ثُلاثُ عُشُرُ وَجْهُ مِنْ أُوجَهُ سَمَاحَةَ الْإِسْلامِ فِي مُعاملة غير المسلمينْ لِلْشَيْخِ عَطِيَّةُ اللهُ اللِّيبِيِّ رُحِمَهُ اللهَ تُعَالَى |
|
وسأذكُرُ في نقاطٍ نبذاً من شرائع الإسلام وأحكامه السمحة في معاملة الكافرين، ليتأملها أهلُ الإسلامِ ويتأملها مَن شاء الله من الكافرين أيضا، والله وليُّ التوفيق.
1) أوجبَ الإسلامُ العدلَ والإنصاف والقيام بالقسط مع كل أحدٍ من مسلمٍ وكافرٍ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). فحيث ثبَتَ وبانَ الحقُّ للكافرِ أقررنا به وأدّيناه إليه، والحقُّ هو ما أحقّه الله، وهو ما دلتْ عليه شريعتُهُ بأنواع الدلالاتِ المعتَبَرَةِ، فاجمَعْ هذا الكلام مع ما تقدَّم من الكلام على كون الكافر غيرَ محتَرَمٍ. ولذلك فأثَرُ هذا المبدأ إنما يتضِحُ أكثرَ ما يتضحُ في الكافر ذي العهدِ -ذميّ، أو ذي صلحٍ، أو ذي أمانٍ-، وأما في الحربيّ -غيرِ المحتَرَم- فبعضُ آثارِ مبدأ العدل تظهَرُ في بعض التفاصيل الآتية، وإلا فالحقُّ أن أعدلَ العدل في معاملته هو قتلُهُ وإعدامُه، ثم الفضلُ وهو درجةٌ أعلى من العدلِ، يعني أنها تتضمّنُ العدلَ مع الإحسان، أن يُستأنى به ويُعطى الفرصة للتوبة والإنابة، فأكرمْ به من عدلٍ وفضلٍ، والله أكبر.!
2) شرع الله عز وجل لنا الحرب العادلة، وهي الجهاد، فهي كلها عدلٌ؛ تقوم لسبب ولدوافع كلها عدلٌ وإحسان، وتجري على وفق العدل والرحمة والإحسان، فإن كانت حربَ دفعٍ فذلك ظاهرٌ عند المسلم والكافر، وإن كانت حربَ هجوم وفتح، وهي التي يسمّيها أهل شريعتنا بجهاد الطلب فهي حربٌ من أجلِ إتاحةِ الفرصَة لجميع البشر بأن يختاروا الإسلامَ إن شاءوا، بأن تُوجَد فيهم قوة الاختيار تامّة؛ لا يتسلّط عليهم مَن يُجبِرُهم على اختيارٍ ويفتنهم ويتحكّم فيهم ويصدهم عن سبيل الله، وذلك بإزالة الفتنة، وهي الطواغيتُ والسلطات الكافرة الحاكمة على الناس المتحكمة فيهم، فيتحررُ الناسُ من هيمنتها ويصيرون قادرين على اختيار الإسلام إذا شاءوا. وهذا الذي قال الله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) والفتنةُ هي القوةُ والسلطة الكافرة التي تفتن الخلق وتصدّهم عن طريق الله.
فهذا الجهاد كلّه من أجل الله، وفي سبيل الله، أي في طريق الله، وهي طريقُ الدين والشريعة، وجملتُها: الإخلاص والصواب، فهو في طريقِ الله من جهة المقصد والغاية، وفي طريق الله من جهة تفاصيل التصرّفات فيه وما يُفعَلُ وما لا يُفعَل، وهي الأحكام الشرعية الفقهية في الجهاد في الإسلام.
فليستِ الحربُ في الإسلام لمجرَّد الاستيلاء على خيراتِ الأقوام وأملاكهم أو لمجرد استعبادهم وتسخيرهم، وإن كان ذلك يحصُلُ ضمناً كليّاً أو جزئياً إذا هم رفضوا الإسلام وأَبَوْه وقاتلوا المسلمين، إذ أباحَ الله للمسلمين أموال الكافرين الحربيين وسَبْيَهم واسترقاقهم كما تقدم، لكن هناك فرقٌ كبيرٌ بين الأمرين لمن أنصف وتأمل.
وليستِ الحربُ في الإسلامِ لنصر جنسٍ وقومية أو عصبية، ولا لمجرد الاستعلاء على البشر.
بل هي حربٌ لإزالة الفتنة، ودفع الظلم، وتحرير الناسِ، وإنقاذ المستضعفين، ونشر دينِ الله –الإسلام-، ونصرِهِ وتثبيته وحمايته بحماية قاعدته على الأرض وهي دولة الإسلام وبلد الإسلام والاجتماع الإسلامي، وجعل كلمته هي العليا.
ولذلك فلا اعتداءَ فيها، ولا غدرَ ولا خيانة، ولا فسوقَ ولا فجور ولا شَيْطَنةَ، والعياذ بالله، بل نُبْلٌ وطهارةٌ وصدقٌ ووفاءٌ، والتزامٌ بدين الله وشريعته وحُسْنُ خُلُقٍ. (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). فالحمد لله الذي فضلنا وأعزنا بهذا الدين.
3) النهي عن قتل أصناف من الحربيين: نهتِ الشريعة الإسلامية المطهرة عن قتل أصنافٍ من الكفار الحربيين، والمقصود بالحربيين الكفار غير ذوي العهد بأنواعه الثلاثة الذمة والصلح والأمان. فنهت عن قتل النساء والأطفال، وهذا ثابتٌ في الشريعة ثبوت القطعيات أو قريباً منها، متفق عليه بين علماء الإسلام، ونهت عن قتل الشيوخ والرهبان في الأديرة والصوامع والمرضى الزَّمْنى والعمّال العسفاء الأجراء، وما شابههم من أصنافٍ، يُشبِهُ أن يكون الجامِعُ لهم أنهم ليسوا ممَّن شأنهم الحربُ والقتالُ والصدُّ والمصاولة، على خلافاتٍ وتفاصيل بين علماء المسلمين في بعض الأصنافِ. وعلى شرطٍ من الجميع دلتْ عليه أدلةُ الشريعة بأن لا يحصُلَ منهم -من تلك الأصنافِ- قتالٌ أو معاونةٌ ظاهرةٌ عليه ولو باللسان كالأشعار والغناء والتحريض.
4) إحسانُ القتلة والذبحة: وهو من محاسن الشريعة الإسلامية، ترفُّعٌ عن مظاهر الغلّ والحقد المجرد، وسفاسف التلذذ بالعنفِ والقتل والدماءِ، وتربيةً وتأديباً للمسلمين بأننا إنما نقتل من قتلناه من أجل الله لا من أجل أنفسنا، وإنما قتلناه لأنه ليس له دواءٌ إلا القتل، بمنزلة الكيّ الذي هو آخر الدواء، وفي كل ذلك إيماءٌ إلى تغليبِ الرحمة وإلى كمال الأدبِ. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذبحة، وليُحِدّ أحدُكم شفرتَهُ وليُرحْ ذبيحته" رواه مسلم.
5) من آداب وفقه معاملة المغلوبين: وهي كثيرةٌ وفي غاية السماحةِ وجامعةٌ لمعاني الرحمة والعدل والإحسانِ، ومنها: أن يترَك لهم ما يكفيهم من طعامٍ، قال علماؤنا: "ودُعُوا للإسلام، ثم جزيةٍ بمحَلٍّ يؤمَن، وإلا قوتلوا وقتلوا، إلا المرأةَ، إلا في مقاتلتها، والصبيَّ والمعتوهَ، كشيخٍ فانٍ، وزَمِنٍ، وأعمى، وراهبٍ منعزلٍ بدير أو صومعة بلا رأي، وتُرِكَ لهم الكفايةُ فقط، واستغفرَ قاتلُهم، كمَن لم تبلغْهُ دعوةٌ، وإن حيزوا فقيمتُهُم، والراهبُ والراهبةُ حُرَّانِ" اهـ [من مختصر خليل بن إسحاق المالكي].
الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيدٍ القيرواني: "من لا يجوز قتله من الراهب، ومن معه ممن ذكر فإنه يترك له قُوتُهُ من مالِهِ أو مالِ غيره من الكفار، وإلا وجب على المسلمين مواساتُهُ بما يعيش به، وقدمنا عن خليلٍ أنه لا شيءَ على مَنْ قتل منهم أحداً قبل الحوز إلا التوبةَ، وبعده يلزمه غرمُ القيمةِ إلا الراهب والراهبة فيلزمه ديتُهُما تُدفَع لأهل دِينهما" اهـ.
6) معاملة الأسرى والسبي، ومنها شرعية المنّ على الأسير، بإطلاق سراحه بدون مقابلٍ، توسعةً وقصداً لإمالته إلى الإسلام أو تأليف قومه على الإسلام أو نحو ذلك من المقاصد الحميدة. وعمومُ معاملة الأسيرِ بالإحسان إليه بإطعامه وكسوته اللائقين، وعدم تعذيبه أو إهانته أو نحو ذلك، قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، فإن اسْتُرِقَّ -جُعِل واتُّخِذ رقيقاً أي عبداً مملوكاً، حيث أمكن- أو فودي به فذاك. وإن قُتِل فإحسانُ القِتلةِ كما تقدم.
وفي معاملة السبيِ من النساءِ والذرّيّةِ: حفظُهم وصونُهُم وإكرامُهم، وعدم التعرّض للنساء حتى يُقسَم السبيُ، ثم من وقع في قسمتِه -نصيبه من القسمة- شيءٌ من السبي من النساء، فإنه يحرُمُ عليه وطؤُها حتى تستَبْرَأَ بحيضةٍ إن كانت حائلاً، أو يَبِينَ حملُها فلا تُؤطأ حتى تَضَعَ، ويحرُمُ في معاملة السبيِ من النساء والصبيان التفريقُ بين ذوي الأرحام الأدْنَيْن، كالوالدة وولدها، وما أعطيَ حكْمَه.
7) تحريمُ الغدر: وذلك أصلٌ عظيم في دين الإسلام ومن محاسنِ شريعته الغراء، وأكرمْ به من أصلٍ في مكارم الأخلاق وكمال الفضائل والرجولة والفحولة.
8) باب الموادعة –المهادنة- للكفار: وعقدِ الصلحِ معهم على وقف الحرب والقتال، شرعته الشريعة الإسلامية لما فيه من الحكَم، وفيه رحمةٌ وفوائدُ للجميع، يعرِفها أهل الحرب وغيرُهم.
9) باب الأمان: وهو إعطاءُ الأمان للكافر الحربي الذي له حاجةٌ في دخول حوزةِ المسلمين، فيأمَنُ على نفسه وماله، وإليك هذا الأنموذَجَ فضمَّه إلى ما تقدّم: "ذهب الحنفيةُ إلى أنه إذا دخل الحربيُّ بمال التجارة إلى دار الإسلام بأمانٍ يُؤخَذُ منه عُشْرُ مالِهِ إذا بلغ المالُ نصاباً، وهذا إذا لم يُعلَم مقدارُ ما يأخذون منّا ، فإن عُلِم مقدارُ ما يأخذون منا أُخِذَ منهم مثلُهُ مجازاةً، إلا إذا عُرِف أخذهم الكلَّ فلا نأخذُ منهم الكلَّ بل نترك لهم ما يبلغهم مأمَنَهم إبقاءً للأمان" اهـ [الموسوعة الفقهية الكويتية].
10) باب الذمةِ: وهو أن يعطى الكافرُ عهداً مؤبَّداً بالأمان ويكون في ذمة المسلمين وتحت حكم المسلمين، ويكون من رعايا الدولة المسلمة، يدافِعُ عنه المسلمون ويحمونه... في مقابل أن يدفَع الجزية عن يدٍ صاغراً وذلك بالتزامٍ شروط موضَّحةٍ في بابها.
وإن ظهرَ في بعض تلك الأحكامِ والشروط قسوةٌ على الكافرِ الذميّ، لما فيها من الإذلال الظاهر له، وعدم تكريمه، فإن ذلك لا ينافي العدل، بل هو صميم العدلِ وزيادةٌ بالإحسان والرحمة، لمن تأمَّل وأنصف، لأن الكافرَ مستحق للإعدام وأقسى العقوبة أصلاً كما تقدم لعظيم جرمه. والجَهَلةُ قليلو الإنصاف والحِكمة من الكفارِ ومَن تأثّر بهم وتلوَّث بثقافتهم اليومَ، تُنكِرُ قلوبهم ذلك ويشنّعون على الإسلامِ وأهله بأن هذه الأحكام منافية للعدل وحقوق الإنسان زعموا!! (ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)، وما مثلُهُم في أحسنِ الأحوال إلا كما قيل: علمتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياءُ، وإنما أُتُوا من ظنهم أن العدل هو التسوية بين الناس مطلقاً، فجعلوا العدل هو مطلق التسوية، وليس كذلك، بل هذا من الخطأ والفساد، وإنما الحقُّ أن العدل هو التسويةُ بين الأشياء المتماثلة التي لا فرقَ معتبراً بينها والتفريقُ بين الأشياء المختلفة نوعَ اختلافٍ يُوجِبُ الفرقَ بالدليلِ، وأيُّ تشابهٍ وتساوٍ يثبتُ بين المسلم والكافر؟ سبحان الله! قال الله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ).
على أن مما يظهَرُ فيه سماحةُ الإسلام وفضله ومحاسنُه في هذا الباب أشياءُ كثيرةٌ أخرى منها: مقدارُ الجزية، إذ هو مقدارُ يسيرٌ جداً دينارٌ أو ما يعادِلُه أو تزيدُ قليلا إذا كان الحالُ أوسعَ أو تنقص بحسبه، على كل حالمٍ –بالغٍ- قادرٍ، في السَّنَةِ. فهو مع صغر حجمه لا يؤخذ من الصبيّ ولا من المرأةِ، ولا من المعدِمِ غير القادر.
على أن من أنصفَ وبحث فإنه لن يجد أحكاماً أعدل ولا أفضلَ وأحسن من هذه في معاملة المغلوبين والرعايا للدولة المخالفين لها في الدينِ، ومن طالع التاريخ قديمه وحديثَه عرف! فإن الدولة إذا قامت على أساسٍ دينيّ، مهما كان، فسيتضحُ للباحثُ بكل سهولة عظمةُ سماحة الإسلام وشرائعه وأنه لا نظيرَ لها أبداً. وإن قامتِ الدولةُ لا على أساسِ الدينِ، بل على الكفر بالدين وتنحيته واستبْعادِهِ، فذلك شرٌّ عظيمٌ مغمورٌ في جنبه كل ما يمكن أن يتخيّله الإنسانُ شرّاً.!!
وأنظمةُ العالَم الغربي اللادينية اليوم وإن تشدَّقتِ بشعارات الحرية والحقوق في ظل نظامهم الخادع ودينهم المسمى بالديمقراطية، فإن ظلمَهم لأهل الدين الإسلاميّ دينِ التوحيد -عبادةِ الله وحده لا شريك له، واتباع رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورسالته الخاتمة الناسخة لما سواها-، هو ظلمٌ واضطهادٍ مستمرٌّ، إن على المستوى الرسميّ أو الشعبي أو كليهما، وبأشكالٍ "قانونية" وغير قانونية، بالتخويفِ والإرهابِ والتضييق والتمييز والاحتقار والاعتداء والإضرار والإيذاء، ولن يتوقف ذلك إلا إذا أسلموا هم أو كفر مَن تحت سلطتهم من المسلمين –والعياذ بالله- أو اتخذ سبيل الفسق والفجور أو داهن، ولن يَسْلَم.! نسأل الله العافية والسلامة.
فالكفار إذا غلبوا وكانت لهم الدولة، فإن ظلمهم واضطهادَهم للمسلمين كبيرٌ، وإن ادّعوا ما ادّعوا، فإنهم يتلاعبون بالقوانين والمبادئ المعلنة كيفما شاءوا، ولن تغني الشعاراتُ شيئاً، لأنهم يتصرّفون على وفق أهوائهم ومحابّ نفوسهم ومصالحهم كما يرونها، وبئسَ ما يرونَ وهم ليس عندهم تقوى لله ولا خوفٌ منه وخشية ولا إيمان حقيقيّ معتبَر باليوم الآخر. وأما المسلمون عندما يغلبون وتكون لهم الدولة، فإن الإسلام يقولها للكفار الذين تحت رعايته وسلطانه صريحةً واضحةً صادقةً شفّافةً: لكم من المعاملة كذا وكذا, وتستحقون كذا وكذا، بلا خداعٍ ولا كذبٍ ولا تجمّلٍ زائف ولا "لَفٍّ ولا دوران"، وهذا ما تستحقونه من معاملة ويليق بكم، ولن تجدوا خيراً منه، وأهلُ الإسلام هم أهلُ تقوى وخوفٍ من الله ومراقبةٍ وصدقٍ وطاعة ظاهرةٍ وباطنة، والحمد لله رب العالمين.
وهذا مما يوضح لك معنى الواقعية التي يذكُرُها علماؤنا وأدباؤنا والتي هي من خصائص دين الإسلام، وهي حقٌّ.
11) وقد أوصتِ الشريعة المطهرةُ خيراً بأهل الذمة والمعاهَدين والمستأمنين، وجعلتَ لهم أحكاماً وحقوقاً، وهي راجِعَةٌ إلى احترامِ وتعظيم "عهدِ الله" و"ذمّةِ الله وذمة رسوله" صلى الله عليه وسلم. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من قتل معاهداً لم يَرَحْ رائحةَ الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري.
وأمرَت بالإحسان إلى أهل الذمةِ وحسن معاملتهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، كما قال سيدنا عمرُ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه: "أوصي الخليفةَ من بعدي بالمهاجرين الأولين خيراً أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوؤوا الدارَ والإيمانَ أن يقبل من محسنهم ويُعفى عن مسيئهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم وأن يُقاتَلَ مِن ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم" رواه البخاري. وهم داخلون في عموم قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).
12) ومن أعظم مقاصد الإسلام في هذا الباب مقصِدُ الهداية للخلق، بحيث يتعرَّض الكافرُ الذميُّ لفرصةٍ كبيرةٍ للتعرُّف على الإسلام ورؤية محاسنه ورِفعَةِ آدابه وعلوّ شأنه، وما في أحكامه وفقهه من إتقانٍ شاهدٍ بأنه من عند الله، وما فيه من الرحمة والعدل والإحسان والصلاحِ والطهارة والكرامة والكمال والجمال، ومدى تأثيره الطيب الجميل العميق على النفس والاجتماع البشريّ، وأنه خيرٌ كله وصلاحٌ وبركةٌ... ويعرف –إن كان يريد أن يعرف- أنه الحق المبين من عند الله رب العالمين، فيُسلِمُ، وهذا من معنى قول الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال أبو هريرة رضي الله عنه: "خيرَ الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام" وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب الله عز وجل من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" رواهما البخاري. قال العلماءُ: معناه يُؤسَرون ويقيَّدون ثم يسلمون فيدخلون الجنة.
13) الإحسان إلى الوالدين الكافرين، وصلة الرحم الكافر، قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
وقال تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وهذه معانيها واضحةٌ بيّنة، ولمن يريد التأمل ومعرفة الخير والحق والهدى الذي فيها فليراجع التفاسير، والحمد لله رب العالمين.
قال ابن القيم رحمه الله على آية الممتحنة هذه: "فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفارَ أولياءَ وقطَعَ المودةَ بينهم وبينهم، توهّم بعضُهم أن برَّهم والإحسانَ إليهم من الموالاة والمودة، فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة" اهـ.
وفي الصحيحين: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قَدِمتْ عليَّ أمي وهي مشركةٌ في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قدمتْ عليَّ أمي وهي راغبةٌ أفأَصِلُ أمّي؟ قال: نعم صِلِي أمَّكِ.
فهذا بعض ما تيسّر ذكره من الأمثلة على سماحة الدين الإسلامي في معاملة الكفار.
نسأل الله تعالى برحمته التي وسعتْ كل شيءٍ أن يرحمنا.