فلسفة في المرض

 

المرض!!نعم المرض !!
من منا لم تنغص أغشية أذنيه هذه الكريمة الكريهة؟فتعوذ بالله من شر وقعها، وربما تفل عن يساره ثلاثاً...
كلمة ارتبط ذكرها بالدواء الذي يكسر الظهور، والطبيب الذي ينهك الجيوب...والجراثيم المجهرية التي تفتك بالأجسام....
كلمة ربما انتهت بصاحبها إلى ما تحت التراب!!
لفظة طالما لازمت الشيخ الهرم فأقعدته حتى عن العبادة،وكفت لسانه حتى عن أقل الكلمات....
فهل لهذه الكلمة غير هذه الفلسفة الأليمة...
ربما يكون لها غير ذلك..في عصر الحرية،والديمقراطية...
«لا تتمنوا لقاء العدو ولكن سلوا الله العافية» حديث عظيم نجله ونحترمه، ولكن ماذا لو حُم القضاء ووقع اللقاء؟؟مع ذاك العدو،أفلا يكون لنا معه مواقف وحوادث؟؟
كذلك هي فلسفتي مع المرض...
فمن يؤمن بحرية التعبير فليستمع لهذه الفلسفة...
في المرض تتحطم القيود الجسدية،وتتكسر أغلالها...لتغدو أبواباً مفتوحة على عالم الروح...لا يقوى الجسم على استقبال المؤثرات فتنهض الروح بتلك المهمة...والروح لها فلسفتها ولها لغتها....لغة لا يفقها إلا من له نصيب من ذاك السر العجيب....
في المرض تتحطم المسافات بين الأزمنة، فيغدو الحاضر ماضياً، والماضي مستقبلاً...
المرض صراع وجودي ـ لا كما يقول الأطباء بين الجسم والجراثيم غير المرئيةـ ولكنه صراع بين الجسد الفاني والروح الباقية...لينتصر الفاني على الباقي في نهاية المطاف...
إنه فترة هربت من عالم الموت، ودخلت في عالم الحياة...يحق لكم أن تتعجبوا فليس منا من رأى الموت...لكننا رأينا ما يشبهه،ويجوز قياس الشبيه على أخيه....
أقول : دخلت في عالم الحياة ....يرى المؤمن فيها اتصالاً بعالم الآخرة...حيث تتكسر كل القيم المادية، فلا المال ينفع...ولا الجاه يفيد...ولا السلطان له سلطان....
يرى المؤمن فيها أنه أقرب ما يكون من ربه...لأنه تخلص من سيطرة جسده الذي أبعده عن عذوبة المناجاة....فتراه ينادي من أعماق قلبه : ياالله!...يالله!! وهو على علم بأن الله يسمعه ويراه،كعلمه بما يعتريه الساعة من ألم....بعد أن كان قبلاً يناديه وهو في أعماقه غافل عنه...
عندما يشتد الألم ....تتفجر الموهبة...فترى الشاعر ينظم أعذب الكلام...وأصفاه حتى لكأنه من خمر الجنة...وترى الرّسام يبدع أجمل اللوحات...لأن الروح هي من تنظم وترسم...وإن شئت فاقرأ قصيدة المتنبي في مرضه تجد فيها الجواب.
في المرض تحس أنك في عالم بين عالم البرزخ والحياة...وأنك أقرب إلى الأول...فتعفو عمن ظلمك،وتغفر لمن أساء إليك،وتطلب العفو ممن جرتَ عليه، وترد الحق إلى صاحبه....
لكن الجسد يكره كل هذه الفضائل فهو يخشى شدة النزع التي تذكره بألم الفراق بين العاشق والمعشوق عند سكرات الموت...أقصد بين الروح والجسد...
لكن رغم كل ذلك يحن المرء إلى عالم التراب ويدعو ربه أن يعيده بأسرع وقت إليه....لأنه إنسان لا يحتمل عالم النور الذي لم يخلق منه....
ألا تراه عندما يكون مريضاً لا يكلم الناس إلا لماماً...لأنه في عالم غير عالمهم ...فإذا عاد إلى عالمه الأول عاد إلى التحدث إليهم...وإن انتصرت الروح في هذا الصراع وجذبته إليها انقطع عن كلامهم حتى يغدون مثله أرواحاً....
ما أحببت المرض يوماً ...وما أحبه أحد...لكن هذه فلسفتي معه بعد أن طاف بروحي أياماً في ذاك العالم الغريب.


الكاتب: أحمد الستاتي
التاريخ: 26/04/2012