شرق إسلامي جديد

 

"شرق إسلامي جديد"
قراءة في ما بعد الثورة
د. رمضان عمر
لم تتحدد - بعد- معالم الخريطة السياسية لشرق ما بعد الثورات العربية، لكن خيوط التشكل السياسي بدت ترتسم على بعض الصفحات الجغرافية في تشكلات هندسية سياسية قادمة من بعيد، تحمل بصمات مغايرة ؛ ففي تونس الخضراء أطل وجه النهضة مشرقا ومفاجئا،يتحدث فيه الخطاب الإسلامي عن غد آت يكون الإسلام فيه سيد الموقف.
هذا الخطاب الإسلامي الجديد جاء واقعيا متزنا ؛ لأنه خطاب يريد أن يجد له موقعية حقيقية تقود وتحكم.وهو خطاب يمثل حقيقة الأدبيات التي نادى بها التيار الإسلامي المعتدل الممثل للأغلبية.
وهذا الخطاب يكذب ادعاءات العلمانيين وافتراءاتهم وزعهم الباطل " بان قدوم الإسلاميين يحمل في ثناياه مخاطر تهدد الحريات والتكوين الاجتماعي . ولعل في تطمينات الغنوشي ما يبدد كل تلك الأغاليط والأكاذيب التي يروج لها المنافقون المتسلطون .

وفي مصر يتحدث الإسلاميون عن مستقبل مصر الإسلامي، وكأن مصر عبد الناصر والسادات ومبارك قد ولت إلى غير رجعة .ولعل حديث الإسلاميين يشير إلى تحولات جذرية في شكل الخريطة السياسية في المنطقة برمتها.
صحيح أن الثورة في مصر تعاني من اثأر الثورة المضادة التي يقودها الجيش،ولم ترس سفينة الأمان على شط المستقبل الموعود ؛ذلك أن الجيش الذي بناه مبارك، وقاده مبارك، وشُكلت قيادته -التي ما زالت تحكم- على عين مبارك؛ ما زال يتحكم بكثير من تفاصيل الحياة الأمنية والسياسية في مصر.
فهل تحررت مصر - فعلا- من قبضة من انزلقوا بها – سحيقا- في التبعية والتغريب؟ وهل ليبيا ما بعد القذافي لا تعيد استنساخ تجربة ما بعد المختار ؟
وهل النظام العربي الجديد سيتشكل- كما تشير كثير من التحليلات- تشكلا تفرضه الرؤية الإسلامية ؟
هل اطل – باختصار شديد - فجر الإسلام السياسي الحاكم والخلافة الموعودة؟
وهل نحن أمام شرق أوسطي جديد مغاير لأمنيات (رايس) في حديثها- قبل سنوات- عن الثورة الخلاقة لإيجاد "الشرق الأوسط الكبير"، وتمنيات (بيرس) في كتابه " الشرق الأوسط الجديد"الذي رافق انطلاق العملية السلمية والغزو العراقي ؟ وهل الحالة الثورة اليوم تشهد تنويرا إسلاميا يأتي بمنهج الإسلام في الحكم ويعيد للأمة مجدها، كما مهدت الثورات الغربية -الفرنسية وغيرها- لميلاد أوروبا الحديثة ؟
هل انتهى عهد الدكاتوريات وحكم الفرد وتسلط الراعي، واستعباد الشعوب؟
يقول احدهم: لم تعد سلطة الدول العربية متمركزة في أشخاص بعينهم، وإنما أصبحت في أيدي شعوبها (" )
فهل هذه المقولة تقع ضمن دائرة الأحلام، والأمنيات، أم أننا أمام واقع مغاير يستدعي وقفة إجلال وإكبار، وإعادة رصد التحليل السياسي بعيدا عن نظريات التآمر، وصولا بان هناك :
*تغير في ثقافة المواطن العربي نحو المشاركة "
...............................
ما زلنا نعيش مرحلة الثورة، ولا يستطيع احد أن يتنبأ بحتمية الخيارات الممكنة لما بعد الثورة، لكن واقع الثورة يعيننا على استشراف المستقبل ضمن معادلات رياضية، قد تقود إلى نتائج شبه دقيقة، ذلك أن إستراتيجية التغيير إن حافظت على ديمومتها، ولم تنحرف عن مسارها، ولم تستجب لتيار الثورة المضادة،وتسلم له القياد، وتنساق مع التيار المثبط قد تصل إلى ما أعدت له .
والحقيقة أن الثورة العربية اليوم فيها من المبشرات ما يجعلنا ننحاز إلى الأمل المعقود بشروط الصبر . ومن هنا يقع التحليل السياسي في وعينا متنبئا بإمكانية - ولا أقول حتمية -ميلاد شرق إسلامي جديد، يكون للصوت الإسلامي فيه نصيب الأسد في توزيع الحصص المستحقة.
هذا الصوت الإسلامي بإمكانه إن يلعب، بوعي، ويقدم نموذجا متدرجا في التغيير ربما يصل في النهاية إلى طموحات المنظرين لذلك الشرق الإسلامي، وأقول تدريجيا؛ لان الصوت الإسلامي لن يستطيع أن يمارس العملية السياسية في الحكم والتغيير إلا من خلال المشاركة القائمة على الديمقراطية والشراكة والتعددية، أي تحت سقف لم يسمه الإسلام بل ربما حاربته كافة الأحزاب الإسلامية، وان تفاوتت في التعامل معه، اعني الديمقراطية ونظام الدولة الحديثة في الحكم.

الأحزاب الإسلامية والمشاركة السياسية
ربما تكون مصر لاعتبارات كثيرة واحدة من أهم المحطات التي يمكن- من خلال تسليط الضوء عليها- استقراء حالة الجدل السياسي حول مستقبل التجربة الإسلامية في المشاركة والحكم، فبعد سقوط نظام مبارك، وما تبعه من استحقاقات تستدعي تشكيل حكومة،من خلال صناديق الاقتراع، تتنافس على تشكيلها مجموعة كبيرة من الأحزاب، يمثل الاتجاه الإسلامي غالبية واضحة فيها،أصبحت مصر محطة الانتظار للمراقبين، وساحة جدل كبرى، وعتبة تحول لمستقبل قادم .
تجربة الثورة اثبت أن محاولات التشويه والعزل التي مورست ضد التيار الإسلامي السياسي في محاولة عالمية لعزله، وإبقائه خارج اللعبة لم تفلح بتاتا في إطفاء شعلة الوقود الحقيقية التي تلتف حولها الشعوب، فالقراءات الواقعية تقول : إن الاتجاه الإسلامي في مصر يمثل غالبية حقيقية ولن تستطيع باقي الأحزاب مجتمعة أن تنافس هذا التيار، بل إن نتيجة الانتخابات في تونس أكدت أن ظاهرة التفوق للتيار الإسلامي ليست مقتصرة على مصر وحدها، بل تنجرد على كامل الجغرافية العربية، وان الإسلاميين هم الأغلبية في أي انتخابات شفافة وحقيقية.
وهذا يعني أن قضية الشرق الإسلامي القادم منوطة بتمكين الانتخابات من أن تجري بديمقراطية وشفافية ؛فخيارات الشعوب واضحة، فإذا ما تمت العملية الانتخابية بسلام فالنتيجة شبه الحتمية تقول: المستقبل السياسي القريب لمنظومة قيم إسلامية .
لكن هل سيسمح العالم بهذا الاختراق النوعي الرهيب ؟ وهل فعلا يوجد في الأدراج الغربية سيناريوهات للتعامل مع هذا الخطر؟ وهل لنا أن نقول إن الغرب لم ينم، وأن أصابعه الخفية ما زالت تعبث بتفاصيل الحِراكات السياسية في المنطقة؟
وان كنا قد أسلمنا أن الغرب لن يدع العجلة تسير إلى الأمام بسهولة وان عصيا كثيرة قد وضعت في دواليب التشكل السياسي الجديد، فاين نجد تلك المعوقات وكيف نقراها وما سبل التعامل معها؟ وهل سيفلح الغرب في مطامعه ؟ آم أن القافلة نجت، ووصلت إلى شط امن، وشبت الشعوب الثائرة عن الطوق، وان الماضي ماض لا عودة له، وان العالم اليوم لن يشبه العالم أمس ؟
لا بد لكل تحليل سياسي آن يرصد الحالة العالمية المحيطة بالتغيرات الإقليمية ؛ فموازين القوى التي كانت تحكم المنطقة، وتسيطر على مفردات اللعبة السياسية- ضمن إطار تحالفي كبير تقوده أمريكيا وتلعب دور الأفعى فيه إسرائيل - قد اختل وكاد أن يتهاوى، ونظام القطب الواحد في السيطرة ضمن مفاهيم العولمة وغيرها لم يعد واقعيا، والحروب الاستباقية والتدخلات العسكرية المتتالية والتدخل في تشكيل جغرافية المنطقة بإرادة أمريكية لم يعد ممكنا بعد حربين فاشلتين، وصعود قوى إقليمية في المنطقة ( إيران- تركيا)..
صحيح أن حلف (الناتو) قد عمل بشكل مباشر في حسم خيارات الثورة العسكرية في ليبيا، وكانت له مأرب في هذا، تتساقط معها النوايا الحسنة، لكن ليبيا اليوم ليست كالعراق، والتواجد الأمريكي فيها ليس حاسما، ويمكن للثورة أن تعيد علاقاتها مع الأمريكان بما لا يسمح باستغلال الثورة وحرفها.

واقعية الشرق الإسلامي الجديد
لا شك أن مفهوم الشرق الإسلامي الجديد لا يمكن تحققه إلا بتحقق واقع حضاري إسلامي يزيل اثأر الهيمنة، ويعيد للأمة هويتها، هذا المفهوم الواسع لأسلمة المنطقة سياسيا لا يتحقق بمجرد مشاركة أحزاب في واقع سياسي بديل وغير مستقل.
هذا المشروع الإسلامي يمثل بديلا حقيقيا لواقع كاد أن يصل إلى ذروته في التغريب والتهويد حينما رسمت أمريكا معالم المنطقة وفق إستراتيجية واضحة ن تفرغ المنطقة من هويتها، وتديرها بإرادة غربية، يكون للصهاينة اليد العليا.
ومن هنا، فإن هذا المشروع لن يتحقق إلا بثلاث ركائز أساسية:
• تمكين للمشروع الإسلامي.
• إنهاء الهيمنة الأمريكية.
• السعي الجاد لإنهاء الاحتلال الصهيوني في المنطقة.
فالخطاب الإسلامي الداعي لإقامة دولة ذات صبغة إسلامية، يحتاج إلى تفعيل أدواته تفعيلا يمكنه من تحقيق أهدافه، ذلك أن التحديات الاقتصادية والفكرية والسياسية ليست هينة، وميدان القول غير ميدان العمل،ونحن هنا لا نقلل من قدرة الإسلاميين على إدارة ما بعد الحكم، لكننا نشير إلى أهمية الأخذ بالأسباب وتفويت الفرصة أمام المتربصين .
ولعل هذا يقودنا إلى النقطة الثانية، وهي التخلص من الهيمنة الأمريكية التي ضربت جذورها في جغرافيا المنطقة وأصبحت سياسات المنطقة تدور في فلكها .ولا يعني هذا فتح جبهة شاملة مع أمريكيا والغرب ولكن بناء إستراتيجية مواجهة تحفظ للمنطقة استقلاليتها. بل لا بد من ة استراتيجيات كبرى تعيد توظيف كافة الطاقات المتوفرة ووصولا إلى الاستقلال الحقيقي المطلوب ؛ ذلك أن استقلال المنطقة سياسيا واقتصاديا يمكن الفكر أن يتجذر في الشعوب ويصبح سندا لتحقق الأهداف المرجوة .
أما قضية الاحتلال فهي الشوكة المزعجة، التي لا يمكن تركها ن والسرطا ن المستشري الواجب استئصاله، وما لم تتنبه الأمة إلى حقيقة خطره، وتستعد لمواجهة شاملة تؤدي لقلعه، فإنها ستبقى في الدائرة الضيقة، ولن تستطيع الأمة أن تستقر سياسيا وتبني مشروعها ما دام هذا السرطان جائما على صدرها، ومتربعا في أقدس مكان بعد مكة والمدينة يهوده ويدنسه .


الكاتب: د. رمضان عمر
التاريخ: 30/03/2012