المستقبل لهذا الدين |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
" المستقبل لهذا الدين "
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد ,,
12 / 3 / 11 هـ تاريخ لا ينسى , تاريخ محفور في ذاكرة التاريخ وبطون الكتب , تاريخ انقطاع الوحي من السماء , تاريخ أظلم منه كل شيء , إنه تاريخ وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم - .
أصبح الناس بعد ذلك في حالة هرج ومرج وبين مصدّق ومكذّب حتى قام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقال : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توفي , وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما مات , لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران , فغاب عن قومه أربعين ليلة , ثم رجع إليهم بعد أن قيل : قد مات , ووالله ليرجعنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات .
ثم أقبل عليه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وقال : اجلس يا عمر , فأبى عمر أن يجلس , فتشهد أبو بكر فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : ألا من كان يعبد محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . وقال : ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴾ ( الزمر 30 ) . وقال : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ ( آل عمران 144 ) .
ولهذا قال علي بن المديني : إن الله أعز هذا الدين برجلين , أبو بكر الصديق يوم الردة , وأحمد بن حنبل يوم المحنة .
ثم ارتدّ من ارتد من العرب ومنع الزكاة من منع , فقاتلهم أبو بكر الصديق وقال : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها .
لم يكن أبو بكر يهمّه العناق أو غيره ولكن لِما كان فيه تغيير للشرع , تغيير للدين , مسخ للولاء والبراء , ارتداد عن دين الله - جل وعلا - , وحين اعترض عليه عمر بن الخطاب لم يعبأ ولو باعتراض عمر حتى قال عمر بن الخطاب بعد ذلك : فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - ، فعرفت أنه الحق . فتبع أبا بكر آنذاك .
وبدأ قتال أبي بكر ومن معه من الصحابة للمرتدين , ثمّ أكمل الصديق مشواره في فتح البلاد شرقاً وغرباً حتى بلغت الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين مبلغها .
ومن خلال العرض التاريخي السابق يتضح أن الإسلام لم يخبو ولم يضعُف بوفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – بل أنّ هذا المصاب الجلل لم يمنع الصحابة من إكمال المسيرة الإسلامية من الدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها ..
إذن فموت الأبطال والقادة ما هو إلا سنّة ماضية ليبتلي الله – عز وجل – المسلمين ويمحّص المؤمنين وإلا فإن الدين ماضٍ والشريعة قائمة والإسلام منصور , لهذا لم يتوقف الصحابة بعد موت النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم تخور جحافل الإسلام وكتائب الإيمان وعساكر الرحمن من فتح الأمصار والبلدان ومجاهدة الكفار بالسيف والسنان والمنافقين بالحجة والبرهان .
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن المستقبل لهذا الدين وأن النصر لهذا الدين وأن حاضر هذه الأمّة سوف يرتبط بماضيها , وأنه مهما وُضع من العوائق أمام امتداده ومهما سعى أعداء الإسلام جاهدين في محاربته ، وطمس معالمه ، وأذية أهله ومطاردتهم وبهتهم ، ورميهم بالنقائص والعيوب ، ووصفهم بالغلو ، والتطرف ، والإرهاب فلن يقف مدده ، وسوف يظهر نوره ، ويمتد أثره ، ويبقى ما بقي الليل والنهار ، بعز عزيز أو بذل ذليل , وقد جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن تميم بن أوس الداري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر "
فهذا الغلام الذي دلّ الملك على طريقه قتله , فجمع الملك الناس في صعيد واحد وأخذ سهماً من كنانته وقال : باسم الله رب الغلام , فأصاب الغلام في صدغه فخرّ الغلام صريعاً على الأرض , فقال الناس : آمنا برب الغلام , آمنا برب الغلام , آمنا برب الغلام . وبموت الغلام أسلم الناس . ترى القصّة بطولها في صحيح الإمام مسلم وغيره .
صحيح أنه قد يكون للباطل صولات وجولات في وقتٍ ما , كما قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : قد يكون للباطل صولة وجولة ورهبة في النفوس , ولكن إذا ثبت له القلب ولّى خاسئاً وهو حسير .
ولكن المتتبع للتاريخ يجد أن الإسلام في كل عصر وحين وعلى أي حال كان هو المنتصر بشهادة الكتاب والسنّة , قال تعالى : ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ ( غافر 51 ) , فجميع الأنبياء انتصروا بنصّ الآية مع أنّ منهم من قُتِل بدلالة الآيات في القرآن , والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : " عُرِضَت عليَّ الأمم ، فجعل يمر النبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد .. الحديث " متفق عليه عن ابن عباس ... إذاً يجب علينا أن نعيد صياغة مفهوم النصر في أذهاننا وهو أن النصر الحقيقي هو انتصار المبادئ , أما الانتصار الحسي في المعارك فهو يعتبر أحد معاني النصر , ولهذا في فتنة الإمام أحمد – رحمه الله – عندما ضُرب وسُجن قال له أحد جلسائه : يا أبا عبد الله ألم تر كيف انتصر الباطل على الحق ؟ قال : كلا , ما دامت القلوب ثابتة فالحق هو المنتصر .
وقد جاءت الأحاديث الصحاح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من رواية أكثر من خمسة عشر صحابياً أكثرها في الصحيحين يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تأتيهم الساعة ، وهم على ذلك " , حتى وإن ضعُف الإسلام - فإنه لا يضعُف بنفسه ولكن يضعُف بأهله , لذلك فإن التاريخ لا يصنع الرجال بل إن الرجال والأحداث هم الذين يصنعون التاريخ – فإن الغلبة والنصر للحق ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ ( الأنبياء 18 ) , فالحق أبلج والباطل لجلج .
وهذه سنّة الله في الأرض وهي المدافعة بين الحق والباطل , وعندما سأل هرقل أبو سفيان عن قتالهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكر أن : الحرب بيننا وبينه سجال ، ينال منا وننال منه . متفق عليه
هذه هي الدول والسنون , وهؤلاء هم الرجال والفرسان , وها هو التاريخ شاهد بما سطرته أرواح الصحابة والتابعين , فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كان يقول : ماذا يصنع أعدائي بي فجنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني , فحبسي خلوة , وقتلي شهادة , وإخراجي من بلدي سياحة . وقد سُجن سبع مرّات وتوفي في سجنه ومع ذلك بقيت آثاره وأفكاره ومبادؤه ومصنفاته .
وتأمل حياة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – وكيف أنه عاش في سبيل نشر التوحيد ودعوة الرسل , فإنه طُرد من بلده وشُرد من موطنه , وعندما ذهب إلى مكة وقف في الملتزم ودعا الله أن يعينه على أمره وأن يضع له القبول , وذهب إلى العراق وألّف كتابه المشهور ( كتاب التوحيد ) في البصرة ثم رجع وتعاون مع الإمام محمد بن سعود – رحمه الله – فانتشرت تلك الدعوة وذاع صيتها حتى وُضع له القبول .
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * * * إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يقول المفكر سيد قطب – رحمه الله - : إن أفكارنا وكلماتنا تظلّ جثثاً هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها وغذّيناها بالدماء ، انتفضتْ حيّة ، وعاشت بين الأحياء .
وأقف مع لفتة تاريخية للتأمل وهي أنه في ذلك العام الذي دخل فيه التتار بغداد عاصمة الخلافة العباسية ولد عثمان أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية فيما بعد , وفي ذلك معنى عميق لمن يتدبّر التاريخ فهذا الدين لا يموت , نعم قد يمرض المسلمون ويسقمون لبعدهم عن دينهم ولكن ما يكاد يمر وقت قصير حتى تعود الروح تسري فيهم مرة أخرى ولكن متى ؟ بعد أن يدركوا عظمة هذا الدين ومقدار المسؤولية الملقاة على عاتقهم ... والأيام حبلى فرحم الأمة لا يزال ينجب الكثير والكثير من القيادات في شتى الميادين , فعلينا ترك اليأس بل نزيد من التفاؤل بنصر الله لهذه الأمة .
وأختم بأبيات معبّرة عن المعنى المشار إليه :
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرة رغم المكائد تخرج
والله تعالى أجل وأعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أحمد بن عبد الله الأحيدب .
الخبر – الشرقية
جمادى ثاني 1432هـ