من روائع كلمات الشيخ ياسر برهامي حفظه الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه أجمعين


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت كلمات من نور
لـفضيلة الشيخ الدكتور/ ياسر برهامي
في كتابه المبارك ( أعمال القلوب)
فأحببت أن تعم الفائدة بيننا
جعلني الله وأياكم...
ممن يستمعون إلى الحق أو يطالعونه أو يكتبونه
فيتبعون دربه ويسلكون طريقه

قال الشيخ/د. ياسر برهامي حفظه الله:


لا تظن أن التوحيد هو ترك ما يفعله الجهال عند القبور فقط، فبعض
الناس يجعل قضية التوحيد هي التحذير من شرك القبور فقط!!، والبعض الآخر يجعلها التحذير من شرك الحُكم لا غير!!،والبعض الآخر يخص صورة من الصور كالمناقشة والمجادلة مع أهل البدع حول الأسماء والصفات هو التوحيد!!، فهذه قضية خطيرة جدًا، وهي أن يُظن أن التوحيد قضية نقد المخالفين، ويترك نفسه بعد ذلك، فقد أصبح التوحيد لدى البعض عبارة عن المجادلة مع المتكلمين حول قضايا الصفات، والمجادلة مع الصوفية حول قضايا القبور، والمجادلة مع العلمانيين حول قضايا الحكم والولاء مثلًا، ويبقى الإنسان مجادلًا طول عمره - ونسأل الله العافية-، وهذه المجادلات دفاعًا عن الحق من الواجبات بلا شك، والتخلي عن الباطل ومقاومته ومحاربته واجب، ولا يحصل الإيمان إلا بزوال الباطل من القلب، لكن فرق بين أن تنظف المكان وتعد الأساس وبين أن تبني البناء، فليست القضية أن تهدم الباطل فقط ثم تترك نفسك، أتقول: «لا إله» وتسكت، أم تقول:«لا إله إلا الله»؟ فإذا نفيت الإلهية عن غير الله فلابد أن تثبتها لله، وتقوم بها لله، فاعبد الله ـ، وتحقيق قوله ﻷ: [الذاريات:56]، هو تحقق هذه العبادات في القلب.
وليس دراسة التوحيد محصورة في الرد على المخالفين؛ لأن بعض الناس بسبب كثرة دراسته التوحيد من خلال كتب المتأخر ين دون أن يتدبر الأدلة من الكتاب والسنَّة حصل لدية هذا الفصل، والذي أكده أن قضايا العبادات القلبية كلها أُفردت في علم التهذيب والرقائق فظُنَّ منه أن هذا ليس له تعلق بالتوحيد، فترتب على ذلك هذا الانفصام العجيب الخطير بين أجزاء الدين في نفوس كثير من الملتزمين وعامة المسلمين، حتى قال بعضهم: «أن التوحيد ترف فكري»!!؛ لأنه ظنَّ أن التوحيد رد على الشبهات، وإيقاظ للبدع الميتة من قبورها والطعن فيها، مع أننا لسنا في حاجة إلى إيقاظها مرة أخرى أو طرح الشبهات على الناس بها؛ لأنها قد انتهت وانقرضت، وإن كان عامة البدع الكبرى لا يزال يوجد من يروج لها، لكن ما مات منها لا نسعى إلى أحياؤه لدى عامة الناس، بل من فعل ذلك فقد شغل نفسه دون غيره أَولَى منه على أقل الأحوال، ودائمًا يتشعب القلب، وتتشعب النفس، ويحصل فيها شغب من الداخل يمنع الإنسان أن يفكر في الأمور العظيمة الأهمية التي هي قضايا العبادة القلبية.
لذلك نقول: لا تظن أن التوحيد هو: ترك ما يفعله الجهال عند القبور فقط، بل حقيقته مع ترك هذا الشرك وغيره، ترك البدع والعقائد الفاسدة من الفلسفة وعلم الكلام في باب الصفات، وترك التحاكم إلى شرع غير الله، وترك موالاة الكفار... ونحو ذلك في هذه العبادة القلبية، بأن تصرف لله وحده، ولا يصرف شيء منها لغيره، وهي مسئولية شخصية لكل أحد منا.
فالمسئولية نوعان: شخصية وجماعية، فهي مسئولية شخصية؛ لأنه ليس هناك بشر يعلم من نفسك مثل ما تعلمه أنت منها، فأنت تعرف أمراض قلبك، ولا شك أن البصير الناصح من أهل التقوى والعلم يدرك فيمن يعاشره شيئًا من ذلك وينبهه عليه، ولكن لن يعرف ما في القلب؛ لأننا لم نؤمر أن نُشِق عن قلوب الناس، وأن كنَّا لا بد أن ننصح، وأنت أدرى بنفسك؛ لأنك المكلف بإصلاحها، ونجاتها متوقفة على هذا الإصلاح، فلذلك يجب على كل واحد منَّا أن يسعى في تزكية نفسه في هذا الأمر الذي مهما طالت العبارة في شرحه فلن تفي المقام حقه.
أمَّا المسئولية الجماعية: فهي تتمثل في التذكرة، والنصيحة، والبيان لأدلة الكتاب والسنَّة، والدرس والمذاكرة فيها، والاهتمام بها وكثرة الحديث عنها، وأن تكون مدار فكرنا، وليست أننا نكلم الناس بعيدًا عن هذه العبادات، فلا نكتفي بأن نزيل الشبهات؛ بل لابد أن تأخذ هذه القضية حقها وحجمها في نفس كل واحد منَّا وفي دعوتنا وفي بياننا للناس، فهي مسئولية شخصية بالإضافة إلى المسئولية الجماعية.
وإيَّاك أن تظنَّ أن هذا من باب وعظ العوام والجُهال، فيقال: «هذا إنسان واعظ» على سبيل التنقيص أحيانًا، بل أن الوعظ يراد به غير الملتزمين وأن هذه الأمور تقال لغير الملتزم حتى يلتزم، وأما بعد أن يلتزم فقد أدَّى ما هو أهم، وبالتالي ينشغل عن هذه العبادات، والبعض يظن أنه بمجرد أن التزم ظاهرًا فقد سقط عنه الباقي، أو أنه قد حصَّل هذه الأمور، وهذا خطر عظيم جدًا؛ فقد يلتزم الإنسان ظاهرًا ويظل في قلبه الجاهلية والضلال الذي كان عليه قبل ذلك، ولم يتطهر قلبه ولم يتزكَّ؛ إذ الفرق بين الصحابة ومن بعدهم يتمثل في حصول هذه العبادات القلبية من الأحوال الإيمانية ومقامات الإحسان التي أمر بها النبي ﷺ.
وهنا أمر يستحق التنبيه عليه، وأنه لا يمكن تحصيل هذه العبادات القلبية بمجرد المعرفة، فلا تُحصَّل بمجرد أن نقف ونتكلم فيها؛ فقد يحسن بعض الناس الكلام عن أنواع الخوف والرجاء والإخلاص وتعريف هذه العبادات، ولكن لا نجاة للعبد بمجرد الكلام أو المعرفة دون أن يطبق ويعمل، دون أن يوجد الحال، ففرق بين العلم والحال، فرق بين العالِم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل، وفرق بين العالِم بحال الأصحاء وهو مريض وبين الصحيح بالفعل، فيمكن أن يصف طبيب مريض حال الصحيح وهو طبيب يعالج الناس ويكون هو مريضًا، نسأل الله العافية.
لذلك نقول: أن فرق بين العلم والحال، وقضية المعرفة مفتاح هذا الخير، نتدارس هذا لنعطي المفتاح لكل واحد منَّا، ولنُذكِر أنفسنا قبل غيرنا بهذه المفاتيح وبهذا القصر العظيم، فمثل من عنده معرفة مجردة عن العمل كمثل من عنده قصر عظيم فتح بابه بمفتاحه وجلس في الخارج، وأخذ يقول: «عندي كذا وكذا في قصري»، لكنه لم يستمتع بالقصر، فلابد حتى تجد اللذة والنعيم أن تدخل القصر بالمفتاح الذي هو المعرفة، ويحصل هذا الأمر بدوام تعاهد القلب وأحواله والتفكر والتدبر مع أداء العبادات الظاهرة.
فالعبادات الظاهرة كالوعاء الذي يحصل فيه العبادات الباطنة، وبدون العبادات الظاهرة، لن تحصل هذه العبادات الباطنة: فبدون صلاة لن تحصل على الخشوع، وبدون السجود لن تقترب، فإذا أردت القرب من الله ﻷ فعليك بالسجود بين يديه ﴿ﯴﯵ﴾ [العلق:19]، وكذلك إذا أردت أن تجد الشوق إلى الله ﻷ وحبه ـ فلتقرأ القرآن وتتدبره.
فالعبادات الظاهرة أوعية للعبادات الباطنة، وليس كل من أتى بوعاء نال، فهناك أوعية مصمتة، هي كشكل وعاء ولكن ليس فيه شيء، ولا يحتمل أن يوضع فيه شيء، فهذا لن يستفيد، لذلك قال ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا»([1])، فعلى قدر حصول العبادة الباطنة على قدر ما تكون العبادة الظاهرة صحيحة مقبولة مرضية عند الله ﻷ، وأن أسقطت العبادة الظاهرة الإثم بتركها لكن لا يحصل للإنسان القرب من الله إلا بتحصيل العبادة الباطنة، قال تعالى: ﴿﴾ [المؤمنون:1، 2]، وقال ـ: ﴿﴾ [البقرة:183]، وقال ﻷ: ﴿﴾ [التوبة:103]، وقال تعالى: ﴿ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ﴾ [الحج:37]، وقال ـ: ﴿﴾ [الحج:32]، ففي هذه الآيات بيَّن الله ﻷ حال القلب في أركان الإسلام الأربعة تنبيهًا على أنها هي المقصود من هذه العبارة لذلك لابد من مراعاة حال القلب في هذه العبادات الظاهرة فتؤديها مع المجاهدة، ومع التدبر، ومع التفكر، ومع محاولة حضور القلب والتخلص من آثار التعلق بالدنيا؛ لكي يخلق الله ـ في قلب هذه العبادات الباطنة، ولكي يوفقك الله فيها وهي منة من الله ﻷ ورحمة منه ـ، لكنَّها إنَّما تحصل بأن تقف على الباب وتأتي بالوعاء، وتطلب من الخالق الرزاق ـ أن يرزقك من فضله، وأن يهدي قلبك، وأن يقلب قلبك على طاعته ومحبته ﻷ، وأن يرزقك حبه وحب من يحبه والعمل الذي يبلِّغُك حبه، وهكذا بالإخلاص والدعاء.
ومتى وقفت بعيدًا عن الباب منظرًا الفضل دون أن تأتي بوعاء فقد ضيَّعت عمرك وأهلكت نفسك، فلابد أن تأخذ بالأسباب بدوام تعهد القلب وأحواله والتفكر والتدبر مع آداء العبادات الظاهرة، عسى الله أن يمُنَّ علينا بصلاح قلوبنا وتزكية نفوسنا.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.


الكاتب: أبو براءة
التاريخ: 14/02/2010