لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق .

 

بقلم د. وسيم فتح اللــــــه

قال الله تعالى في محكم تنزيله:\" يأهل الكتاب لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون\"(آل عمران 71)، وقال تعالى:\" وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيِّننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون\"(آل عمران 187)، فإذا كان مدار الإنكار على علماء أهل الكتاب في هاتين الآيتين يقوم على خصلتين هما :

اللبس

والكتمان

فإن واجب علماء الإسلام الاحتراز من الوقوع في هاتين المهلَكتين البتة، وإلا كان فيهم شبه علماء أهل الكتاب الذين آل أمرهم إلى قوله تعالى:\" واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.

ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث\"(الأعراف175-176)، ولهذا قال بعض السلف: من ضل من علماء المسلمين ففيه شبه اليهود ومن ضل من عُبَّاد المسلمين ففيه شبه النصارى، أما الأول فلأن اليهود مغضوب عليه لما تركوا العمل بما علموا، وأما الثاني فلأن النصارى كانوا ضلالاً يعملون ويغالون بلا علم ولا هدى، فتأمل.

إن سر إنكار الآية الكريمة على أهل الكتاب لبسَ الحق بالباطل -كتسمية شركهم توحيداً – يكمن في قبح الغش والخديعة في مسائل العقيدة بقصد خداع الناس لا سيما عوامهم وجُهَّالهم، كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة أنهم :\" يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُشبِّهون\"،

ولقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أمثلة شتى لهذا التشبيه واللبس في كتابه النفيس درء تعارض العقل والنقل، ولعل أخطرها فيما نراه اليوم هو التدليس والتلبيس على الناس باستعمال مصطلحات شرعية في غير ما وضعت له مع ما يتبع ذلك من تنزيل كل لوازم وموجبات هذه المصطلحات على المسمى الباطل،

حتى كادت بعض الأسماء والمصطلحات الشرعية تفقد مدلولها الشرعي وتستحيل مجرد أسماء فارغة لا أثر لها في حياة المسلمين إلا التستر على الباطل والترويج له حتى يتبلد حس المسلم السوي فلا يعود ينكره – أي الباطل – بل وربما سعى في تمكين هذا الباطل لما توهمه من صحة نسبة المصطلح الشرعي إليه،

حتى إذا تحقق هذا اللبس والتشبيه جاءت المهلَكة الثانية التي أشارت إليها الآيات ألا وهي كتمان الحق، تلك الجريمة النكراء التي لا معنى لها سوى خيانة عهد الله تعالى وميثاقه، ولعمر الحق لئن شُبه بالباطل وكُتِم الحق فمتى يظهر الدين وكيف؟ قال الإمام أحمد رحمه الله :\" إذا سكت العالم تقيةً وتكلم الجاهل بجهله ، فمتى يظهر الحق؟

إن المعركة الجارية اليوم بين جند الإسلام وجحافل الكفر العالمية إنما تدور رحاها حول شيء واحد فقط هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،مع كل ما يترتب على هذه الشهادة من موجبات ولوازم، وأقول بكل ثقة إن حاجة المسلمين اليوم ليست إلى السلاح والعتاد بأشد منها إلى جهابذة الكلمة الحق الذين يزيلون اللبس عن الناس ويبلغون الحق عن رسل الله عز وجل الذين ورثوا أمانتهم وميثاقهم،

إن جنبات المجتمع المسلم اليوم تتفتق عن مئات الألوف ممن تقطعت أكبادهم وقلوبهم شوقاً لإهراق دمائهم على ساح الجهاد ولن يستطيع المجتمع أن يحتوي هؤلاء لفترة طويلة وليست حاجتنا اليوم إلى مزيد من هؤلاء، إنما حاجتنا اليوم إلى من يلبي نداء المولى سبحانه وتعالى:\"ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون\"(آل عمران 79)،

نحن بحاجة اليوم إلى هؤلاء الربانيين حتى يوجهوا تلك الطاقات المشرفة على الانفجار حتى لا تضيع هدراً وتذهب سدىً، لأنها ستذهب وستنفجر وسوف لن تنتظر صحوة منتسب إلى العلم من سكرة المنصب ونشوة جوار السلطان، إنها سوف لن تنتظر إذنَ أحدٍ من المخلوقين لأن أرواحها ما عادت تطيق انحطاط العوالم السفلية بل باتت في شوق إلى عالم الأرواح العلوية، ومهما ظن أخصائيو التخدير أن مسلك هؤلاء مرجوح مقبوح فإن هؤلاء يُقبلون على الله بحجةٍ وتأويل فلعل الله تعالى أن يقبل منهم،

ولكن ما حجة وتأويل من يكتم الحق ويروج للباطل بلبوس الحق؟

نعم، نحن اليوم بحاجة إلى أهل الحل والعقد أشد من حاجتنا إلى أهل البندقية والمدفع، فلقد أثبت أهل السلاح أنهم كفؤ وند لجحافل الكفر يقضّون مضاجعهم ويفندون نظرياتهم العسكرية والأمنية، أما فريق الكتاب والقلم والحجة والبيان فكثير منهم لا يزال مشغولاً عن ساحة المعركة، ولو أنه كان مشغولاً في حلقة علم لما زادنا ذلك إلا سروراً فمدادهم آنذاك ينافس دماء الشهداء، أما أن يكون انشغال معظمهم أو كثير منهم في تفصيل التلبيسات الشرعية لترقيع ما اهترأ من نظم حكومات العمالة والخيانة فخطبٌ والله عظيم وفعل والله مشين!

أليس من العجيب إذن أن تُحشد عشرات النصوص والفتاوى لنصرة (حق) الكافر الذمي أو المستأمن كما يحلو للبعض أن يُلبِّس بهذه المصطلحات في حين تتكتم الأفواه عن قول كلمة حق أو تبليغ واجبٍ شرعي في نصرة عشرات بل مئات المسلمين دماءهم وأعراضهم وأموالهم؟

وليس لي غرضٌ في استحضار واقعة أو حادثة بعينها فلقد أصبح دأب القوم - مع الأسف - الالتزام باجتماع المهلكتين: لبس الباطل وكتمان الحق كي يفت في عضد الأمة وينهش في لحمها وينشر فيها السم الزعاف،

ولعمر الحق إن مثل هؤلاء كمثل ملكٍ أمر خادماً من خدمه أن ينطلق إلى ساحة قصره كي يطهره من الوحوش والسباع العاديات حتى يسود الأمن والأمان في ساحة القصر فإذا بهذا الخادم ينهمك في قتل الذباب ومطادرة البعوض في حين تنهش العقارب والحيات وأسود الغابات في لحم كل بريء ومستأنس، فكم تحسب مقدار رضى الملك عن فعل هذا الخادم؟

إن هاتين المهلكتين إذن سر دائنا ودوائنا، إذ أن الأمة الإسلامية لا تعوزها – بفضل الله تعالى – الطاقات ولا المقدرات ولا الموارد البشرية وغير البشرية .

وإنما يعوزها من يحمل لواء ورثة الأنبياء بصدق وأمانة ليبلغ عنهم ما حمله منهم وليُخرج من شاء الله تعالى من عباده من عبادة العباد إلى عبادة الله بحق .

وليخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة بحق، وليبقى الحكام على كراسييهم لا ضير ولكن ليبقوا على شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا غير، وليأخذوا حينذاك أموالنا وليضربوا أبشارنا وليظلمونا حقوقنا ولكن لا يظلموا حق الله ولا يبعثوا بأموالنا إلى قتلة الأنبياء ولا يجعلوا ضربنا ضِعةً للمسلم ورفعةً للكافر فهذا ما لن نطيع فيه أبداً ولا كرامة..

د.وسيم فتح الله

الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 01/01/2007