجاهل معذور حتى يعلم ، ومن الناس من يكون مكرهًا في بيئة ، أو في مكان ما ، كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية التي يُكره فيها المسلمون - مثلاً - على حلق اللحى ، أو على ترك الجماعة ، أو على التلفظ بالكفر ، أو على ممارسة بعض الأعمال التي لا تجوز شرعًا ، ويكرهون على ذلك ، ولو لم يفعلوا لقتلوا ، أو عذبوا ، أو انتهكت أعراضهم ، أو نحو ذلك .
إذًا فإن عارض الإكراه لابد أن يرد في ذهن الحاكم على الناس بأي حكم من الأحكام ، وقد يكون فاعل البدع أو معتقد الضلالة متأولاً ، ولم تقم عليه الحجة ، فلابد من إقامة الحجة على الناس ، فقد يرى أحدنا منا إنسانًا يرتكب بدعة من البدع التي عادة إنما يرتكبها أهل الافتراق - كبدعة المولد مثلاً - فإذا فعلها إنسان عامي جاهل فلا يعني أن يوصف بالضلال ، حتى يُبيّن له الأمر ، وتقام عليه الحجة ، ولا أن يوصف بالافتراق ، أما فعله فيوصف بالابتداع ، لكن لا يوصف بأنه مفارق أو أنه خارج عن الجماعة ، أو أنه من الفرق الهالكة بمجرد رؤية بدعة أظهرها حتى تقام عليه الحجة ، اللهم إلا البدع المكفرة ، وليس المقام هنا يتسع للكلام عنها .
بل اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات والمحدثات لا يجوز ، بل هو من التعجل المذموم ، وينبغي على من رأى شيئًا من ذلك أن يتثبت وأن يسأل أهل العلم ويفترض أن المسلم الذي وقع في ذلك جاهل ، أو متأول ، أو مقلد يحتاج إلى نصح ، وبيان ، وإرشاد ، وأن يعامل ابتداءً بإشفاق ورفق ؛ لأن القصد هدايته لا تجريحه .
الخطأ الرابع : الجهل بما يسع فيه الخلاف وبما لا يسع ، أي عدم التفريق عند كثير من المنتسبين للإسلام ، بل ومن المنتسبين للدعوة ، بين ما هو من أمور الخلاف ، وما هو من الأمور التي لا يصح فيها خلاف ، وأضرب لذلك أمثلة :
1- من الناس من يعد بعض المسائل الخلافية من القطعية والأصول دون أن يرجع إلى أصول أهل العلم ، وإلى أقوالهم أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين ، الذين يبصرونه في هذه الأمور .
2- ومن ذلك عدم التفريق بين الأمور المكفرة وغير المكفرة .
3- عدم التفريق بين البدعيات الكبرى وما دونها والبدعيات المخرجة من الدين أو المكفرة ومـا دونها ، كثيرًا مـن الأخطاء التي تحـدث مـن الأشخـاص ، أو مـن الهيئـات ، أو من الجماعات - ويكفرهم بعض المتعجلين بسببها - هي ليست كذلك ، فإن بعض الناس إذا عرف بأصل من الأصول التي تكفر ، كالقول مثلاً بأن القرآن مخلوق طبَّقه على كل قائل بهذه المقولة دون الأخذ بأحكام التكفير ، وهكذا في بقية المسائل ، وعدم التفريق بين الأصل وبين الحكم على المعين أمر مخالف لأصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة .
إن أهل السنة والجماعة يفرِّقون بين الأحكام العامة بالكفر ، وبالفسق ، وبالتبديع على وجه العموم ، وبين الحكم على المعين ، فقد نحكم على عمل أو شيء ما بأنه كفر ، ونحكم على مقولة ما من المقولات بأنها كفر ، وهذا لا يعني أن كل من اعتقد أو فعل هذا الكفر يكفر ، ولا كل من قال بهذا القول يكفر ، هناك كثيرون لا يفرقون في هذه المسائل فيُكفّرون باللوازم ويُكفّرون دون الأخذ بضوابط التكفير ، مع أن الكفر لا يجوز إطلاقه حتى يتم التثبت ، وبيان الحجة وإقامتها ، وبيان الدليل ومعرفة عدم وجود العوارض المانعة من إطلاق التكفير على المعين ، كالجهل وعدم وجود الإكراه ، وعدم وجود التأول . وهذه مسألة تحتاج إلى مقامات طويلة ، وإلى مقابلة للأشخاص ، وإلى الجلوس إليهم ، ونقاشهم ونصيحتهم ، أما أن نرتب أحكام الكفر على كل من ظهرت منه حالة كفر ، أو مقولة كفر ، أو اعتقاد كفر ، فإن هذا لا يجوز إلا في الأمور الكبرى التي تعلم من الدين بالضرورة ، كمن أنكر شهادة ألا إله إلا الله ، فهذا معلوم من الدين بالضرورة كفره ، أو من أنكر شهادة أن محمدًا رسول الله ، فهذا معلوم من الدين بالضرورة كفره ، أو من سب الرسول -  - فهذا معلوم من الدين بالضرورة كفره ، لكن هناك من أصول الدين ما تخفى دقائقه وتفصيلاته ، وألفاظ الاعتقاد به على العامة ، ومن في حكمهم كمسائل الصفات ، ومسائل القدر ، ومسائل الرؤية ، والشفاعة ومسائل الصحابة ، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها العامة تفصيلاً ، بل تخفى حتى على بعض من ينتسبون إلى العلم ، تخفى عليهم تفاصيلها ، وربما يتلفظ بعضهم بلفظ كفر ، وهو لا يشعر ، أو وهو لم يعتمد أو هو لا يدري ، أو لم يتمعن العبارة ، فهل هذا يحكم بكفره ابتداءً ؟ طبعًا لا .
إن من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم على الناس - خاصة بعض صغار طلاب العلم والأحداث منهم ، الذين لم يتفقهوا في الدين على أهل العلم ، إنما أخذوا العلوم الشرعية عن الكتب والوسائل دون الاهتداء ، ودون اقتداء ، دون مراعاة للأصول ، ولا معرفة بأصول الاستدلال وأصول الأحكام - هؤلاء يقع بعض منهم في هذه المسائل الخطيرة ، وهي عدم التفريق بيت الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحوادث والنوازل .
فأحكام الكفر والتكفير وأحواله ، لا تعني تكفير كل شخص يقول بها ، أو يعملها ، أو يعتقدها ، وأحكام الولاء والبراء ، مثل أحكام التكفير ، لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء على كل من يظهر منه موجبه ، حتى يتم التأكد ، أقصد بذلك البراء بخاصة ، أما الولاء فهو الأصل لكل مسلم ، ولا يجوز التوقف والتبين في الولاء إذا الولاء واجب لكل من يظهر منه الإسلام ، حتى يظهر ويتأكد ما يخالفه .
كذلك عدم اعتبار المصالح والمفاسد أو الجهل بقواعد جلب المصالح ودرء المفاسد سبب من أعظم أسباب الوقوع في هذه الأخطاء وأمثالها .

المسألة الثالثة : وقوع الافتراق في الأمة
هل وقوع الافتراق في هذه الأمة ؟ وهل يقع أو لا يقع ؟
هذه المسألة محسومة بأمور :
أولها : الأخبار المتواترة عن النبي -  - بوقوع الافتراق في هذه الأمة ، ومن ذلك حديث الافتراق : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة )) ، هذا حديث للنبي -  - مشهور ، وقد رواه جمع من الصحابة ، وخرَّجه الأئمة العدول ، الحفاظ في السنن ، كالإمام احمد ، وكأبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن حبان ، وأبي يعلى الموصلي ، وابن أبي عاصم ، وابن بطة ، والآجري ، والدارمي ، واللالكائي . كما صححه جمع من أهل العلم كالترمذي ، والحاكم ، والذهبي ، والسيوطي ، والشاطبي ، وأيضًا للحديث طرق حسنة كثيرة ، بمجموعها تصل إلى حد القول بصحته .
الثاني : أن النبي -  - أخبر بخبر آخر أن الأمة ستتبع الأمم السابقة ، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن ، وهو حديث : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه )) . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟! قال : (( فمن )) ( ) ؟!
وهذا الحديث أيضًا فسر بما يدل على أن المراد التشبه بنصوص وألفاظ كثيرة ، مثل قول النبي -  - : (( حذو القذة بالقذة )) ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي -  - أخبر - على سبيل التحذير - أن الأمة ستقع في الافتراق حتمًا ، وأن وقوعها أمر واقع تبتلى به هذه الأمة ، وليس وقوع الافتراق ذمًا إلا للمفترقين ، وليس هو ذمًا على الإسلام ، ولا انتقـاصًا ، ولا ذمًا لأهل السنة والجماعة وأهل الحق ، إنما هو ذم للمفترقين ، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعـة ، بل أهل السنة هم الباقون على الأصل ، وهم الباقون على الإسلام ، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس ، إلى قيام الساعة .
إذًا فالافتراق واقع حتمًا ، وهو خبر صادق حتى لو لم يشهد به الواقع ، وتشهد به العقول ، فهو ثابت عن النبي -  - من طرق وألفاظ عديدة ، لذلك ورد التحذير منه ، وإذا كثر التحذير دل على أن الأمر واقع أو سيقع .
الثالث : والنصوص الواردة في القرآن والسنة تتضمن التحذير من اتباع السبل وهي الأهواء والفرق .
من ذلك قوله تعالى :  واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تتفرقوا  [ آل عمران : 103 ] ، وقال تعالى :  ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم  [ الأنفال : 46 ] ، وقوله تعالى :  ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات  [ آل عمران: 105 ]، وقال تعالى :  أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه  [ الشورى: 13 ]، وقوله تعالى :  وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله  [ الأنعام : 153 ] .
وقد شرح النبي -  - هذه الآيات شرحًا بينًا مفصلاً ، بأن خط خطًا طويلاً - مستقيمًا - ثم خط خطوطًا تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه ، فبيَّن أن هذا صراط الله ، وهذه السبل ( ) هي الجواد التي تخرج عن السبيل الأساسية ، وأنه سيكون على سبل الهلاك دعاة يدعون إلى سبل الشيطان فمن أطاعهم قذفوه في مهاوي الهلكة ( ) .
رابعًا : وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال :  ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم  [ الأنفال : 46 ] ، والتنازع قد وقع في طوائف هذه الأمة ، وافترقت به الفرق .
خامسًا : كذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين ، قال تعالى :  ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا  [ النساء : 115 ] ، وقد حصلت المشاقة لله ولرسوله واتباع غير سبيل المؤمنين من أهل النفاق والشقاق والافتراق ، نسأل الله العافية .
وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة .
سادسًا : كما أن النبي -  - رتب أحكامًا على المفارقة بدليل أنها ستقع ، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله -  - : (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة )) ( ) .
سابعًا : وقد أخبر النبي -  - بالافتراق في هذه الأمة ، حين أخبر عن الخوارج ، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة ، وأنهم يمرقون من الدين ، والمروق قد لا يعني الكفر أو الخروج من الملة بالكلية ، إنما المروق قد يعني الخروج من أصل الإسلام ، أو عن حدوده ، أو بعض ذلك ، والخروج يكون بالكفر ، أو ما دون الكفر ، وقد يعني الخروج من أمة الإسلام وهي جماعته ، أو من السنة التي عليها أهل السنة وهم أهل الإسلام في الحقيقة .
ثامنًا : والنبي -  - أمر بقتل المفارق للجماعة ، كما مر في الحديث السابق ، وهذا تشريع في أمر لابد حاصل ، إذ لا يكون تشريع النبي -  - ترفًا أو افتراضًا .
تاسعًا : كذلك بين النبي -  - أن من مات مفارقًا للجماعة مات ميتة جاهلية ( ) ، وأن الفرقة عذاب ، وأن الشذوذ هلكة ، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة ، والتحذير منها لم يكن عبثًا ، إنما لأنها ستقع ابتلاءً ولا تقع إلا والناس على بصيرة ، يعرفون الحق وهو الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، والباحثون عن الحق يميزون بين الحق والباطل ، فمن اهتدى اهتدى على بصيرة ، ومن ضل بعد ذلك ضل على علم ، نسأل الله العافية من الضلالة .
وبعد : فإن هذه الأدلة القاطعة على صحة حدوث الافتراق في الأمة ، ابتلاءً وفتنة وأنه من سنن الله التي لا تتبدل ، وأن الافتراق كله مذموم ، وعلى المسلم أن يعرفه ، ويعرف أهله ، فيجنب مواطن الزلل .
المسألة الرابعة : تاريخ الافتراق في الإسلام
والحديث عن تاريخ الافتراق مفيد ، لأن في ما حديث في أول الإسلام عبرة ، ولا أستطيع أن أتكلم عن تاريخ الافتراق تفصيلاً ، لكني سأقف على بعض النقاط التي هي مواطن عبرة ، ولابد من تصحيح المفهوم فيها ، وفيما أخطأ فيه كثير من الناس في العصر الحاضر :
أولاً : أول عقائد الافتراق التي ظهرت في الأمة كانت مجرد أفكار وعقائد مغمورة لا تسمع إلا همسًا ! وهي العقائد السبئية ( عقائد الشيعة وأصول الخوارج ) وهي أول ما سمع المسلمون ، وأول ما سمع الصحابة من عقائد الافتراق وبذور الفرقة بين المسلمين ، يهمس بها أصحابها همسًا ، وأول من قال بها شخص غريب الأطوار ، اختلف في اسمه ، والأشهر أنه قال ابن السوداء : عبدالله بن سبأ ، فقال بها ، وأخذ يوسوس بها بين المسلمين ، فاعتنقها كثير من المنافقين ، ومن الكائديـن الذين كادوا للإسلام ، ومن الجهلة وحدثاء السن ، ومن الموتورين الذين ظهر الإسلام على بلادهم ، وعلى أديانهم ، وقوض ملكهم - بحمد الله - ومن حديثي الإسلام من الفرس والأعراب ونحوهم ؛ فاعتنقوا مقولات ابن سبأ ، فسرت بين المسلمين سرًا ، حتى ظهرت منها الشيعة والخوارج .
هذا بالنسبة لأول العقائد ومقولات الفرق التي ظهرت بين المسلمين وهي تخالف بعض أصول الإسلام والسنة .
أما أول الفرق ظهورًا وافتراقًا عن إمام المسلمين وعن جماعتهم ، فهي الخوارج ، والخوارج نزعة نزعت من السبئية ، وبعض الناس يظن أن السبئية شيء والخوارج شيء آخر ، والحقيقة أن الخوارج نبتة من نبتات السبئية النكدة ، كما أن الشيعة نبتة من نبتات السبئية النكدة ، فالسبئية افترقت إلى فرقتين رئيسيتين ، هي الخوارج والشيعة . هذا ورغم ما بين الخوارج والشيعة من بعض الفوارق ، إلا أن الأصل واحد ، وكلها نشأن عن أحداث الفتنة على عثمان - رضي الله عنه التي أثارها ابن سبأ بأفكاره وعقائده وأعماله ، فانبجست منها أخبث العقائد حينذاك وهي الخوارج والشيعة .
والفرق بين الخوارج والشيعة صنعه المبطلون إمعانًا في تفريق الأمة ، بمعنى أن ابن سبأ وأمثاله بذروا بذورًا تناسب طائفة من أهل الأهواء ، وبذورًا أخرى تناسب طائفة أخرى ، وجعلوا بينهم شيئًا من العداء ، لتفترق الأمة كما يحدث الآن ، حيث أوجد أعداء الإسلام ضد المسلمين ما يسمى بلعبة اليمين واليسار ، وقسموا المسلمين إلى أحزاب ، أحزاب يمين وأحزاب يسار ، ولما استنفذت غرضها ، جاءت لعبة العلمانية والأصولية ، والتقدمية والرجعية ، والأصالة والحداثة ، وهكذا ، وهذه اللعبة واحدة ، منشؤها واحد ، وأصل القائلين بها واحد ، وغرضها واحد ، وإن اختلفت الأشكال والمشارب ، إذ كل هذه تمثل قوى الباطل ، وإن تعادت .
ثانيًا : أمر مهم لابد من التنبيه عليه ؛ وهو أنه في تاريخ الافتراق لم يحصل من الصحابة افترق البتة ، وما حصل بين الصحابة إنما هو خلافات كانت تنتهي إما بالإجماع وإما بالخضوع لرأي الجماعة والالتفاف حول الإمام ، هذا ما حصل بين الصحابة ، ولم يحصل من صحابي أن كان مفترقًا عن الجماعة ، وليس فيهم من قال ببدعة ، أو عمل محدثًا في الدين ، إن الصحابة وهم الأئمة المقتدى بهم في الدين لم يحصل من أحد منهم أنه فارق الجماعة أبدًا ، ولم يحصل أن أحدًا منهم أيضًا يُعد قوله أصلاً في البدع ، ولا أصلاً في الافتراق ، والذين نسبوا بعض المقولات أو نسبوا بعض الفرق إلى بعض الصحابة ، إنما كذبوا عليهم ، وافتروا عليهم أكبر الفرية ، فلا صحة لما يقال من أن علي بن أبي طالب هو أصل التشيع ، أو أن أبا ذر هو أصل الاشتراكية ، أو أن أهل الصفة هم أصل الصوفية ، أو أن معاوية هو أصل الجبرية ، أو أن أبا الدرداء أصل القدرية ، أو أن فلانًا من الصحابة هو أصل كذا من المقولات ، أو المحدثات أو البدع أو المواقف الشاذة ، بل كل ذلك إنما هو من لباطل المحض ( ) .
ثم إن الافتراق لم يحدث إلا بعد مقتل عثمان ، فلم يحدث افتراق ظاهر في عهد عثمان ، وحينما حديث الفتنة بين المسلمين في عهد علي ، خرجت خارجة الخوارج ، وخارجة الشيعة ، أما في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، بل حتى في عهد عثمان ، لم يحدث افتراق حقيقي البتة ، ثم إن الصحابة قاوموا الافتراق ، ولا يظن ظان أن الصحابة غفلوا ، أو أنهم جهلوا ، أو أنهم لم يتنبهوا لمسائل الافتراق ، سواءً كانت أفكارًا أو عقائد ، أو مواقف أو أعمالاً ، بل لقد وقفوا ضد الافتراق أشد الوقوف ، وأبلوا في ذلك بلاءً حسنًا بحزم وقوة ، لكن أمر الله لابد أن يقع .

رؤوس البدع
امتدادًا للحديث عن تاريخ الافتراق ، فمن المناسب أن نشير إلى أصول البدع ، أي الرؤوس التي انبثقت منها الفرق ، ثم انبثق عنها الافتراق ، وأقصد بذلك الأشخاص الذين تولوا كبرهم وصاروا أئمة ضلالة إلى يوم القيامة ، وبعدهم انفتح باب الافتراق ، وكثر المضللون ، فأذكر منهم :
1- أول أولئك : ابن السوداء ، وهو ابن سبأ اليهودي الذي ادعى الإسلام ، وأبتاعه وأشياعه ، وقد بدأت مقولاته سنة (34هـ) تقريبًا ، وهذا يجمع بين بدعة الخوارج وبدعة الشيعة .
2- ثم بعد ذلك أظهر معبد الجهني (ت80هـ) بدعة القول بالقدر سنة (64هـ) تقـريبًا ، حيث أنكر علم الله السابق وتقديره لأفعال العباد ، وقال بها على نحو معلن ، وصار له أثر وأتباع ، لكن بدعته وجدت مقاومة شديدة من السلف آنذاك وعلى رأسهم متأخرو الصحابة كابن عمر .
3- ثم جـاء بعده غيلان الدمشقـي ، وقد تولـى كبره في إثارة كثير من القضايا حول القدر - قبل سنة 98هـ - وأيضًا حول التأويل والتعطيل لبعض أسماء الله وصفاته والإرجاء ، فتصدى له السلف . وممن جادل غيلان الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز ، وقد أقام عليه الحجة ، فالتزم الصمت حتى مات عمر ، ثم نكص على عقبيه ، وهذه سمة غالبة في أهل الافتراق والأهواء ، أي أنهم لا يتوبون ، ولو انقطعت حجة أحدهم حاد ونكص ، وغيلان قتل سنة (105هـ) بعدما استتيب ولم يتب .
4- ثم جاء بعده الجعد بن درهم المقتول سنة (124هـ) فتوسع في هذه المقولات ، وجمع بين مقولات القدرية ومقولات المعطلة والمؤولة ، وأثار الشبهات بين المسلمين ، حتى انبرى له كثير من السلف ، واستتابوه ، ولم يتب ، وجادلوه وأقاموا عليه الحجة ، فلم يرجع ، فلما افتتن به الناس ، حكموا بضرورة قتله درءًا للفتنة ، فقتله خالد بن عبدالله القسري في قصته المشهورة حينما قال بعد خطبته في عيد الأضحى : ( ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مُضحٍ بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليمًا ... إلخ ) من المقولات ، ثم نزل من المنبر وقتله سنة (124هـ) .
5- وبعد ذلك انطفأت الفتنة بعض الوقت ، حتى ظهرت على يد الجهم بن صفوان ، الذي جمع بين مساوئ الأولين وضلالاتهم وزاد عليها ، وخرجت عنه بدعة الجهمية ، وبدع الجهمية ومقولاتها ، وانحرافاتها كفريات ، وقد قال الجهم بأكثر مقولات غيلان والجعد ، وزاد عليها بالتعطيل والتأويل والإرجاء والجبر وإنكار الكلام والاستواء والعلو والرؤية ، وقتل حدًا سنة (128هـ) .
6- وظهر في وقته واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وقد وضعا أصول المعتزلة القدرية .
ثم انفتح باب الافتراق ، فبدأت الرافضة تعلن عقائدها وانقسمت إلى فرق كثيرة ، وظهرت المشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي ، وهشام بن الحكم ، وهشام الجواليقي ، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل ، وهم رافضة ، ثم جاء المتكلمون من الكلابية والأشعرية والماتريدية ، ثم المتصوفة والفلاسفة ، فانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضالٍ ومبتدع ومتبع للهوى ، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين .
فلا تزال أصول الفرق بين المسلمين باقية حتى يومنا هذا ، بل تتجدد بدع وحوادث تضيف إلى الافتراق افتراقًا جديدًا بحسب أهواء الناس وتمرُّسهم في البدع والضلالات .
ويدعي بعض الناس عن جهل أو تجاهل أن الفرق انقرضت وصارت مطمورة في أحداث التاريخ ، وركام التراث !! وهذه مغالطة ، فكل الفرق القديمة الكبرى والخطيرة لا تزال موجودة بين ظهراني المسلمين ، بل وتزيد كثرة وخطورة وانحرافًا ، فالرافضة وفرقها الباطلة ، وبقية فرق الشيعة ، والخوارج ، والقدرية ، والمعتزلة ، والجهمية ، وأهل الكلام ، والمتصوفة ، والفلاسفة ، كلها لا تزال تنخر بأسلوب أنكى على الأمة من أي وقت مضى ، لما تدعيه من التعالم والثقافة والفكر ، ولقلة فقه أكثر المسلمين في الدين وجهلهم بالعقيدة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

المسألة الخامسة : أسباب الافتراق
وأسباب الافتراق لو حاولنا أن نستقرئها منذ أن بدأ الافتراق حتى يومنا هذا ، لوجدناها كثيرة جدًا ، لا تكاد تحصى ، وكلما تجددت للناس أفكار وثقافات وأهواء تجددت معها أسباب للافتراق ، لكن هناك أسباب كبرى رئيسة ، وتكاد تتفق عليها أصول الفرق قديمًا وحديثًا ، ألخصها بما يلي :
أول أسباب الافتراق وأشدها نكاية على الأمة : كيد الكائدين بأصنافهم من أهل الديانات ، كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس والدهريين ، وكذلك من الموتورين ، أي الذين حقدوا على الإسلام والمسلمين ؛ لأن الجهاد قضى على دولتهم ، ومعا عزة أديانهم وهيمنة سلطانهم من الأرض ، كالفرس والروم ، فهؤلاء منهم الذين بقوا على كفرهم وحقدهم على المسلمين والدين والإسلام ، وآثروا النفاق والزندقة بإعلان الإسلام ظاهرًا فقط ، أو البقاء على دياناتهم مع دفع الجزية ، حفاظًا على رقابهم ، وإيثارًا للسلامة ، للتعايش مع المسلمين ، وهؤلاء هم أشد المعاول عملاً في الفتك بالمسلمين ، والكيد لهم بالأفكار ، وبث المبادئ والبدع والأهواء بينهم .
السبب الثاني : رؤوس أهل الأهواء ، الذين يجدون مصالح شخصية أو شعوبية في الافتراق ، وكذلك أتباعهم من الغوغائية ، فكثير من أتباع الفرق نجد أنهم يجدون في الفرق تحقيقًا لمصالح شخصية أو شعوبية أو حزبية أو قبلية أو غيرها ، وربما بعضهم يقاتل على هذا الأمر لهوى ، أو لعصبية ، هذا الصنف هم مادة وقود الفرق ، فهم الذين يكثِّرون أتباع تلك الفرق ، ويجتمعون حولهم لتحقيق هذه المصالح ، وهذه الفئة موجودة في كل زمان وفي كل مكان ، فإنه متى ما ظهر في الناس رأي شاذ ، أو بدعة أو صاحب هوى ، فإنه يجد من الغوغاء ، ومن أصحاب الأهـواء وأصحاب الشهوات والأغراض الشخصية ، من يتبعه لتحقيق ذلك وما أكثرهم في كل زمان - لا كثرهم الله - .
السبب الثالث : الجهل ، والجهل داء عضال وقاسم مشترك يشكل كل الأسباب ، لكن الجهل المقصود هنا هو عدم التفقه في الدين عقيدة وشريعة ، وهو الجهل بالسنة وأصولها وقواعدها ومناهجها ، وليس مجرد عدم تحصيل المعلومات ؛ لأن الإنسان قد يكفيه أن يحصل ما يحصن به نفسه ، وما يحفظ به دينه ، ويكون بذلك عالمًا بدينه ، ولو لم يتبحر في العلم ، والعكس كذلك ، قد يوجد من الناس من يعلم الشيء الكثير ، وذهنه محشو بالمعلومات ، لكنه يجهل بديهيات الأصول والقواعد الشرعية في الدين ، فلا يفقه أصول العقيدة وأحكام الافتراق ، وأحكام التعامل مع الافتراق ، وأحكام التعامل مع الآخرين ، وهذه مصيبة كبرى أصيب بها كثير من الناس اليوم ، وهي أن الواحد منهم توجد لديه معلومات شرعية ، أو يكون ممن يتعلمون ويأخذون العلم الشرعي عن مصادر كثيرة ، لكن تجده جاهلاً في العقيدة وفقه أحكام التعامل مع الناس ، والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيفسد من حيث لا يشعر ، فالجهل مصيبة ، والجهل سبب رئيسي لوجود الافتراق ، والجهلاء هم مادة الفرق ، وهم وقودها .
السبب الرابع : الخلل في منهـج تلقي الدين ، وأقصد بذلك أنه قد يوجد لدى كثير من الناس - كما أسلفت - علم ، وقد يطلع على كثير من الكتب ، لكنه يجهل أو اختل عنده منهج تلقي الدين ، لأن تلقي الدين له منهج مأثور منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين ، وسلف الأمة ، واقتفاه أئمة الهدى إلى يومنا هذا .
وهذا المنهج إنما هو العلم والعمل والاهتداء والاقتداء والسلوك والتعامل ، وهو الإلمام بالقواعد الشرعية والأصول العامة أكثر من مجرد الإلمام بفرعيات الأحكام أو بكميات النصوص .
وذلك يتم بتلقي الدين عن القدوة ، الأئمة العدول الثقات ، وعن طلال العلم الموثوق بهم ، وبعلمهم ، وأن يؤخذ العلم بالتدرج النوعي والكمي حسب المدارك والاستعداد ، والعلم الذي يحصل به الفقه في الدين هو العلم الشرعي المستمد من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة عن أئمة الهدى ، فالكتب الثقافية والفكرية والأدبية والتاريخية ونحوها لا تفقه في الدين ، إنما هي علوم وافدة مساعدة لمن أحسن انتقاءها .

مظاهر الخلل في منهج التلقي
ومن مظاهر هذا الخلل في منهج التلقي التي يتبين بها المقصود :
1- أخذ العلم عن غير أهله : وأقصد بذلك أن الناس صاروا يأخذون العلم عن كل من دعاهم إلى التعلم ، وكل من رفع فوق رأسه راية الدعوة ، وقال أنا داعية ، جعلوه إمامًا في الدين ، وتلقوا عنه ، وقد لا يفقه من الدين شيئًا ، فلذلك ظهرت في العالم الإسلامي دعوات كبرى ، ينضوي تحت لوائها الفئام من الناس خاصة الشباب ، وقادتها ورؤساؤها جهلة في بديهيات الدين ، فيفتون بغير علم ، ويَضلون ويُضلون ، وسبب ذلك أنهم وجدوا أتباعًا لهم يأخذون عنهم دون تروٍّ ، دون تثبت ، دون منهج صحيح سليم ، ولا يتثبتون من حال القادة في كونهم أهلٌ لأخذ الدين أو التلقي عنهم ، ثم إن كثيرًا من الناس تجذبهم العواطف أكثر مما يجذبهم العلم والفقه ، وهذا خطأ فادع ، بمعنى أنه بمجرد أن يظهر داعية له شهرة وأثر في ناحية ما ، يجعله الناس إمامًا في الدين ، حتى لو لم يكن يعلم من السنة والفقه شيئًا ، وهذا مصداق قول الرسول -  - : (( إن الله لا ينتزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناسٌ جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيَضلون ويُضلون )) ( ) .
ولا ينبغي أن يتصدر الدعوة إلى الله ، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا العلماء الأجلاء ، الذين يفقهون الدين ، ويأخذون عن أصوله ، على منهج سليم صحيح ، وإلا فليس كل من حُشي ذهنه بالمعلومات الثقافية والأفكار يكون إمامًا في الدين ؛ لأنه قد يوجد من الفسقة بل من الكفرة من يعلم من فرعيات الدين الشيء الكثير ، وقد وُجد من المستشرقين من يحفظ بعض الكتب الكبيرة في الفقه الإسلامي ، بل حتى منهم من يحفظ القرآن ، ويحفظ صحيح البخاري ، ويحفظ بعض السنن ونحو ذلك ، فهذا الصنف يحفظ العلم لكن لا يفقه من الدين شيئًا ، وكذا بعض من يدعي الإسلام ، قد يكون عنده من المعلومات الشيء الكثير ، لكن لا يفقه منهج التلقي والعمل والتعامل والتزام السنة ، ولم يأخذ الدين على منهجه الصحيح ، وعلى العلماء الربانيين ، فصار يفتي بغير علم ، ويوجه بلا فقه ، ويجمع بلا عقيدة سليمة .
2- من مظاهر الخلل في منهج التلقي وهو سببٌ للافتراق : الاستقلالية عن العلماء والأئمة ، أي استقلالية بعض المتعلمين وبعض الدعاة وبعض الأحداث عن العلماء ، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة ، ويعزفون عن التلقي عن العلماء ، وهذا منهج خطير ، بل هو بذرة خطيرة للافتراق ، ولو رجعنا إلى أسباب الافتراق في أول تاريخ الإسلام ، كافتراق الخوارج والرافضة ، لوجدنا أن من أهم أسباب وجود هذا الافتراق عند من ينتسبون للإسلام ، لا أقصد أصحاب الأغراض أو المنافقين أو الزنادقة ، لكن ممن ينتسبون للإسلام ، أعظم أسباب هلاكهم وافتراقهم ، استقلاليتهم وانعزالهم عن الصحابة ، واستهانتهم بهم ، وترك أخذ الدين عنهم ، وأخذهم العلم عن أنفسهم وعن بعضهم ، قالوا : علمنا القرآن ، وعلمنا السنة ، فلسنا بحاجة إلى الرجال ، يعنون علماء الصحابة والتابعين . فمن هنا استقلوا وخرجوا عن منهج التلقي الصحيح ، وعن سبيل المؤمنين المأخوذ عن النبي -  - بالقدوة والاهتداء ، والذي أخذه التابعون عن الصحابة بهذا الطريق ، ثم عنهم السلف بهذا الطريق يأخذه الأئمة العدول جيلاً بعد جيل .
كما ورد عن النبي -  - أنه (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله )) ( ) والعدول هم الحفاظ الثقات ، الذين يأخذون الدين عن أئمته ، ثم ينقلونه إلى الآخرين .
فالاستقلالية عن العلماء خطر كبير جدًا ؛ لأن العلم إنما تكون بركته وتلقيه الصحيح عن العلماء ، والعلماء لا يمكن أن ينقطعوا في أي زمان .
ودعوى بعض الناس أن في العلماء نقصًا وتقصيرًا ، دعوى مضللة ، نعم العلماء بشر ، لا يخلون من نقص وتقصير ، لكنهم مع ذلك في جملتهم هم القدوة ، وهم الحجة ، وهم الذين جعل الله الديـن يؤخذ عن طريقهم ، وهم أهل الذكر ، وهم الراسخون ، وهم أئمة الهدى ، وهم المؤمنون الذين من تخلف عن سبيلهم هلك ، وهم الجماعة ومن فارقهم هلك ، وتلقي العلم من غير أهله خطر على أصحابه ، وعلى الأمة .
3- من مظاهر الخلل عند بعض المتعالمين والدعاة : ازدراء العلماء واحتقارهم والتعالي عليهم ، وهذه مظاهر شاذة مع الأسف بدأنا نرى نماذج منها ، وهذا أمر مقلق ، يجب أن نتناصح فيه ، وما لم يعالجه طلاب العلم والعلماء فالأمر خطير .
4- تتلمذ الأحداث أي صغار السن على بعضهم ، أو على طلاب العلم الذين هم دون من هم أعلم منهم ، بمعنى التتلمذ الكامل وترك المشايخ الكبار والانقطاع عنهم ، ولا أقصد بذلك أنه لا يجوز أخذ العلم عن أي طالب علم ، بل من أجاد أي علم من العلوم الشرعية وكان صالحًا أخِذَ عنه ، لكن لا يعني الاستغناء به عمن هو أعلم منه ، أو الانقطاع إليه وترك المشايخ الكبار ، وهذا هو مكمن الانحراف ، أي أن يستغني بعض الشباب في أخذ علمه وقدوته ودعوته وسلوكه وهديه ببعض طلاب العلم عـن العلماء الذين هم أجل وأكبر وأعلم ، وهذا مسلك خطير ، بل أخطر منه أن يكون الصغار بعضهم شيوخًا لبعض في العلم ، ولا أقصد بذلك عدم جواز المجالسة والمخالطة والمشاركة في الدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن هذا أمر مطلوب ، والاجتماع على ذلك مطلب شرعي ضروري ، لكن أقصد أن تلقي العلم بهذه الطريقة الخاطئة ، والاستغناء بها عن أخذه عن هؤلاء العلماء ، من سمات أهل الفرق والأهواء ، وهذا مسلك خطير ، وهو من أبرز أسباب وجود الافتراق ؛ لأن هذا يؤدي إلى حصر أخذ الدين عن أناس معينين ، والتحزب لهم ، والتعصب لهم ، لا سيما وهم قد لا تتوفر فيهم صفات العالم القدوة ، ومن ثم تكون هذه بذورًا للافتراق .
5- ومن أسباب الافتراق : اعتبار اتباع الأئمة على هدى وبصيرة تقليدًا : وهذه شنشنة نسمعها كثيرًا من بعض المتعالمين ، فيقولون : إن اتباع المشايخ تقليد ، والتقليد لا يجوز في الدين ، وهم رجال ونحن رجال ، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا ، ونحن نملك الوسائل والكتب ، والآن توفرت وسائل العلم ، فما لنا وأخذ العلم عن العلماء ، بل أخذ العلم عن العلماء تقليد والتقليد باطل .
نعم ، التقليد باطل ، لكن ما مفهوم التقليد ؟ هناك فرق بين التقليد وبين الاتباع والاهتداء ، الاتباع واجب شرعًا ، وعامة المسلمين بل كثير من طلاب العلم لا يجيدون ممارسة الاجتهاد أو أخذ أصول العلم عن الطريقة الصحيحة ، فممن يأخذون العلم ؟ وكيف يأخذون أصول التلقي ومنهج السنة ومنهج السلف الصالح ومنهج الأئمة ؟ لا يمكن أن يأخذوه إلا باتباع العلماء ، والاتباع ليس بتقليد ، وإلا فهذا يعني أن كل إنسان هو إمام نفسه ، ومن هنا يكون كل إنسان فرقة ، وتكون الفرق بعدد الناس ، وهذا باطل قطعًا ، إذًا اتباع الأئمة على هدى وبصيرة ليس بتقليد ، إنما الاتباع الأعمى هو التقليد ؛ لأن الله تعالى يقول :  فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون  .
ومن المظاهر الخطيرة التمشيخ ، أو التتلمذ على مجرد الوسائل ، وهو أن يكتفي طالب العلم بأخذ العلم عن الكتب وينطوي وينعزل عن الناس ، وينعزل عن أهل العلم ، عن أهل الخير ، وأهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن العلماء ، ويقول : أنا أتلقى العلم عن الكتب وعن الوسائل ، ولدي الشريط ، والكتاب والإذاعة ... إلخ ، من الوسائل المقروءة والمسموعة ثم يقول : أنا بإمكاني أن أتعلم هذه الوسائل .
أقول : لا شك أن هذه الوسائل نعمة ، لكنها أيضًا سلاح ذو حدين ، فالاكتفاء بأخذ العلوم الشرعية عنها إنما هو مسلك زلل ، وهو من أسباب الافتراق ؛ لأن هذا ينمي العزلة المحرمة ، أو يُوجدُ أشخاصًا صورًا ممسوخة لأهل العلم ، يأخذون العلم على غير أصوله ، وعلى غير قواعده ، بغير اهتداء وبغير اقتداء ، ويأخذون العلم بمشاربهم هم ، وبأهوائهم ، وبأمزجتهم ، وبأحكامهم المفردة ، فإذا ظهرت الأحداث والفتن شذوا عن العلماء ، وازدروا آراءهم ، والإنسان مهما بلغ من الذكاء والقدرة والتأهل للعلم ، فإنه وحده لا يستطيع في كثير من الأمور أن يصل إلى الحق ما لم يعرف ما عليه السلف وما عليه أهل العلم في وقته ، ويعالج قضايا العلم وقضايا الأمة والأحداث مع العلماء فإنه إن لم يفعل ذلك فقد يَهلك ويُهلك .
بل إن الوسائل هذه أوجدت عندنا صورًا ممسوخة لمن يسمون بالمثقفين ، وعندهم من المعلومات ما يعجب الناس ويبهرهم لكنهم لا يقرون بأصل ، ولا يفهمون منهج السلف ، ويجدون من يقتدي بهم بغير علم ، وهذا الأمر أو هذه الظاهرة كثرت بشكل مزعج ، حتى وجد من هذا الصنف أناس يتصدرون الدعوة إلى الله ، وتوجيه الشباب على هذا النمط ، لمجرد أنه


الكاتب: اختارها أحد زوارالموقع ..وهـي للشيخ الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل
التاريخ: 18/03/2007