وقفات ما بعد سَكْرة الكرة! محمد مصطفى حفظه الله |
|
وقفات ما بعد سَكْرة الكرة!كتبه/ محمد مصطفى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فها هو المولد قد انفضَّ، وها هي سكرة "السافلة المستديرة" قد بدأت ترتفع عن رؤوس عاشقيها -فيما أظن- بعد أن انفضَّت هذه المهزلة بما لحقها من توابع مخزية؛ تجعل الحليم حيران.
والسكرة تُعمي وتصمُّ، فبينما يصدح الواعظ بالنصح والتحذير من مزلات الأقدام؛ تجد المنصوح في تخبطه، قد خمَّرت سكرة "الكرة" رأسه، شأنه شأن قوم لوط. قال الله -تعالى- عنهم:
(وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (الحجر:67)، فوَعَظَهم نبيهم لوط -عليه السلام-، وذكَّرهم بربهم ونخوتهم، وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، و(قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ . وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ . قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ . قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الحجر:68-71).
ولكنَّ سكرة الشهوة غلبت على عقولهم، فكأنَّ في آذانهم وقرًا، وقد وصف الله -تعالى- حالهم خير وصف، وأخبر عن حالهم بأحسن بيان، فقال -عز وجل-: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72)، سكرة لا يُرجى معها أن يفيقوا، وأن يسمعوا هاتف التقوى والنخوة والفطرة السليمة.
وللمستديرة سكرة.. وأيُّ سكرة!
وإلا فبِمَ تسمي ما رأيناه في شوارع بلدين من بلاد الإسلام لمجرد مباراة.. بم تسمي ذلك غير أنه "سكرة"؟!
وبمَ تسمي هذه الاعتداءات بين المسلمين من أجل قطعة من الجلد تُسدَّد في شبكة من الخيط.. أليست تلك سكرة؟!
وبمَ تسمي هذا التأجيج الإعلامي لإثارة النزعات القومية والوطنية -أو الجاهلية بعبارة أوضح- غير أنه سكرة؟!
بل بمَ تسمي ما تفعله أمة مقهورة أُخرجت من ديارها وأبنائها، ثم تجعل كل همها في شيء لو سميناه "تفاهة" لكان رفعًا له فوق منزلته؟!
جلدةٌ ملؤها هواء.. يلهث خلفها أناس أفئدتهم هواء!
أفاق.. فقال: أين أنا؟!
مرَّت المباراة المشئومة بعُجَرها وبُجَرها، وذاعت أنباء ما فعله السَّكرى من الطرفين بما يُغني عن تسويد الصفحات في بيانه، ونسأل الله العافية.
ولعل السكرة قد بدأت تحل عن الرؤوس لتعقل وتعي، كشأن المخمور إذا أفاق وقال: "أين أنا؟!".
نعم، إنه سؤال نحتاج أن نقف معه بعد هذه السكرة: أين نحن؟!
عندما تـُعقد الموالاة على خطوط!
في وقت من الأوقات لم تكن هناك حدود بين بلاد المسلمين، وكان السائر ينتقل بينها في أرض الله -عز وجل-، وسلطان المسلمين، إلى أن عملت مباعض الاستعمار -وهو استخراب في الحقيقة- في بلاد المسلمين، فقسَّمتها بخطوط مستقيمة، أو شبه مستقيمة كما تُقسَّم قطعة الجُبن، وكانت تلك الخطوط على ورقٍ وخرائطَ في بادئ الأمر، ولكن لم تكن تلك هي الغاية.
لقد كانت غاية هؤلاء أن تنعقد القلوب على تلك الخطوط بعد أن كانت تنعقد على (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:55-56).
كانت غايتهم أن ينحل رباط الولاء للدين وأهله إلى أن يكون على مجرد خطوط رسموها يومًا من الأيام.
ولو أردت أن تتخيل سذاجة تلك العقول التي عقدت ولاءها على خطوط الطول، ودوائر العرض؛ فتخيل أن مصر -مثلاً- انقسمت بخطٍّ إلى قسمين شمالي وجنوبي، أو شرقي وغربي، ثم بعد عقود انعقد ولاء الناس وبراؤهم على هذا الخط، فانطلق كلٌّ في شطره ينتهك حرمات أهل الشطر الآخر، وكل هذا من أجل خطٍّ!
ألا لعنة الله على من كاد بالمسلمين هذا الكيد، وخطَّ هذا الخط! خطٌّ لا تمحوه من النفوس ممحاةٌ، وإنما تمحوه من النفوس أن تعي: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71)، وأن تعلم أن: المسلمَ أخو المسلم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (متفق عليه).
وفي حديث المهاجرين والأنصار عبرة!
فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: "يا للأنصار"، وقال المهاجري: "يا للمهاجرين"، فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّة؟!)، قالوا: "يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار"، فقال: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).
منتنة.. تدعو إليها وسائل الإعلام!
منتنة.. ويتشدق بها أدعياء الثقافة ليل نهار!
منتنة.. ويتبجَّح بها شعبان مسلمان من المفترض أنهما جسدٌ واحدٌ، إذا اشتكى منه عضو أنَّ له الآخر!
وفي السكرة تُساق العجماوات!
فالمخمور يُقاد كما تُقاد البهيمة، وإن كان يُساق لحتفه!
فعندما تعبث الأيادي بعقيدة الولاء والبراء ليسحق شعب مسلم شعبًا آخر..
وعندما تـُوظَّف هذه المباريات في عملية تعطيل العقول، وتفريغ الشحنات -إن صح التعبير-، حتى إذا انقضت المباراة، ووقتها الضائع الذي لم يعد يقتصر على دقائق، وإنما يمتد إلى أيام وأيام؛ كان المشجعون كالخرقة البالية تلعب بها الأهواء كيف شاءت..
عندما تُساق الأمة إلى حتفها من خلال مباراة؛ فأي سكرة أعظم من هذه؟!
إنه كيد ساحر!
وعلى الطريق مشايخ سكرى!
والمصيبة عندما يتكلم من يتكلم باسم الدين؛ جاعلاً من مثل هذه المباراة قضية مصيرية، ويتشدَّق بأن الفريق ما فاز إلا لأنه قال كلمة السر في النصر التي أسر بها إليهم!
عبثٌ واستخفافٌ بالعقول، وتسويد الأمر لأناس لا يستحقون المداد الذي يُسكب على الورق للرد عليهم، ولو كانوا في زمنٍ مضى لضُربوا بالنعال، وطيف بهم في الطرقات ليكونوا عبرة لمن اعتبر.
وتجد آخر يرفع يديه متضرعًا إلى ربه أن تنساب تلك الجلدة المنفوخة إلى شبكة الفريق الخصم، ويحث المسلمين على الدعاء من أجل المباراة، ويقول: "ادعوا، أليس في مصر رجل مستجاب الدعوة؟! ادعوا لعل الله ينصرنا!".
يسمون هذا الهراء نصرًا، كهؤلاء الذين أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: (لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني)، فيقولون: نصرٌ، وهدفٌ، وهجومٌ، ودفاعٌ.
أنَّى لأمة تسمي اللعب نصرًا -شأنها شأن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم- أن ترفع رأسها؟!
استنصرتُك.. فلم تنصرني:
يا حسرتى.. على مسلمين في مشارق الأرض ومغاربها! تُنتهك أعراضهم وتُستباح دماؤهم، وتتعلق قلوبهم بإخوانهم في الدين والملة، ينتظرون يدًا من إخوة العقيدة، ثم يرون المسلمين مشغولين بمثل هذه الأمور، يقتل بعضهم بعضًا من أجل مباراة.
هل يلزم أن تنعقد مباراة مع إسرائيل، أو أمريكا، أو روسيا، أو الصين، أو غيرها من البلاد التي تنتهك حرمات المسلمين حتى تستيقظ الرجولة في النفوس؟! ماذا سيقول الواقفون بين يدي الله -تبارك وتعالى-، المسئولون عن كل صغيرة وكبيرة؟!
إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي) (رواه مسلم).
وهذا في عيادة المريض، وإطعام الجائع، وسقيا العطشان؛ فما البال بنصرة المظلوم، وإنقاذ المنتهك حرمته؟!
اللهم اغفر لنا عجزنا وتقصيرنا..
وبعد..
فهذه وقفات عاجلة، وكم أرجو أن تصادف عاشقي الكرة، وقد استفاقوا من سكرتهم؛ لعل الأذن تسمع، والقلب يعي، لا أن تكون السكرة قد استحكمت على العقول، فحيل بينها، وبين نصح الناصحين، ومضى أصحابها.. في سكرتهم يعمهون.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
__________________