آل فرعون وصرعاهم (تشخيص لحالة بعض الأتباع) |
|
مثلت الحقائق التاريخية القطعية في أذهان البشر صورة الكبر والكفر والظلم في شخص" فرعون وآله" ، إذ كان – بحق – أنموذجاً بشرياً لشدة الصلف وكثرة السرف، ولم يكن "فرعون" جديراً بهذا التمثيل، إلا لأنه لم يكن يمثل فرده وذاته فحسب، بل كان يمثل منهجاً متبوعاً (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلٌّ كانوا ظالمين) [الأنفال:54]
يعتمد المنهج الفرعوني على أسسه الاستبدادية، التي يستحيل فهمها من طريق المنطق العقلي، القائم على مبادئه الضرورية الثلاثة، عدم التناقض والسببية والهُوية، ويتعذر إدراكها بواسطة المنطق الخلقي، القائم على قيمه الثلاث الحق والجمال والخير، بل لا تفهم إلا من خلال منطق الاستبداد، القائم على أصوله الثلاثة" البطش الغاشم" و"الكذب الفاجر" و"الكبر الزاهي".
تلك الأصول الثلاثة التي تمثل المنطق الفرعوني تسعى لهدف مصيري – في نظر الفرعون – وهو تثبيت أوتاد الملك والسلطان المسروق من الأمة، وإشباع شهوة العلو في الأرض، وهو ما تحقق للفرعون الأول، إذ وصف الله ملكه بأنه" ذو الأوتاد" وأورثه ذلك تبجحاً على كرام الناس وصفوة المجتمع، (ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) [الزُّخرُف:51- 52]
تعد تلك الأصول الثلاثة للمنطق الفرعوني دروعاًَ واقية لذلك السلطان المسروق، فـ" البطش الغاشم" رادع فعلي لكل من يتوهم منه خطر على العرش، و"الكذب الفاجر" رادع فكري، وسيلته إعلام الدولة الفرعونية، الذي طبع فكر الأمة وأجيالها بطابع التبعية العمياء، فهو يحاول جاهداً إقناع عقول ونفوس أفراد الأمة بضرورة لزوم السلطان الفرعوني لها، كضرورة لزوم القدر للمقدور والباني للمعمور، ويمثل تلك القناعة النفسية والعقلية سؤال حتمي لا جواب له، وهو من للأمة غير هذا الفرعون؟ وتخيير للأمة بين أمرين لا ثالث لهما، إما أمن بلا حرية وإما حرية بلا أمن!!.
وأما "الكبر الزاهي" فهو رادع نفسي لكل من يحدث نفسه بمشروع إعادة السلطان المسروق للأمة.
لقد تمكنت تلك الأصول الفرعونية من الهيمنة على فكر بعض أفراد الأمة، فآذنت بمسخ عقولهم واسترقاق نفوسهم، فاستبدلوا بالحق ضلالة، وبالعلم جهالة، حتى إذا سطا عليهم الفرعون بصولته بخعوا له بالطاعة، وإذا صال عليهم بسطوته خنعوا له بالإذعان، وإذا استعبدهم بماله، سمحوا له بالانقياد وبذلوا له المقاد، ولكنهم لن يجنوا من ذلك إلا الاستخفاف والاستخذاء والصغار والوهن، وقديماً عاب الله على قوم الفرعون الأول استخذاءهم لفرعون واستكانتهم له، (فاستخف قومه فأطاعوه)[الزُّخرُف:54].
يستحيل على الفرعون أن ينبض بالحياة إلا بإضعاف قدرات الأمة وشلّ إرادتها وسلب حرياتها، لأن الفرعون يدرك – جيداً – أن نجاح مشروعه مرهون بالنجاح في إحاطة نفسه بسياج من ضحاياه وأسرائه وصرعاه، يفدُّونه بالدين والنفس والعرض والعقل والمال، ليوطد في الثرى أركانه ويصعِّد في السماء بنيانه، ليعيش بحرية تامة محاطاً بأسوار تلو أسوار، من عملائه وعلمائه وكهانه وإعلاميه ووعاظه وسياسيه وجنوده وأوباشه ومنتفعيه و"بلطجيته".
ولن يكتف بذلك حتى يمسخهم إلى سباع عادية وذئاب ضارية وكلاب عاوية، وعقبان كاسرة، إذ قلبت في زمنه ميزان القيم الخلقية انقلاباً غاشماً، فحلت الغريزة البهيمية محل العقل الراشد، فسادت غريزة القوة التي تحكم السياسة، وهيمنت غريزة الجنس التي تحكم الإعلام، وشاعت غريزة الجشع التي تحكم الاقتصاد، فكانت النتيجة الفاجعة اضطراباً في معايير المكانة الاجتماعية، وتأزماً للهوية، وضعفاً في الانتماء للأمة، وابتذالاً للعدالة الاجتماعية، وشيوعاً لثقافة العنف، بل وشللاً تاماً للقيم والمبادئ الخلقية، إلا ما وافق هوى الفرعون ومصلحته.
ولا غرو فإن الفرعون ذئب الحضارة الإنسانية، لا يترك خيراً لا يوافقه إلا أباده ولا شراً إلا نشره، لا ينكر منكراً ولا يعرف معروفاً إلا ما أشرب من هواه، فيالله ما أكثر إفساده وأعظم جناينه!!، أو ليس هو الذي استباح حوزة الأمة وانتهب أموالها، وانتسف مقدراتها، فاستولى على ما حواه عسكره، واحتوى على ما اشتمل عليه جيشه، وأباح من معه من أسرائه وصرعاه ذخائر الوطن المسروقة وخزائنه المغتصبة؟!
ومع تتابع تلك المصائب وتراكم تلك المعائب إلا أن صرعى آل فرعون مسرورون لها منتفعون بها، لأنهم بها يقتاتون وعليها يعيشون، وقد صدقت العرب حين قالت " ما قرعت عصاً على عصاً إلا حزن لها قوم وسرَّ لها آخرون"!!
فمن هم صرعى آل فرعون؟
هم هؤلاء الأسرى أسرى العقول والنفوس لكبر الفرعون الزاهي، وسبايا الفكر والأرواح لكذب الفرعون الفاجر، منهم المتمجدون "صرعى الشهوة، ومنهم المتفلسفون والمتفيهقون صرعى الشبهة"، وكثيراً ما كان المتمجد متفيهقاً والمتفيهق متمجداً ، والشهوة شبهة والشبهة شهوة.
أما المتمجد فهو ذاك القرد الكائن في مسلاخ إنسان، يتسلق أبراج المجد ولا يدلف من أبوابها، ويتسلل- لواذاً – لموائد ترف الفرعون ومجونه ليقتات من فضلاتها، ويقهقه ليضحك جلاسها!
هو ذاك الرجل المهين الذي تجرد لأسياده وأرباب نعمته من نفسه وعقله ورأيه ومشاعره، يُقعي على ذنبه تحت أقدامهم إقعاء الكلب الذليل ، يضربونه فيصبطر لهم، ويعبثون به فيبصبص بذنبه طلباً لمرضاهم، ويهتفون به فيهرع إليهم ويزدجرونه فيزدجر، ويطردونه فيخنس!!
أما المتفيهق أو المتفلسف، فهو ذاك المخادع الذي يشتم باسم الموعظة ومصلحة الوطن، ويقرض الأعراض باسم النصيحة ، ويتهم الأبرياء باسم الغيرة الدينية والوطنية، هو ذاك المحرف الذي بدَّل الشريعة والدساتير، وأجهد نفسه في تبديل النصوص وتأويلها، فرضاً للواقع وإقصاءً للمحالف وقهراً للمجتمع وإرهاباً للفكر، كل ذلك من أجل تجميل وجه الفرعون القبيح وإضفاء الشرعية عليه!!
وهؤلاء المتفيهقون منهم من هو صادق في مشاعره، لكنه ضال في فكره ومعتقده ، قد استولت عليه الشبهة حتى استعجم عليه الأمر وارتبك به الفكر، فإذا نوقش في شرعية الفرعون المزعومة كان نزقاً زهوقاً ركيكاً .
ومنهم (فقهاء الجروب والمزاود ولقطات الموائد) الذين يدورون مع الدينار دورة الحرباء مع الشمس، لا يفارقه حتى تفارقها، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل قد استعبدته القطيفة والخميصة والأعطية و(الشرهة)!!
وصدق الفاروق رضي الله عنه حينما قال: " ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون".
عندما تتساقط أقنعة الفراعنة:
حينما تنتفض كرامة الأمم وحريتها، فتوقظ في قلوبها إيماناً، وتثير في نفوسها أشجاناً، وتوقد في صدورها حرارة وشوقاً، تتساقط أقنعة الفراعنة الخادعة، أقنعة البطش والكذب والكبر، عندئذ تفترُّ الأمور عن حقائقها وتسفر عن جليتها.
فحال للأمم المستضعفة، وحال للفراعنة المستبدين.
لقد استعادت الأمم قيادتها وحريتها وشجاعتها وخيراتها ومقدراتها ومكانتها بين الشعوب ، زال الوهن وجفل الخَوَر وانكشف الفشل وانقشع الجبن والضعف والكسل.
هنيئاً لهم لقد حرروا عقولهم من أسر الفرعون، وأرواحهم من سجنه، إنهم آمنوا بأن الرذيلة الساقطة، والدناءة السافلة، وانحطاط المكانة، وانخفاض المنزلة بين الأمم والحضارات، مرهونة معقودة بإهدار كرامتهم وحقوقهم وحريتهم على يدي الطغاة والظالمين، إنهم صرخوا في صوت واحد:" ليس للفرعون في الأرض مقعد ولا في السماء مصعد ولا في الوطن مقيل ولا في البلاد سبيل"!!
لقد تيقنوا أن الضامن لأمن أوطانهم وحفظ قوتهم يكمن في أخذهم على يد الظالم، وإرغامه على قبول الحق، مصدقاً لقسم النبي صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما- إذ يقول: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يدي الظالم ولتأطرونه على الحق أطراً، ولتقصرُونه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم".
وعندما تبدأ الأقنعة بالتساقط تحاول الفراعنة- يائسين بائسين - ستر ما يقدرون عليه من سوآتهم، لكن بعد فوات الأوان، هكذا هم الفراعنة أعماهم وأصمهم كبرهم وبطشهم وكذبهم، حتى إذا قصفت آذانهم أصوات شعوبهم، وجهرت أعينهم أضواء مطالب أمتهم، طفقوا يلملمون أوراقهم، ويجاهدون في إنقاذ ما تبقى من مطامعهم المردية، ومآكلهم اللئيمة، ومراتعهم الوبيلة، ومعايشهم المخزية، عندئذ يتظاهرون بالرضوخ لإرادة الشعب والأمة، فقديماً قال الفرعون الأول (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)[يونس:90]، لكن بعدما أفسد وبغى وتكبر (ءآلن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين) [يونس:91]، وبالأمس يقول أحدهم بعدما كبرت غلظته وعظمت شراسته:" أنا فهمتكم فهمتكم"!! واليوم يقول الآخر بعد كثرة سرفه وشدة صلفه: "إني أعي بمطالب الشعب"!! ، والثالث يقول بعد تطاوله وتشمخه: "لا توريث ولا تجديد"!! والحبل على الجرار....
وأخيراً ألا يحق للأمم المستضعفة في أزمنة الفراعنة، والأكاسرة، والقياصرة، أن تنادي بحريتها وكرامتها، وأن تصرخ في وجوههم: بأن لا تسرقوا من الأمة سلطانها ولا مقدراتها، وكفوا عن خديعة أمتكم وعودوا إليها فهي درعكم وحصنكم، قبل أن تتجردوا من كل شيء إلا من الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
كتبه/ عبدالله بن نافع الدعجاني